كيف يصطنع عبد الكبير الخطيبي مسرحا
من جسد الإنسان وفكره ؟!..
.. لأننا نخشى مصادرة خطوط هروبية سعت لشق الجدار والإعلاء من قدر البشر، مستشرفة مسرحا كونيا، عوض النبش في جذور- مهما تعمقت لن تتعدى موطئ القدم –
.. سيكون من التجني الإقرار بأن المسرح في المغرب يخضع فقط لإكراهات الفودفيلVaudeville
، أو لخط ارتدادي ساع لاستعادة ماض مضمحل لن يعود أبدا..
هناك مبدعون استشرفت كتاباتهم للمسرح أفقا كونيا، إيمانهم أن المسرح كله واحد: عمقه الإنسان و مادته الحياة. من أجل التوافق مثلما من أجل البقاء، ثمة وعي كوني تتقاطع عنده نفس التجارب في التعبير. ليست مسارح العالم – التي هي في العمق مسرح للإنسان – ظواهر من اللاتشابهات، بقدر ما هي ظواهر من الاستيلاءات المتبادلة. مع هؤلاء المارقين، لم نعد بصدد الإشكال العتيق:
ما الذي يجعل مسرحنا العربي متميزا و مختلفا عن مسارح الآخرين، ويمنحه خصوصيته؟..
و إنما صرنا مجبولين على مجابهة قدر آخر جديد:
كيف نبدع مسرحا كونيا ينطلق من الإنسان ليخاطب فينا الإنسان؟ .. ينصهر و يتقاطع مع مسارح الآخرين؟.. يتجاوب معهم و يتداول بينهم؟..
إذن:
– أينتهي التفكير في الظاهرة المسرحية –في نهاية المطاف إلى حتمية الالتحام بالآخرين..السفر نحوهم و الاقتناص منهم، حتى نتصالح مع ذواتنا أولا؟!!..
(الاعتراف بالكوني الشامل هو في الواقع التصالح مع الذات./ عبد الله العروي)
*
* *
المسرح فن السفر..قدره الترحال. تضمحل الحدود التي منها ينطلق أو إليها يصل. المسرح صيرورة Devenir، لا تحتويه ثقافة أو حياة بعينها.. المسرح يحيا و يتنفس متحررا من إعاقاته كلما تحرر من أغلال اجترار المحاولات اليائسة لإحياء فلكلور ماضوي، فقد مسوغات الاستمرار في الحاضر.
– كيف نصطنع مسرحا من جسد الإنسان و فكره؟
في مسرح الكون، يلتقي الإنسان و الحيوان في صيرورات متعددة. فهناك صيرورة الإنسان للخرتيت و لا تعني إطلاقا تقليد أحدهما للآخر. كلاهما داخل مسار موطني مشترك: الخرتيت لا يملك أن يلتفت وراءه و مثله الإنسان، قدره ألا يلتفت ناظرا خلفه.. يسير فقط إلى الأمام وهو يتألم، وإذا توقف محدقا وراءه، يسقط و يموت.
ينسحب ذلك على ذوات مركزية متضخمة حاولت نزع عباءة التأصيل لتجعل مسرحها لحمة من مسرح الكون، و لكنها سرعان ما ارتاعت من ذلك بعدما اكتشفت أنه مدمر للذات، يشعر بالرعب من فقدان الوجه. فاقترفت خطيئة الحنين إلى الماضي التي لا يغتفرها قانون القدر المأساوي. الطيب الصديقي في المغرب مثلا، من الأمثلة الأكثر إثارة.. جرب التحول نحو مسرح الكون في تسعينات القرن المنصرم، مؤلفا: (خلقنا لنتفاهم-1991)، ثم (موليير أو من أجل حب الإنسانية- 1994)، و لنلحظ جيدا دلالة العنوانين!!، غير أنه سرعان ما ارتد عن خطه الهروبي معاودا يوطوبياته القديمة في محاولة يائسة و لاجدوى منها لإحياء شكل البساط التقليدي!!.. لقد ارتاع من تدمير و انمحاء الذات، فكان ضروريا أن ينتهي مسرحه إلى الممات!!..
