خرج من داره، و في عينيه بقية من نعاس. كان النهار لا يزال وليدا، و كان الجو مغلفا بضياء شحيح، امتزج بظلمة، أوشكت أن تنقشع. كان أمين في عجلة من أمره؛ فلم ينتبه إلى تصدع سياج الفناء، الذي بناه منذ سنين باللبن الأخضر. كانت التشققات حديثة، بحيث لم تنتبه إليها زوجته التي خرجت في إثره. اعتلى أمين جراره الزراعي، و انطلق إلى حقول الشعير؛ إذ كان الموسم موسم حرث و بدر.، بينما وقفت زوجته أمام الدار، و راحت تراقب الجرار، إلى أن غاب عن ناظريها؛ فارتدت إلى فناء الدار الأمامي، و انهمكت تكنسه بعرجون النخيل. و سرعان ما شرد ذهنها، و بدأت في استعادة تفاصيل ليلة الأمس، و استرجاع ما شهد عليه فراشهما المحموم؛ فارتسمت ابتسامة عريضة على ثغرها، و عضت شفتها السفلى، و تورد خداها. ظلت على تلك الحال، تسيطر عليها لذة التخيل، و لكنها انتبهت، فجأة إلى جفن عينها اليسرى، الذي راح يرتعش ارتعاشات خفيفة، تكررت أكثر من مرة. و لما عجزت عن السيطرة على حركته اللاإرادية، استبد بها القلق طيلة اليوم.
مع حلول الضحى استيقظت بناتها الثلاث، و تجمعن بعد فترة وجيزة بجوار السياج، و رحن يسكبن الماء على التراب؛ فشكلن من الطين أما، و أبا، و بنين، و بنات، و عرائس، و ساحرة، و جنيات، و لصوصا، و عساكر. و لما كان من عادة البنات تسلق السياج كجزء أصيل من اللعب، اتسعت التشققات شيئا، فشيئا. راحت الشمس تبسط أشعتها الحامية على الفناء؛ فتآكل الظل، و لم يتبق منه سوى رقعة ضئيلة متاخمة للسياح، لاذت بها البنات، اللائي واصلن لهوهن غير مكترثات بالحر. و في غمرة اللهو سقطت بعض اللبنات، بشكل مفاجئ؛ فالتصقت عرائس الطين بالأرض، و شجت رءوس البنات، و سالت الدماء على وجوههن؛ فتلاشت لذة اللعب، و تحولت بهجتهن إلى فزع و صراخ، ناسب تماما ما ينتظرهن من أوجاع ستسكن قلوبهن في قابل الأيام.
(٢)
مع حلول الغروب أنهى أمين حرث حقل الشعير، و هم بالعودة إلى داره، و لكن أصحاب الحقل، أصروا على عدم انصرافه قبل أن يتناول وجبة العشاء الدسمة في دارهم القريبة. و لما اعتذر عن قبول دعوتهم، أرسلوا أيمانا غليظة؛ فوجد نفسه مضطرا إلى الإذعان لرغبتهم. تحت أضواء (الكلوب) البيضاء، بسطت المائدة، و دارت أكواب الشاي، و انثالت الحكايات، و أطلقت في أول الليل بعض النوادر، و ارتسمت على الوجوه ابتسامات خفيفة، و لكن سرعان ما أطلق أمين نكاته، و ما إن استمع الجالسون إلى النكتة الأولى، حتى رجت الضحكات الصاخبة جدران الدار. و لما كان أمين حكاء، لا يبارى، و مهرجا لديه القدرة على إضحاك الحصى و الحجارة، أغراه الحاضرون بقص المزيد من الحكايات، و إطلاق المزيد من النكات، حتى نسي أمر الانصراف. طالت الأحاديث، و طاب السهر إلى منتصف الليل، عندئذ انصرف أمين، و بقايا الضحك لا تزال مرسومة على ثغره. كان الطريق إلى النجع معتما، و كانت الصخور شاخصة على جانبي الطريق، و كان أمين يقود على غير هدى؛ إذ كانت فوانيس جراره، قد أصابها العطب منذ فترة. و فجأة انحرف الجرار، و اصطدم بكتلة صخرية هائلة؛ فسقط أمين أرضا، و في لمح البصر انقلب الجرار فوق جسده؛ فالتصق لحمه بالرمل.
