سألتُ قسما من طلبة الأدب عن القاص والباحث الأكاديمي عمار بلحسن فحاروا جوابا وحرتُ أسفا.
.. – يا لقسوة الذاكرة المعطلة.!
كأن الأديب عمار بلحسن كان يدرك قصته القصيرة مع الزمن. قصته القصيرة مع العمر القصير 1953-1993 فقام بكل شيء بسرعة. بسرعة هادئة. بحيث لا توقظ العقربين اللذين يجرّان الوقتَ إلى حتفه وهما نائمان. يدوران داخل الساعة مثل ثورين حول البئر.
عمار بلحسن ذاك الشاب الذي جاء إلى وهران من امسيردة غربا، مسلحا بعصاميته ومعتزا بحريته. لا بد أن أشجار النخيل بساحات جامعة وهران السانيا مازالت تتذكره جيدا، فقد كانت قامته تشبهها بطولها ونحافتها. إلا أن رؤوسها العاليات لم تكن تطرح فاكهة التمر، أما عمار فقد كان خياله أكثر توغلا في السماء، فتمتلئ عراجينه بالقصص الجميلة، وبالأفكار، وبالتحليل السوسيولوجي الذكي للظواهر الاجتماعية و الثقافية.
لعله كان يعرف أن الوقت لعبة خطيرة، فكان عليه، وبسرعة مثل رياضي الباسكيتبول، أن يعتمد على قامته الفارهة، فيلتقط الكرة بسرعة، ثم يدسها في الشباك، ويسجل الهدف. عمار بلحسن سجل الهدف بجمال فكتب قصصا قصيرة خالدة وعميقة بلغته العربية الجميلة المخترقة باللهجة المسيردية، فاحتل بجدارة صف القصاصين الكبار من أمثال السوري زكريا تامر، أو المصري مجيد طوبيا، أو العراقي محمد خضر، أو الروسي تشيخوف، أو الفرنسي غي دوموباسون...
ممرات ساحات جامعة السانيا تحفظ أثر خطاه، وتتذكر سيره الهادئ وهو يشعل السيجارة تلو الأخرى ويفكر بصمت.. لا بد أن القاعة الكبرى للمحاضرات لا تزال تذكر صوته الهادئ خلال أمسية أدبية، وهو يقرأ قصة له غير هادئة، قصة (البحر).
يكتب عمار ويبدع دون أن يعتبر الكتابة مسألة احتراف، بل هواية تنسج بمتعة وهو القادم من تخصص آخر غير الأدب. هو الباحث في علم الاجتماع وهو أول من استحدث مقياس ( سوسيولوجيا الأدب) لدراسة الخطابات الاجتماعية، في علاقاتها بعملية القص والسرد الروائي، في إطار التناص والتمثل اللغوي والأيديولوجي والدلالي بين الحركات الاجتماعية الوطنية والإنتاج الأدبي، إلى جانب تحليل المتن الشعري العربي المعاصر، في علاقاته مع البنيات المختلفة المشكلة لسياقات المجتمع، وتحليل إشكاليات التحديث والكتابة.
استحدث عمار بلحسن مخبرا لسوسيولوجيا الأدب في وحدة البحث في الأنتروبولوجيا الثقافية والاجتماعية، داخل تأطير Urasc الذي كان يترأسه الباحث السوسيولوجي والموسيقي "نذير معروف"، و صدرت له عنه دفاتر مهمة. آنذاك كان المفكر الجزائري "جمال ڤريد " يعمل في تخصص ( سوسيولوجيا الثقافة) .
الوقت الضيق لعمار بلحسن كان مكثفا مثل سحابة سخية. من حظه الحسن أنه يُعدّ من تلامذة "سامي ناير"الباحث والأستاذ الجامعي والمفكر العالمي، وأحد المحيطين بفكر "لوكاتش" و"غولدمان".
عمار بلحسن الباحث العميق قاص مدهش أيضا ، وصل صوته القصصي قويا إلى العالم العربي، جاءتنا تجربته نشرا من العام العربي. وفِي الجزائر كان أول من حاز على جائزة القصص القصيرة التي كانت تنظمها وزارة التعليم العالي، وأول من حصل على جائزة وزارة المجاهدين بقصته الرائعة (الأصوات)، وهي من أجمل النصوص التي كتبت في القصة القصيرة في تاريخ القصة القصيرة المغاربية و العربية، وترجمت إلى الانجليزية والروسية ولغات أخرى.
وليس غريبا أن يصبح اسم عمار بلحسن محفورا في قاموس Larousse وإنه أول الداخلين إليه من جيل السبعينات .