– هل الخصوصية و الهوية ترتبطان بالضرورة بهذا الفهم الماضوي للتأصيل واستعادة جذور ما، أو إحياء شكل فلكلوري فقد مسوغات وجوده؟
– هل كان للمسرح التونسي أن يؤسس هويته الحديثة على يد الفاضل اجعايبي وجليلة بكار و توفيق الجبالي و محمد ادريس و سليم الصنهاجي و رجاء بن عمار والمنصف الصايم و عزالدين جنون… لولا قيمة فقدان الشعور بالفلكلور؟
*
* *
خط الهروب يشقه غالبا أولئك الذين لا يستطيع تاريخ الفن أن يصنفهم، ويعمد المؤرخون إلى تهميش أعمالهم و كنسها في سلة مهملات التاريخ، غير أن صيرورة التاريخ تنصفهم. ذلك حال مسرحيات كاتب ياسين و نبيل لحلو و عبد الكبير الخطيبي و عبد اللطيف اللعبي و يوسف فاضل..، التي تتنفس بصعوبة بالغة بين نصوص و أعمال أخرى مركزية.. نصوصهم تعيش على هامش تاريخ المسرح العربي، لأنها تدشن خط هروب نحو مسرح الكون، و تفض بكارة الوعي الإنساني، و تحرض على البحث عن الجمال الطبيعي..
إنها تدفع بالمسرح إلى تذكر الحاضر باستمرار: (السلاحف)، (أوفيليا لم تمت)، (قاضي الظل)، (أعبر غابة سوداء)، (الإمبراطور شريشماتوري)، (محادثات حمقى)، (النبي المقنع)، (الأجداد يزدادون ضراوة)، (دروس في التسامح)، (أولاد البلاد). كلها مسرحيات ألفت و نشرت بالفرنسية.. تداولها القراء و الجمهور بشتى ثقافاتهم و جنسياتهم و لغاتهم..، لم تسع لأن تكون بنيات منغلقة و مصبرة..، على العكس، كانت ذات نزوع نحو الترحال: من العربية إلى الفرنسية، ومن قاعات المغرب إلى مسارح أوروبا و العالم.. ترحال من القنوات العربية نحو شاشات أوروبا و راديو فرنسا.. ترحال داخل اللغة الفرنسية ذاتها. كتب هؤلاء أعمالهم بلسان أجنبي متلعثم، كانوا أجنبيين داخل اللسان الواحد.. اخترقوا مسالك الفرنسية و ممراتها.. حققوا ازدواجية اللسان. يتعلق الأمر بروائع: عربية/ مشرقية/ غربية/ إنسانية..، قابلة للتداول الكوني و اختراق الزمن، لأن الغاية الوحيدة التي نسجتها هي الحياة.. بتداولها تحقق البهجة للجميع..تحقق البهاء.
*
* *
يقدم عبد الكبير الخطيبي مسرحيته (النبي المقنع) 1، ببرولوج يستهله بقوله:
(هذه المسرحية تفسير حر للقصة العجيبة التي كان بطلها حكيم بن هشام الملقب بالمقنع.التي جرت أحداثها في القرن الثامن الميلادي حول هذا المتنبئ) 2.
الخطيبي يقيم علاقة حرة مع الماضي..مرحة و عاشقة، بتمثله و ممارسته و تأويله.. التأويل هنا ليس سوى رسم خرائطية: أي تجريب أشكال جديدة للأفكار القديمة، تصبح معها موجزة و بسيطة، تعتمد في رقيها و انكفائها على الفقدان و التخلي.. الذوبان والتواري. الماضي بذلك يصير فقاعات تظهر لتتلاشى مخلفة ورائها رائحة الصابون العطرة. هكذا، يرسم الخطيبي طريقا و يبنيه، معتمدا المراجع العربية و الفارسية..مازجا إياها بفلسفة خورخي بورخيس Jorge Borges حول الزمن و المرايا و الأبوة.. عاجنا كل ذلك بمياه لغة جيمس جويس James Joyce الهيروغليفية، حيث السمة الغالبة هي افتقاد الشكل..محصلا في الأخير قصيدة شعر بكل اللغات، أودعها (كل ما كان يمكن للإنسان أن يكونه..أي شاعر يتغنى بجسده المرئي و هو علامة من بين العلامات التي يحفل بها مسرح الكون.) 3
(النبي المقنع)، تمتاز بالتسامي و البهاء- بالروعة..تقول كل شيء دون أن تقول شيئا.. تنتج خطابا شرقيا لكنه مفتقد لسحر الشرق – خطابا ينتج الشرق و لا يبهر الغرب بالشرق المزعوم. ينظم الخطيبي تفاصيل مسرحيته بشكل يتبدى أفقيا / خطيا، لكنه حلزوني في امتداداته من الشرق نحو الغرب، مرتدا نحو الطول فالعرض.. تنمحي كل التفاصيل و الخصوصيات الخارجية، فاسحة المجال للصيرورات.. يوظف الخطيبي المسرح لهذا الغرض، لضمان شرط التعالي..المسرح لهذا حي لن يموت..