(٣)
كانت بناته، يومئذ كأفراخ الإوز، لا يزال الزغب الأخضر يكسو أجسادهن، و كانت أرملته تينة فائرة. و لما كان للرجال عيون أدمنت الاشتهاء، و أياد أجادت طرق الأبواب، تبارى كثير من رجال النجع فيما بينهم على الفوز بالأرملة الشهية التي لم تتحاوز الثلاثين بعد، و التي أرقت أنوثتها مضاجعهم؛ فأخذوا يتوددون إلى أخوتها بشتى الحيل. و مع مرور الأيام، ثقل عليها إلحاح أخيها الأكبر الذي رأي تزويج أخته الحسناء؛ قطعا للألسنة. و لما كان شأنه شأن أهالي النجع جميعا، الذين يؤمنون بأن اللحم لأهله في نهاية المطاف، لم يجد غضاضة في أن تنتقل بنات أخته للعيش في كنف أعمامهن، و أن تنتقل أخته للعيش في داره، ريثما ينتهي من أمر تزويجها. شق الأمر على الأرملة؛ فحارت، و دارت، و بعد تفكير عميق قصت ضفائر شعرها، و لفتها في قطعة قماش سوداء، و أرسلتها إلى أخيها؛ فأدرك أن أخته لا ترغب في الخروج من حدادها، و لا ترغب في فرد شعرها على صدر أحد من الرجال، و أنها وهبت نفسها لبناتها، و حسب.
(٤)
وجدت الأرملة نفسها مجبرة على الاختيار؛ فتشبثت ببناتها، غير آبهة بسخط و قطيعة كائن من كان. و لما كثر حولها النباح، رممت سياج دارها، و أضافت إليه لبنات جديدة، حتى صار السور مرتفعا بما فيه الكفاية. أحكمت الأرملة إغلاق الباب عليها و على اليتيمات الصغيرات، و لكن مرارة العيش، دفعتها بيد خشنة، و أجبرتها على الخروج إلى الأسواق لبيع الطيور تارة، و لبيع الجبن القريش، و السمن البلدي، و الزبد تارات. و لما كان لجسدها غواية، أشعلت النار في قلوب الرجال، اتخذت من جلبابها الأسود الفضفاض رداء ستر مفاتن جسدها الفائر، و اتخذت من طرحتها السوداء غطاء، أخفى خصلات شعرها الأسود الناعم، و شمع نحرها البض. و رغم حرصها الشديد على إخفاء زينتها إلا أنها لم تسلم من مضايقات الرجال، الذين أحاطوا بها يوم السوق، لا لشيء سوى التغزل في عينيها السوداوين و وجهها الخلاب. وجدت الأرملة نفسها مجبرة على استقبال عبارات الغزل التي انهمرت عليها كسهام؛ فتخلت عن طباعها الهادئة، و راحت تذود عن نفسها قدر المستطاع بنبرة خشنة، تنافرت مع ما هتف به وجهها من سحر، حسدتها عليه النساء، ذلك السحر الذي رأت فيه نقمة، جلبت لها الشقاء. مرت الأيام ثقيلة؛ فاستبد بها الظمأ، و كاد صبرها يخور، لكنها واصلت الصوم، و أصرت على ألا تقرب الماء.
(٥)
تحلقت البنات فراش أمهن العليلة، و تطلعن إلى وجهها الشاحب بوجوم. استعادت الأرملة وعيها للحظات، و نادت بناتها بأسمائهن؛ فأجبنها بحسرة تليق بمن بددت نضارتها من أجلهن. مدت الأرملة بصرها إلى ابنتها الكبرى؛ فدنت منها، و بصوت هامس ألقت في أذنها الخبر؛ فسارعت إلى إخراج أخواتها و أطفالهن إلى خارج الغرفة. عندئذ أقبل أمين مبتسما، كان يرتدي جلبابا ناصعا معطرا، و كان يحمل لفافة، ألقاها إلى أرملته، التي فتحتها بيدين واهنتين؛ فأبصرت ضفائرها القديمة، و أبصرت قصاصة قماش ملونة. دنا أمين منها، و راح يمسح جبينها؛ فارتدت وردة نضيرة، ملأ أريجها الغرفة، و نهضت من فراشها، و راحت تخطر بضفائرها الطويلة؛ فبدا وجهها الرائق بدرا شق عتمة الليل، و أسرف في نشر سناه؛ فأنارت جنبات الغرفة. اكتملت طقوس العرس؛ فطرب أمين، و أخذ بيد عروسه؛ فانشق جدار، يفضي إلى خارج الدار، و خرج الزوجان يسعيان إلى حقول خضراء شاسعة، و إلى أنهار امتدت أمامهما إلى ما لا نهاية. و لما طال الانتظار، أحرق القلق قلوب البنات؛ فاقتحمن الغرفة، و رحن يغترفن كؤوس الأريج من فراش، خلا تماما من وردته المسافرة.
