طيبة فاهم ابراهيم - حين صارت الحلبة انثى

تتابعت الانتصارات معها ، شكلنا الثنائي الذي لا يقهر ، لم يستطع أي فريق مجاراة لعبنا ، حتى لم نعد نحصي انتصاراتنا انا وصديقتي الحبيبة وجدان على حلبة المصارعة .
كل ما حولنا ينطق بالأنوثة حتى الحلبة نفسها، فالمرأة امرأة كل الوقت ، أينما حلت وارتحلت ، في السوق والطريق وحين تقود وحين تصارع ، هو نفسه صوت الأنوثة العظيم داخلها يحركها لتكون كباقي النسوة على هذا الكوكب الصغير، مفتونة بالحلي والعطور والأزياء ، مغرمة بالذهب والديباج والجلسات النسوية حين لا تطربنا سوى الأحاديث عن همومنا ، نتلذذ أنا وهي بالسخرية من خصماتنا المغرورات بعد أن نصرعهن ، ونتغلب عليهن ، وكيف ودّت هذه استسلامها فلم ندعها تستسلم ، وكيف حاولت إحداهن الانتقام لشريكتها فطرحناها الى جنبها ، او تلك التي انهارت وصارت تهذي والمسكات تقيدها تماما والجمهور يشتعل تشجيعا لنا وحماسا .
اعلم أنها أضخم مني ، لكنها تكبرني بسبع سنوات ، فأنا اكثر منها شبابا ، وأعلم أن الصراع بيني وبينها غير مألوف ، فهي أعز صديقة عندي ، ويقينا فان اي تحد قد يهدم تلك المحبة الجارفة بيننا ، فنحن سويا دوما في أسفارنا ، نبيت معا ونتبادل أحاديث النساء معا ، أسرارها بقلبي وأسراري بقلبها ، جمعتنا عشرات الحلبات فلم نخسر الا لماما...
جنون الأنثى ، تلك الصبغة التي تميزت بها النساء عن الرجال ، الهوى وحب التغيير ولربما الحسد ، هو ما جعلها تفاتحني برغبتها في مصارعتي دون ان اعلم لهذا التحدي، فنحن نرسم خطانا لنقضي على خصماتنا معا، لم نختلف يوما او سمعت مني ما يسيء لها.
ترددت كثيرا قبل أن أصارحها بعدم رغبتي في تحديها ، اعلم أنها تتحسس من كل شيء ، ولربما عدت ما اقول رغبة في الانفكاك عنها ، انا وهي اللواتي تحدين المجتمع وأصبحن مصارعات وسط مجتمع صعب، جعلناه يعشق اللعبة.
كانت لفرط محبتها بي تعلم ما بداخلي وتتحسس ما في قلبي ، تغور بعيني وتشعر ما بداخلي ، لم تنبس ببنت شفة سوى هذه الكلمات :
- صارحيني ، اكاد اشعر انك بحاجة إلى كلام ، أن بك حاجة لشيء، لا يفهم المرأة الا المرأة ، ان كنت تمرين بلحظات ضعف او مرض يمنعك من مواجهتي، فكل ما بقلبي لك، واعتبري طلبي لاغيا
أخجلني خلقها وجمال كرمها ، كيف أرد على كل هذا الجود برفض الطلب ، كيف اكافيء الحب بالصراع ، وما الصراع الاّ ساعة بغض وكراهية.. شعرت ان لساني يغادر فمي بعيدا وان الكلمات تهرب ، تعرقت ولم استطع ان اتمم كلامي، لكني استجمعت شجاعتي اخيرا وقلت لها بصعوبة تامة :
- حسنا، سوف أصارعك يا وجدان !!
- تبسمت بود كبير ، وطبعت على جبيني قبلة ، وأسرعت لتحضر بساطا كبيرا ، ثم رددت : قد تدربنا كثيرا ولا حاجة بنا للتأخير ، هيا استعدي للنزال ، هل تكفيك عشر دقائق للاستعداد؟؟
لم يك مقصدي مصارعتها في حجرتنا بالفندق حيث نقيم ، ولم تتفهم مقصدي ، لكني وجدت نفسي ازاء اصرارها وفرحها واندفاعها مستعدة للنزال ، ولو تغلبت عليها هنا فلن تتغلب علي وسط الجمهور ، وسأمزق اسطورتها حقاّ !