وهكذا.. (فالمسرح لم يمت أبدا لأنه يقوم أساسا على قانون القدر المأساوي..ويرفع من قدر الإنسان ليصل إلى اللعبة الكبرى على مسرح الكون)4.. المسرح حي لن يموت لأنه ممر إلزامي (كي نفهم الفكر المتجول لعالم الإنسان و ندرك الرموز المحفورة في الحيوان المكتوب) 5:
(-النبي: إن جسدي ينمو بلا توقف، هكذا أستطيع الاندماج مع الفضاء دون أن أحطمه..متى
تستوحون إيقاعكم واتزانكم) 6
يحلو لنا أن ننخرط إجباريا في لعبة مسرح الكون، كلما أدركنا الهلع الذي نستشعره عندما نجرب البحث عن حدود.. آنذاك، نتضاءل و نتلاشى- لا محل لحنين لغوي.. لا حنين إلا لما قبل-اللغة.
*
* *
– النبي صيرورة!..ماذا يعني ذلك؟
لا يبالغ الخطيبي في الاحتفاء بالجوانب الإنسانية و التاريخية.. الماضي و المستقبل.. إنه يزاول الصيرورة. هناك صيرورة المتبئ، وليس تاريخه.. إنه رحالة، لا يتوفر على ماض أو مستقبل.. خرائط تكثيفات جغرافية- ذهنية.. فزياء في حركة.. إحساس بالفراغ، ولاجدوى الحياة الفانية.. علامات إباحية.. لاينتهي إلا إلى التدمير و انهيار الجسد:
(يصب النبي السم في كل كأس..) 7
(النبي ربط بحبل من ظهره، يصعد ببطء نحو السقف) 8
تناوله السم و اختفاءه في الأخير هو نوع من الهروب.. وضع حد للماضي.. نهاية هذا المتنبئ مخترقة بمجرى مظلم من التدمير و التهديم يجرفان بصاحبه.. لكن:
– أيتعلق الأمر بموت سعيد؟!..
يثير الخطيبي نوعا من القدر المأساوي الإغريقي من أجل هذا النبي المقنع.. هروبه هذا بمثابة هذيان:
(-النبي: أما أنا نبي الأنبياء فأقول: إنني رفعت إلى السماء- صمت- فالفضاء وهم شأنه شأن الزمان) 9
النبي تحاصره جيوش الخليفة، فيذوب وينحل و يختفي. ذلك لأنه خان ماضيه، وحول وجهه عن الإله و الإنسان، فإن جثته ظلت مرفوضة ولم تقبلها الأرض أو السماء.. النبي قام بمغادرة موطنية للإله و الإنسان معا..إنه تاريخ هابيل و يونس و خطهما الهروبي.. المتنبئ يستحضر موته عبر أخذه الاتجاه المعاكس للاتجاه الذي يأمر به الإله، وهنا يحقق الوجود الإلهي بشكل أفضل من الخضوع له./ جيل دولوز Gilles Deleuze
-النبي..ألا تدركون أن آيتي برق، أيها الأشقياء! لدي برهان خلودي.آسفا.
وا حسرتاه، لابد أن أصبح إلها مرة أخرى كي لا ينهار العالم.) 10
النبي خائن لأنه كائن مجرب..لا تجريب بلا خيانة..إنه خائن و ليس غشاشا كالحاكم والكاهن، أو الراهب و القاضي و الجنرال.. هؤلاء غشاشون، لأنهم يدعون امتلاك مادة ثابتة و نظام مغلق، ومن ثم عادة ما يكون مستقبلهم زاهرا!..