مع حلول الضحى استيقظت بناتها الثلاث، و تجمعن بعد فترة وجيزة بجوار السياج، و رحن يسكبن الماء على التراب؛ فشكلن من الطين أما، و أبا، و بنين، و بنات، و عرائس، و ساحرة، و جنيات، و لصوصا، و عساكر. و لما كان من عادة البنات تسلق السياج كجزء أصيل من اللعب، اتسعت التشققات شيئا، فشيئا. راحت الشمس تبسط أشعتها الحامية على الفناء؛ فتآكل الظل، و لم يتبق منه سوى رقعة ضئيلة متاخمة للسياح، لاذت بها البنات، اللائي واصلن لهوهن غير مكترثات بالحر. و في غمرة اللهو سقطت بعض اللبنات، بشكل مفاجئ؛ فالتصقت عرائس الطين بالأرض، و شجت رءوس البنات، و سالت الدماء على وجوههن؛ فتلاشت لذة اللعب، و تحولت بهجتهن إلى فزع و صراخ، ناسب تماما ما ينتظرهن من أوجاع ستسكن قلوبهن في قابل الأيام.
(٢)
مع حلول الغروب أنهى أمين حرث حقل الشعير، و هم بالعودة إلى داره، و لكن أصحاب الحقل، أصروا على عدم انصرافه قبل أن يتناول وجبة العشاء الدسمة في دارهم القريبة. و لما اعتذر عن قبول دعوتهم، أرسلوا أيمانا غليظة؛ فوجد نفسه مضطرا إلى الإذعان لرغبتهم. تحت أضواء (الكلوب) البيضاء، بسطت المائدة، و دارت أكواب الشاي، و انثالت الحكايات، و أطلقت في أول الليل بعض النوادر، و ارتسمت على الوجوه ابتسامات خفيفة، و لكن سرعان ما أطلق أمين نكاته، و ما إن استمع الجالسون إلى النكتة الأولى، حتى رجت الضحكات الصاخبة جدران الدار. و لما كان أمين حكاء، لا يبارى، و مهرجا لديه القدرة على إضحاك الحصى و الحجارة، أغراه الحاضرون بقص المزيد من الحكايات، و إطلاق المزيد من النكات، حتى نسي أمر الانصراف. طالت الأحاديث، و طاب السهر إلى منتصف الليل، عندئذ انصرف أمين، و بقايا الضحك لا تزال مرسومة على ثغره. كان الطريق إلى النجع معتما، و كانت الصخور شاخصة على جانبي الطريق، و كان أمين يقود على غير هدى؛ إذ كانت فوانيس جراره، قد أصابها العطب منذ فترة. و فجأة انحرف الجرار، و اصطدم بكتلة صخرية هائلة؛ فسقط أمين أرضا، و في لمح البصر انقلب الجرار فوق جسده؛ فالتصق لحمه بالرمل.