عمار بلحسن هذا الذي خرج بالقصة القصيرة الجزائرية نحو العالم العربي، بدأ خطواته في النشر بمجلة ( البلاغ) حين كان لا يزال طالبا في مدرسة المعلمين بتلمسان، و لاحقا فِي ( فصول ) المصرية المحترمة ليأتي نشر مجموعته القصصية ( حرائق البحر ) في العراق لتكون بذلك أول مجموعة من جيل السبعينات تطبع في الخارج. وقد كتب عنها الكثيرون وبإعجاب ومنهم "محمد خضر" أكبر القصاصين العرب .
ذاك الوقت الضيق الذي كان بين يدي عمار في الحياة، قسّمه بالعدل، فكان للصحافة منه نصيب أيضا ، فقد عمل صحفيا بجريدة الجمهورية، وأشرف على الملحق الأدبي (أوراق الخميس) قبل أن يأتي بعده ( النادي الأدبي)، والتف حوله العديد من الأقلام.
شارك عمار في كثير من المنتديات الدولية، وفِي كل مرة كان اسم الجزائر يلمع أكثر، آخرها مداخلة مهمة في المغرب الشقيق، في بداية التسعينات قبل رحيله بقليل، وهي عن الإسلام و الديموقراطية، والدراسة منشورة في مجلة آفاق لاتحاد كتاب المغرب.
عمار بلحسن ، وبإتقان ودقة وفطنة، أول من كتب عن محمد ديب باللغة العربية، وتعد أطروحته الجامعية من أهم الدراسات التي أنجزت عن ثلاثية محمد ديب.
ولم يمنع الوقتُ الضيقُ عمار بلحسن من أن يفكر في الآخرين من جيله من الكتاب .. فقد تعاون مع مدير الcridicsh "عبد القادر جغلول" فأنشأ سلسلة ( كتاب الحاضر) (Les écrivains du présent ) لينشر تجارب أدباء شباب.
ثم لعل قصص عمار بلحسن تستمد جمالها وقوتها وفتنتها من كونه أول من شكل النواة لعلم اجتماع الأدب، وفتح آفاق عملية فهم النص والمجتمع والثقافة كموضوع للمعرفة السوسيولوجيّة، فتضافر جمال النص بعمقه.
عمار بلحسن كان يحب المغني البلجيكي جاك بريل. وللتاريخ أيضا ،كان يفضل كاتبين جزائريين عن البقية هما الشريف الأدرع وعبد القادر زيتوني، وكان يعشق مكتبته و يحب ان يتكلم لهجة أمه.
في كل مساء تتلألأ نجمة في سماء البلاد، تدلّ على عمار وتردد :
- تبا للنسيان ..تبا للنسيان .!!
ربيعة جلطي
.. – يا لقسوة الذاكرة المعطلة.!
كأن الأديب عمار بلحسن كان يدرك قصته القصيرة مع الزمن. قصته القصيرة مع العمر القصير 1953-1993 فقام بكل شيء بسرعة. بسرعة هادئة. بحيث لا توقظ العقربين اللذين يجرّان الوقتَ إلى حتفه وهما نائمان. يدوران داخل الساعة مثل ثورين حول البئر.
عمار بلحسن ذاك الشاب الذي جاء إلى وهران من امسيردة غربا، مسلحا بعصاميته ومعتزا بحريته. لا بد أن أشجار النخيل بساحات جامعة وهران السانيا مازالت تتذكره جيدا، فقد كانت قامته تشبهها بطولها ونحافتها. إلا أن رؤوسها العاليات لم تكن تطرح فاكهة التمر، أما عمار فقد كان خياله أكثر توغلا في السماء، فتمتلئ عراجينه بالقصص الجميلة، وبالأفكار، وبالتحليل السوسيولوجي الذكي للظواهر الاجتماعية و الثقافية.
لعله كان يعرف أن الوقت لعبة خطيرة، فكان عليه، وبسرعة مثل رياضي الباسكيتبول، أن يعتمد على قامته الفارهة، فيلتقط الكرة بسرعة، ثم يدسها في الشباك، ويسجل الهدف. عمار بلحسن سجل الهدف بجمال فكتب قصصا قصيرة خالدة وعميقة بلغته العربية الجميلة المخترقة باللهجة المسيردية، فاحتل بجدارة صف القصاصين الكبار من أمثال السوري زكريا تامر، أو المصري مجيد طوبيا، أو العراقي محمد خضر، أو الروسي تشيخوف، أو الفرنسي غي دوموباسون...
ممرات ساحات جامعة السانيا تحفظ أثر خطاه، وتتذكر سيره الهادئ وهو يشعل السيجارة تلو الأخرى ويفكر بصمت.. لا بد أن القاعة الكبرى للمحاضرات لا تزال تذكر صوته الهادئ خلال أمسية أدبية، وهو يقرأ قصة له غير هادئة، قصة (البحر).