النبي خائن، وأهم مظاهر خيانته فقدانه الصلة بوجهه. لقد جرب عليه فمسحه..مرض الجذري الذي نبتت فيه، البرص و البثور العميقة التي نحتت فيه الأخاديد و شوهته، جعلته منتوجا لنسقه. لم يكن النبي كالمسيح الذي ابتكر الوجوه الصافية من تلك التي مسخها البرص، وإنما غطى وجهه المعدي بقناع من الذهب، تاركا خلفه عالما غير مكتشف..عالم المستقبل الذي ينمحي فيه المنطق. تتم دائما رؤية السر فوق الوجه و داخل العينين، و لأجل ألا يكتشف سره أحد، اختار أن يفقد وجهه..:
– النبي.. بنو البشر لا يرون وجهي. انظروا يدي، انظروا حركاتي تنبئكم أكثر من أي إدراك مقيت) 11
*
* *
عبد الكبير الخطيبي كغيره من كتاب مسرح الكون، لا يؤمن بمسرح يغير العالم و يقوم بالثورة-لأنه ما من جدوى-!.. لا يؤمن بالطلائعية أو المسرح الشعبي للجميع..، لا يؤمن بالمسرح الذي يعيد تمثيل الصراعات: صراعات الفرد و المجتمع، صراعات الحياة و التاريخ.. لذلك، فبناء الصورة الدقيقة عبارة خادعة و رديئة إذا قابلناها بمسرحية (النبي المقنع). ليس المطلوب بتاتا صورة صادقة للمتنبئ حكيم بن هشام، وإنما صورة فقط..تفسير حر..بحث عن أفكار ثم الالتقاء معها.لأجل ذلك، لم يسطح الخطيبي خطاب نبيه في صوت واحد ووحيد، وإنما عمد إلى تشذيره عبر ثلاثة مستويات:
(ملاحظة هامة جدا: يصل صوت النبي على ثلاثة مستويات:
– الصوت الأول عندما يتحدث النبي كسائر البشر.
– الصوت الثاني من الخارج.
– الصوت الثالث صدى من الخارج.
الصوتان الثاني و الثالث يسمعان في حضور النبي أو في غيابه، مما يتطلب تسجيلا دقيقا على شرائط) 12
إن تشدير أصوات النبي، استعمال ذكي لعزلته.ليست أصواته المتجاورة تجميعا، و إنما تلعثم وربط خطوط منكسرة و متكسرة..هروبية..بسيطة و مبدعة في آن..تؤلف بين اللامتجانسات، كما تحتفظ بطعم الاحتماليات.. يفاجئنا النبي وهو حاضر معنا بأصوات آتية من مكان آخر سحيق، تلتقي معه كعلامات..هذا المتنبئ يوحي لنفسه قبل غيره..يصدق نفسه قبل أن يصدقه الآخرون، ويهزأ بنبوته و يشكك فيها قبل غيره!!:
– النبي.. أعلم أن العرش المنيع سيأتي يوما، سأكون في العلياء غير ثمل!!.. سأكون عظيما و جميلا، أما هذه المخلوقات..
– يتدارك نفسه و يضحك ضحكة عالية- ) 13
النبي المقنع، صحراء تلتقي مع الصحراء..معمرة من القبائل و الرحل و الحيوانات، يعيد الخطيبي ترتيبها من جديد.. داخل هذا المتنبئ روديو متوحش يعمل ضد ذاته.. يجرب على هويته فيمسح وجهه المسكون بالجذري، الذي يجعل منه معتقدات منخطفة و معدية..
– ألم يخلف وراءه قبل رحيله رقه المسمى(الوردة المكنونة)؟
.. سلالته إذن، ما تزال تتنقل وتسري من صعيد لآخر، محملة بعدوى التشقق و التشوه..حذار:
– ألم يعد هذا النبي عبد الكبيرالخطيبي و كل كتاب مسرح الكون؟
– وقبلهم جميعا، ألم يعد خورخي بورخيس الذي ألف (الوردة المكنونة)، زاعما
أنه من سلالة هذا النبي المقنع؟
صاح نيتشه ملء فاه:
( أنا لست إنسانا.. أنا ديناميت)
——————————
د. يوسف الريحاني*
من جسد الإنسان وفكره ؟!..