(٣)
كانت بناته، يومئذ كأفراخ الإوز، لا يزال الزغب الأخضر يكسو أجسادهن، و كانت أرملته تينة فائرة. و لما كان للرجال عيون أدمنت الاشتهاء، و أياد أجادت طرق الأبواب، تبارى كثير من رجال النجع فيما بينهم على الفوز بالأرملة الشهية التي لم تتحاوز الثلاثين بعد، و التي أرقت أنوثتها مضاجعهم؛ فأخذوا يتوددون إلى أخوتها بشتى الحيل. و مع مرور الأيام، ثقل عليها إلحاح أخيها الأكبر الذي رأي تزويج أخته الحسناء؛ قطعا للألسنة. و لما كان شأنه شأن أهالي النجع جميعا، الذين يؤمنون بأن اللحم لأهله في نهاية المطاف، لم يجد غضاضة في أن تنتقل بنات أخته للعيش في كنف أعمامهن، و أن تنتقل أخته للعيش في داره، ريثما ينتهي من أمر تزويجها. شق الأمر على الأرملة؛ فحارت، و دارت، و بعد تفكير عميق قصت ضفائر شعرها، و لفتها في قطعة قماش سوداء، و أرسلتها إلى أخيها؛ فأدرك أن أخته لا ترغب في الخروج من حدادها، و لا ترغب في فرد شعرها على صدر أحد من الرجال، و أنها وهبت نفسها لبناتها، و حسب.
(٤)
وجدت الأرملة نفسها مجبرة على الاختيار؛ فتشبثت ببناتها، غير آبهة بسخط و قطيعة كائن من كان. و لما كثر حولها النباح، رممت سياج دارها، و أضافت إليه لبنات جديدة، حتى صار السور مرتفعا بما فيه الكفاية. أحكمت الأرملة إغلاق الباب عليها و على اليتيمات الصغيرات، و لكن مرارة العيش، دفعتها بيد خشنة، و أجبرتها على الخروج إلى الأسواق لبيع الطيور تارة، و لبيع الجبن القريش، و السمن البلدي، و الزبد تارات. و لما كان لجسدها غواية، أشعلت النار في قلوب الرجال، اتخذت من جلبابها الأسود الفضفاض رداء ستر مفاتن جسدها الفائر، و اتخذت من طرحتها السوداء غطاء، أخفى خصلات شعرها الأسود الناعم، و شمع نحرها البض. و رغم حرصها الشديد على إخفاء زينتها إلا أنها لم تسلم من مضايقات الرجال، الذين أحاطوا بها يوم السوق، لا لشيء سوى التغزل في عينيها السوداوين و وجهها الخلاب. وجدت الأرملة نفسها مجبرة على استقبال عبارات الغزل التي انهمرت عليها كسهام؛ فتخلت عن طباعها الهادئة، و راحت تذود عن نفسها قدر المستطاع بنبرة خشنة، تنافرت مع ما هتف به وجهها من سحر، حسدتها عليه النساء، ذلك السحر الذي رأت فيه نقمة، جلبت لها الشقاء. مرت الأيام ثقيلة؛ فاستبد بها الظمأ، و كاد صبرها يخور، لكنها واصلت الصوم، و أصرت على ألا تقرب الماء.
(٥)
تحلقت البنات فراش أمهن العليلة، و تطلعن إلى وجهها الشاحب بوجوم. استعادت الأرملة وعيها للحظات، و نادت بناتها بأسمائهن؛ فأجبنها بحسرة تليق بمن بددت نضارتها من أجلهن. مدت الأرملة بصرها إلى ابنتها الكبرى؛ فدنت منها، و بصوت هامس ألقت في أذنها الخبر؛ فسارعت إلى إخراج أخواتها و أطفالهن إلى خارج الغرفة. عندئذ أقبل أمين مبتسما، كان يرتدي جلبابا ناصعا معطرا، و كان يحمل لفافة، ألقاها إلى أرملته، التي فتحتها بيدين واهنتين؛ فأبصرت ضفائرها القديمة، و أبصرت قصاصة قماش ملونة. دنا أمين منها، و راح يمسح جبينها؛ فارتدت وردة نضيرة، ملأ أريجها الغرفة، و نهضت من فراشها، و راحت تخطر بضفائرها الطويلة؛ فبدا وجهها الرائق بدرا شق عتمة الليل، و أسرف في نشر سناه؛ فأنارت جنبات الغرفة. اكتملت طقوس العرس؛ فطرب أمين، و أخذ بيد عروسه؛ فانشق جدار، يفضي إلى خارج الدار، و خرج الزوجان يسعيان إلى حقول خضراء شاسعة، و إلى أنهار امتدت أمامهما إلى ما لا نهاية. و لما طال الانتظار، أحرق القلق قلوب البنات؛ فاقتحمن الغرفة، و رحن يغترفن كؤوس الأريج من فراش، خلا تماما من وردته المسافرة.