ابتدأ اللعب ، شعرت أننا لبوتان نتقاتل من أجل فريسة لذيذة ، للحظة وجدتني ابغضها وأحقد عليها وكلي رغبة بتحطيمها ، نسيت كل ما حولي ، بساط المصارعة تحول الى بساط ريح الى حيث أحلامي ، لا اعلم كيف تحولت أعز صاحبة عندي الى أخطر عدوة، وكيف تحولت الانثى بداخلي الى بركان هائج ..
اسقطتها مرة فنهضت ، أسقطتها ثانية فنهضت بشيء من الصعوبة ، كانت طريقتي أن أضخ لها سيلا من الضربات التي لا تنقطع حتى تنهار ، بعد أن أحاصرها في زاوية على البساط ، اختفت ابتسامتها وأمسكت بي وأسقطتني ، كنت كلما أحاول التخلص من مسكة تطوقني بأخرى ، وكلما تطوقني أشعر بآلام لا توصف لكني كنت عازمة على الصمود ، حاولت تثبيتها فلم افلح في تثبيت من تزيد علي بعشرين كيلو غراما ، ارتمينا خارج البساط من فرط سرعتنا وقوة لعبنا .
واجهتها من جديد ، غير أني بت أشعر بالتعب والآلام جراء المسكات الموجعة، بقيت أكابر وأنا على يقين أن الانتصار عليها أمر صعب ، ومع مسكاتي التي كانت تتخلص منها بشيء من العسر ومسكاتها الصعبة، بدأت ملامح الانهيار تلوح لها ، حتى اني بت اجد عندها صعوبة في النهوض عقب مسكاتي المتلاحقة .
استجمعت قوتي كلها ازاء هذا الغول الكاسر، هجمت عليها وقيدتها بشق الانفس بمسكة قاتلة حقا، كانت يداي تطوقان رقبتها ، وقدماي تقيدان قدميها ، شعرت بعدم قدرتها على التنفس وبقسوة ضغط لا يطاق على ظهرها ، صرخت معلنة استسلامها أمامها ، فهمست باذنها وانا كمن يمسك بزلزال مرعب : الاستسلام للنزال كله وليس هذه الجولة يا وجدان فوافقت ، ثم تركتها منهارة ومرتمية بلا حراك على البساط وليس لديها أدنى رغبة بشيء سوى النوم دون نهوض !!
حين كنا نحتسي الشاي في باحة الفندق صباحا ، لم نجد ما نتحدث به، كان الصمت بليغا ، أحاسيس من خجل وانكسار وانهيار بداخلها وخجل مثله بداخلي، فهي الصديقة والاخت والمؤازرة الحبيبة ، لكني لم المح في وجهها أيا من علامات الحقد او البغض..
بادرتني بالسؤال عن صحتي ثم بدأت تتكلم عن فستان أعجبها في أحد أسواق لبنان ، وفاجأتني بقولها ان الفستان يليق بي لأني الأجمل ، ولم تلبث ان سحبتني من يدي وخرجنا معا ، ووجهت لي تهمة عمق الخجل ، وحين سألتها عن السبب أجابت: لأنك خجلت من تمرين بسيط بين حبيبتين ، هو نصر لكلتينا ، انت بانتصارك وأنا بلعبي ، وللحق فلم أصارع أقوى منك في حياتي، ففارق الوزن بيننا كبير وصمودك كان أسطوريا بحق وتستحقين عليه ألف قبلة وفستانا وزجاجة عطر .
اجبتها بسرعة : الا مسكتي الأخيرة، لا تهدني إياها في يقظة أو في منام ، لانها ستهشم عظامي كلها..
ضحكنا من اعماق قلبينا، وقد اخبرتها اني لم اكسب نزالا، بل اعز صديقة علمت ما بداخلها من جمال وطهر ، ولم أجد بدا من عناقها وانا اهمس بأذنها : لا تنسي نفسك وتحمليني ثم تلقيني أرضا، تصارعنا أمس كنساء ونتعانق كنساء فلا تصارعيني اليوم كما تحطمين النساء ..
فاجابت بسرعة وهي تصطحبني من يدي نحو الخارج :
الا انت يا اسد الحلبات !!


طيبة فاهم ابراهيم

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...