.. لأننا نخشى مصادرة خطوط هروبية سعت لشق الجدار والإعلاء من قدر البشر، مستشرفة مسرحا كونيا، عوض النبش في جذور- مهما تعمقت لن تتعدى موطئ القدم –
.. سيكون من التجني الإقرار بأن المسرح في المغرب يخضع فقط لإكراهات الفودفيلVaudeville
، أو لخط ارتدادي ساع لاستعادة ماض مضمحل لن يعود أبدا..
هناك مبدعون استشرفت كتاباتهم للمسرح أفقا كونيا، إيمانهم أن المسرح كله واحد: عمقه الإنسان و مادته الحياة. من أجل التوافق مثلما من أجل البقاء، ثمة وعي كوني تتقاطع عنده نفس التجارب في التعبير. ليست مسارح العالم – التي هي في العمق مسرح للإنسان – ظواهر من اللاتشابهات، بقدر ما هي ظواهر من الاستيلاءات المتبادلة. مع هؤلاء المارقين، لم نعد بصدد الإشكال العتيق:
ما الذي يجعل مسرحنا العربي متميزا و مختلفا عن مسارح الآخرين، ويمنحه خصوصيته؟..
و إنما صرنا مجبولين على مجابهة قدر آخر جديد:
كيف نبدع مسرحا كونيا ينطلق من الإنسان ليخاطب فينا الإنسان؟ .. ينصهر و يتقاطع مع مسارح الآخرين؟.. يتجاوب معهم و يتداول بينهم؟..
إذن:
– أينتهي التفكير في الظاهرة المسرحية –في نهاية المطاف إلى حتمية الالتحام بالآخرين..السفر نحوهم و الاقتناص منهم، حتى نتصالح مع ذواتنا أولا؟!!..
(الاعتراف بالكوني الشامل هو في الواقع التصالح مع الذات./ عبد الله العروي)
*
* *
المسرح فن السفر..قدره الترحال. تضمحل الحدود التي منها ينطلق أو إليها يصل. المسرح صيرورة Devenir، لا تحتويه ثقافة أو حياة بعينها.. المسرح يحيا و يتنفس متحررا من إعاقاته كلما تحرر من أغلال اجترار المحاولات اليائسة لإحياء فلكلور ماضوي، فقد مسوغات الاستمرار في الحاضر.
– كيف نصطنع مسرحا من جسد الإنسان و فكره؟
في مسرح الكون، يلتقي الإنسان و الحيوان في صيرورات متعددة. فهناك صيرورة الإنسان للخرتيت و لا تعني إطلاقا تقليد أحدهما للآخر. كلاهما داخل مسار موطني مشترك: الخرتيت لا يملك أن يلتفت وراءه و مثله الإنسان، قدره ألا يلتفت ناظرا خلفه.. يسير فقط إلى الأمام وهو يتألم، وإذا توقف محدقا وراءه، يسقط و يموت.
ينسحب ذلك على ذوات مركزية متضخمة حاولت نزع عباءة التأصيل لتجعل مسرحها لحمة من مسرح الكون، و لكنها سرعان ما ارتاعت من ذلك بعدما اكتشفت أنه مدمر للذات، يشعر بالرعب من فقدان الوجه. فاقترفت خطيئة الحنين إلى الماضي التي لا يغتفرها قانون القدر المأساوي. الطيب الصديقي في المغرب مثلا، من الأمثلة الأكثر إثارة.. جرب التحول نحو مسرح الكون في تسعينات القرن المنصرم، مؤلفا: (خلقنا لنتفاهم-1991)، ثم (موليير أو من أجل حب الإنسانية- 1994)، و لنلحظ جيدا دلالة العنوانين!!، غير أنه سرعان ما ارتد عن خطه الهروبي معاودا يوطوبياته القديمة في محاولة يائسة و لاجدوى منها لإحياء شكل البساط التقليدي!!.. لقد ارتاع من تدمير و انمحاء الذات، فكان ضروريا أن ينتهي مسرحه إلى الممات!!..