يكتب عمار ويبدع دون أن يعتبر الكتابة مسألة احتراف، بل هواية تنسج بمتعة وهو القادم من تخصص آخر غير الأدب. هو الباحث في علم الاجتماع وهو أول من استحدث مقياس ( سوسيولوجيا الأدب) لدراسة الخطابات الاجتماعية، في علاقاتها بعملية القص والسرد الروائي، في إطار التناص والتمثل اللغوي والأيديولوجي والدلالي بين الحركات الاجتماعية الوطنية والإنتاج الأدبي، إلى جانب تحليل المتن الشعري العربي المعاصر، في علاقاته مع البنيات المختلفة المشكلة لسياقات المجتمع، وتحليل إشكاليات التحديث والكتابة.
استحدث عمار بلحسن مخبرا لسوسيولوجيا الأدب في وحدة البحث في الأنتروبولوجيا الثقافية والاجتماعية، داخل تأطير Urasc الذي كان يترأسه الباحث السوسيولوجي والموسيقي "نذير معروف"، و صدرت له عنه دفاتر مهمة. آنذاك كان المفكر الجزائري "جمال ڤريد " يعمل في تخصص ( سوسيولوجيا الثقافة) .
الوقت الضيق لعمار بلحسن كان مكثفا مثل سحابة سخية. من حظه الحسن أنه يُعدّ من تلامذة "سامي ناير"الباحث والأستاذ الجامعي والمفكر العالمي، وأحد المحيطين بفكر "لوكاتش" و"غولدمان".
عمار بلحسن الباحث العميق قاص مدهش أيضا ، وصل صوته القصصي قويا إلى العالم العربي، جاءتنا تجربته نشرا من العام العربي. وفِي الجزائر كان أول من حاز على جائزة القصص القصيرة التي كانت تنظمها وزارة التعليم العالي، وأول من حصل على جائزة وزارة المجاهدين بقصته الرائعة (الأصوات)، وهي من أجمل النصوص التي كتبت في القصة القصيرة في تاريخ القصة القصيرة المغاربية و العربية، وترجمت إلى الانجليزية والروسية ولغات أخرى.
وليس غريبا أن يصبح اسم عمار بلحسن محفورا في قاموس Larousse وإنه أول الداخلين إليه من جيل السبعينات .
عمار بلحسن هذا الذي خرج بالقصة القصيرة الجزائرية نحو العالم العربي، بدأ خطواته في النشر بمجلة ( البلاغ) حين كان لا يزال طالبا في مدرسة المعلمين بتلمسان، و لاحقا فِي ( فصول ) المصرية المحترمة ليأتي نشر مجموعته القصصية ( حرائق البحر ) في العراق لتكون بذلك أول مجموعة من جيل السبعينات تطبع في الخارج. وقد كتب عنها الكثيرون وبإعجاب ومنهم "محمد خضر" أكبر القصاصين العرب .
ذاك الوقت الضيق الذي كان بين يدي عمار في الحياة، قسّمه بالعدل، فكان للصحافة منه نصيب أيضا ، فقد عمل صحفيا بجريدة الجمهورية، وأشرف على الملحق الأدبي (أوراق الخميس) قبل أن يأتي بعده ( النادي الأدبي)، والتف حوله العديد من الأقلام.
شارك عمار في كثير من المنتديات الدولية، وفِي كل مرة كان اسم الجزائر يلمع أكثر، آخرها مداخلة مهمة في المغرب الشقيق، في بداية التسعينات قبل رحيله بقليل، وهي عن الإسلام و الديموقراطية، والدراسة منشورة في مجلة آفاق لاتحاد كتاب المغرب.
عمار بلحسن ، وبإتقان ودقة وفطنة، أول من كتب عن محمد ديب باللغة العربية، وتعد أطروحته الجامعية من أهم الدراسات التي أنجزت عن ثلاثية محمد ديب.
ولم يمنع الوقتُ الضيقُ عمار بلحسن من أن يفكر في الآخرين من جيله من الكتاب .. فقد تعاون مع مدير الcridicsh "عبد القادر جغلول" فأنشأ سلسلة ( كتاب الحاضر) (Les écrivains du présent ) لينشر تجارب أدباء شباب.
ثم لعل قصص عمار بلحسن تستمد جمالها وقوتها وفتنتها من كونه أول من شكل النواة لعلم اجتماع الأدب، وفتح آفاق عملية فهم النص والمجتمع والثقافة كموضوع للمعرفة السوسيولوجيّة، فتضافر جمال النص بعمقه.
عمار بلحسن كان يحب المغني البلجيكي جاك بريل. وللتاريخ أيضا ،كان يفضل كاتبين جزائريين عن البقية هما الشريف الأدرع وعبد القادر زيتوني، وكان يعشق مكتبته و يحب ان يتكلم لهجة أمه.
في كل مساء تتلألأ نجمة في سماء البلاد، تدلّ على عمار وتردد :
- تبا للنسيان ..تبا للنسيان .!!
ربيعة جلطي