– هل الخصوصية و الهوية ترتبطان بالضرورة بهذا الفهم الماضوي للتأصيل واستعادة جذور ما، أو إحياء شكل فلكلوري فقد مسوغات وجوده؟
– هل كان للمسرح التونسي أن يؤسس هويته الحديثة على يد الفاضل اجعايبي وجليلة بكار و توفيق الجبالي و محمد ادريس و سليم الصنهاجي و رجاء بن عمار والمنصف الصايم و عزالدين جنون… لولا قيمة فقدان الشعور بالفلكلور؟
*
* *
خط الهروب يشقه غالبا أولئك الذين لا يستطيع تاريخ الفن أن يصنفهم، ويعمد المؤرخون إلى تهميش أعمالهم و كنسها في سلة مهملات التاريخ، غير أن صيرورة التاريخ تنصفهم. ذلك حال مسرحيات كاتب ياسين و نبيل لحلو و عبد الكبير الخطيبي و عبد اللطيف اللعبي و يوسف فاضل..، التي تتنفس بصعوبة بالغة بين نصوص و أعمال أخرى مركزية.. نصوصهم تعيش على هامش تاريخ المسرح العربي، لأنها تدشن خط هروب نحو مسرح الكون، و تفض بكارة الوعي الإنساني، و تحرض على البحث عن الجمال الطبيعي..
إنها تدفع بالمسرح إلى تذكر الحاضر باستمرار: (السلاحف)، (أوفيليا لم تمت)، (قاضي الظل)، (أعبر غابة سوداء)، (الإمبراطور شريشماتوري)، (محادثات حمقى)، (النبي المقنع)، (الأجداد يزدادون ضراوة)، (دروس في التسامح)، (أولاد البلاد). كلها مسرحيات ألفت و نشرت بالفرنسية.. تداولها القراء و الجمهور بشتى ثقافاتهم و جنسياتهم و لغاتهم..، لم تسع لأن تكون بنيات منغلقة و مصبرة..، على العكس، كانت ذات نزوع نحو الترحال: من العربية إلى الفرنسية، ومن قاعات المغرب إلى مسارح أوروبا و العالم.. ترحال من القنوات العربية نحو شاشات أوروبا و راديو فرنسا.. ترحال داخل اللغة الفرنسية ذاتها. كتب هؤلاء أعمالهم بلسان أجنبي متلعثم، كانوا أجنبيين داخل اللسان الواحد.. اخترقوا مسالك الفرنسية و ممراتها.. حققوا ازدواجية اللسان. يتعلق الأمر بروائع: عربية/ مشرقية/ غربية/ إنسانية..، قابلة للتداول الكوني و اختراق الزمن، لأن الغاية الوحيدة التي نسجتها هي الحياة.. بتداولها تحقق البهجة للجميع..تحقق البهاء.
*
* *
يقدم عبد الكبير الخطيبي مسرحيته (النبي المقنع) 1، ببرولوج يستهله بقوله:
(هذه المسرحية تفسير حر للقصة العجيبة التي كان بطلها حكيم بن هشام الملقب بالمقنع.التي جرت أحداثها في القرن الثامن الميلادي حول هذا المتنبئ) 2.
الخطيبي يقيم علاقة حرة مع الماضي..مرحة و عاشقة، بتمثله و ممارسته و تأويله.. التأويل هنا ليس سوى رسم خرائطية: أي تجريب أشكال جديدة للأفكار القديمة، تصبح معها موجزة و بسيطة، تعتمد في رقيها و انكفائها على الفقدان و التخلي.. الذوبان والتواري. الماضي بذلك يصير فقاعات تظهر لتتلاشى مخلفة ورائها رائحة الصابون العطرة. هكذا، يرسم الخطيبي طريقا و يبنيه، معتمدا المراجع العربية و الفارسية..مازجا إياها بفلسفة خورخي بورخيس Jorge Borges حول الزمن و المرايا و الأبوة.. عاجنا كل ذلك بمياه لغة جيمس جويس James Joyce الهيروغليفية، حيث السمة الغالبة هي افتقاد الشكل..محصلا في الأخير قصيدة شعر بكل اللغات، أودعها (كل ما كان يمكن للإنسان أن يكونه..أي شاعر يتغنى بجسده المرئي و هو علامة من بين العلامات التي يحفل بها مسرح الكون.) 3
(النبي المقنع)، تمتاز بالتسامي و البهاء- بالروعة..تقول كل شيء دون أن تقول شيئا.. تنتج خطابا شرقيا لكنه مفتقد لسحر الشرق – خطابا ينتج الشرق و لا يبهر الغرب بالشرق المزعوم. ينظم الخطيبي تفاصيل مسرحيته بشكل يتبدى أفقيا / خطيا، لكنه حلزوني في امتداداته من الشرق نحو الغرب، مرتدا نحو الطول فالعرض.. تنمحي كل التفاصيل و الخصوصيات الخارجية، فاسحة المجال للصيرورات.. يوظف الخطيبي المسرح لهذا الغرض، لضمان شرط التعالي..المسرح لهذا حي لن يموت..
وهكذا.. (فالمسرح لم يمت أبدا لأنه يقوم أساسا على قانون القدر المأساوي..ويرفع من قدر الإنسان ليصل إلى اللعبة الكبرى على مسرح الكون)4.. المسرح حي لن يموت لأنه ممر إلزامي (كي نفهم الفكر المتجول لعالم الإنسان و ندرك الرموز المحفورة في الحيوان المكتوب) 5:
(-النبي: إن جسدي ينمو بلا توقف، هكذا أستطيع الاندماج مع الفضاء دون أن أحطمه..متى
تستوحون إيقاعكم واتزانكم) 6
يحلو لنا أن ننخرط إجباريا في لعبة مسرح الكون، كلما أدركنا الهلع الذي نستشعره عندما نجرب البحث عن حدود.. آنذاك، نتضاءل و نتلاشى- لا محل لحنين لغوي.. لا حنين إلا لما قبل-اللغة.
*
* *
– النبي صيرورة!..ماذا يعني ذلك؟
لا يبالغ الخطيبي في الاحتفاء بالجوانب الإنسانية و التاريخية.. الماضي و المستقبل.. إنه يزاول الصيرورة. هناك صيرورة المتبئ، وليس تاريخه.. إنه رحالة، لا يتوفر على ماض أو مستقبل.. خرائط تكثيفات جغرافية- ذهنية.. فزياء في حركة.. إحساس بالفراغ، ولاجدوى الحياة الفانية.. علامات إباحية.. لاينتهي إلا إلى التدمير و انهيار الجسد:
(يصب النبي السم في كل كأس..) 7
(النبي ربط بحبل من ظهره، يصعد ببطء نحو السقف) 8
تناوله السم و اختفاءه في الأخير هو نوع من الهروب.. وضع حد للماضي.. نهاية هذا المتنبئ مخترقة بمجرى مظلم من التدمير و التهديم يجرفان بصاحبه.. لكن:
– أيتعلق الأمر بموت سعيد؟!..
يثير الخطيبي نوعا من القدر المأساوي الإغريقي من أجل هذا النبي المقنع.. هروبه هذا بمثابة هذيان:
(-النبي: أما أنا نبي الأنبياء فأقول: إنني رفعت إلى السماء- صمت- فالفضاء وهم شأنه شأن الزمان) 9
النبي تحاصره جيوش الخليفة، فيذوب وينحل و يختفي. ذلك لأنه خان ماضيه، وحول وجهه عن الإله و الإنسان، فإن جثته ظلت مرفوضة ولم تقبلها الأرض أو السماء.. النبي قام بمغادرة موطنية للإله و الإنسان معا..إنه تاريخ هابيل و يونس و خطهما الهروبي.. المتنبئ يستحضر موته عبر أخذه الاتجاه المعاكس للاتجاه الذي يأمر به الإله، وهنا يحقق الوجود الإلهي بشكل أفضل من الخضوع له./ جيل دولوز Gilles Deleuze
-النبي..ألا تدركون أن آيتي برق، أيها الأشقياء! لدي برهان خلودي.آسفا.
وا حسرتاه، لابد أن أصبح إلها مرة أخرى كي لا ينهار العالم.) 10
النبي خائن لأنه كائن مجرب..لا تجريب بلا خيانة..إنه خائن و ليس غشاشا كالحاكم والكاهن، أو الراهب و القاضي و الجنرال.. هؤلاء غشاشون، لأنهم يدعون امتلاك مادة ثابتة و نظام مغلق، ومن ثم عادة ما يكون مستقبلهم زاهرا!..
النبي خائن، وأهم مظاهر خيانته فقدانه الصلة بوجهه. لقد جرب عليه فمسحه..مرض الجذري الذي نبتت فيه، البرص و البثور العميقة التي نحتت فيه الأخاديد و شوهته، جعلته منتوجا لنسقه. لم يكن النبي كالمسيح الذي ابتكر الوجوه الصافية من تلك التي مسخها البرص، وإنما غطى وجهه المعدي بقناع من الذهب، تاركا خلفه عالما غير مكتشف..عالم المستقبل الذي ينمحي فيه المنطق. تتم دائما رؤية السر فوق الوجه و داخل العينين، و لأجل ألا يكتشف سره أحد، اختار أن يفقد وجهه..:
– النبي.. بنو البشر لا يرون وجهي. انظروا يدي، انظروا حركاتي تنبئكم أكثر من أي إدراك مقيت) 11
*
* *
عبد الكبير الخطيبي كغيره من كتاب مسرح الكون، لا يؤمن بمسرح يغير العالم و يقوم بالثورة-لأنه ما من جدوى-!.. لا يؤمن بالطلائعية أو المسرح الشعبي للجميع..، لا يؤمن بالمسرح الذي يعيد تمثيل الصراعات: صراعات الفرد و المجتمع، صراعات الحياة و التاريخ.. لذلك، فبناء الصورة الدقيقة عبارة خادعة و رديئة إذا قابلناها بمسرحية (النبي المقنع). ليس المطلوب بتاتا صورة صادقة للمتنبئ حكيم بن هشام، وإنما صورة فقط..تفسير حر..بحث عن أفكار ثم الالتقاء معها.لأجل ذلك، لم يسطح الخطيبي خطاب نبيه في صوت واحد ووحيد، وإنما عمد إلى تشذيره عبر ثلاثة مستويات:
(ملاحظة هامة جدا: يصل صوت النبي على ثلاثة مستويات:
– الصوت الأول عندما يتحدث النبي كسائر البشر.
– الصوت الثاني من الخارج.
– الصوت الثالث صدى من الخارج.
الصوتان الثاني و الثالث يسمعان في حضور النبي أو في غيابه، مما يتطلب تسجيلا دقيقا على شرائط) 12
إن تشدير أصوات النبي، استعمال ذكي لعزلته.ليست أصواته المتجاورة تجميعا، و إنما تلعثم وربط خطوط منكسرة و متكسرة..هروبية..بسيطة و مبدعة في آن..تؤلف بين اللامتجانسات، كما تحتفظ بطعم الاحتماليات.. يفاجئنا النبي وهو حاضر معنا بأصوات آتية من مكان آخر سحيق، تلتقي معه كعلامات..هذا المتنبئ يوحي لنفسه قبل غيره..يصدق نفسه قبل أن يصدقه الآخرون، ويهزأ بنبوته و يشكك فيها قبل غيره!!:
– النبي.. أعلم أن العرش المنيع سيأتي يوما، سأكون في العلياء غير ثمل!!.. سأكون عظيما و جميلا، أما هذه المخلوقات..
– يتدارك نفسه و يضحك ضحكة عالية- ) 13
النبي المقنع، صحراء تلتقي مع الصحراء..معمرة من القبائل و الرحل و الحيوانات، يعيد الخطيبي ترتيبها من جديد.. داخل هذا المتنبئ روديو متوحش يعمل ضد ذاته.. يجرب على هويته فيمسح وجهه المسكون بالجذري، الذي يجعل منه معتقدات منخطفة و معدية..
– ألم يخلف وراءه قبل رحيله رقه المسمى(الوردة المكنونة)؟
.. سلالته إذن، ما تزال تتنقل وتسري من صعيد لآخر، محملة بعدوى التشقق و التشوه..حذار:
– ألم يعد هذا النبي عبد الكبيرالخطيبي و كل كتاب مسرح الكون؟
– وقبلهم جميعا، ألم يعد خورخي بورخيس الذي ألف (الوردة المكنونة)، زاعما
أنه من سلالة هذا النبي المقنع؟
صاح نيتشه ملء فاه:
( أنا لست إنسانا.. أنا ديناميت)
——————————
د. يوسف الريحاني*