من المدهش فى كتابة نجيب محفوظ المعمّرة، أنها مرت بمراحل أسلوبية عديدة حتى أصبحت مثل قطعة الماس، الباهرة للأنظار، بأضوائها وبريقها الأصيل، وجمالها الفتان الكامن فى تعدد الألوان طبقًا لاختلاف فى المنظور وزاوية الرؤية، إذ على عكس ما يتصور الكثيرون من أنه قد اتبع أسلوبًا واحدًا التزم به طيلة مسيرته الإبداعية لم يكن بوسعه أن يفعل ذلك، بل تشكلت لغته، وهى مثل البشرة التى نراها وندرك فيها ملامحه المائزة، إذ تتركز فيها حساسية التعبير، طبقًا للعناصر المتفاعلة فيها ودرجة انصهارها مع رؤيته وخبرته البشرية والجمالية المتنامية.
وربما كانت الخطوة الأولى التى يحلو لى رصدها فى هذا السياق لا تتجلى إلا إذا أجملت ملاحظاتى على تطوره الأسلوبى وركزت أبرز ملامحه مستخلصة من معايشتى النقدية والبحثية لنصوصه فى مراحل متتابعة من كتابته، بمعالمها الكبرى من خلال تجربتى التأملية فيها.
ومن الطريف أننى لم أتوقف كثيرًا عند بداياته الأولى فى الرواية التاريخية التى كان الجيل السابق من النقاد قد أشبعوا الحديث فيها، مع اختلاف مناهجهم وأدواتهم التحليلية، لكننى لاحظت فى أحد بحوثى الأخيرة عنه أنه قد سخر من لغته فى بداياتها ونقد أسلوبه بحدة فى هذه الأعمال؛ إذ يقول عن باكورته الأولى (عبث الأقدار) التى كان اسمها (خوفو) قبل أن يغيره ناشره وأستاذه سلامة موسى: "أضحك الآن على نفسى من أسلوب هذه الرواية؛ إذ أننى كنت متشبعًا وقتها بأنماط من التعبيرات اللفظية الفخمة التى كنا نحفظها عن ظهر قلب، ولم أدرك وقتها ضرورة خضوع وسيلة التعبير لطبيعة موضوع الرواية الذى أتناوله، فكان الموضوع فرعونيًّا فيه نوع من الخيال التاريخى، ولكنه يستخدم الألفاظ العربية الجزلة الفخمة الفصيحة من أول الرواية إلى آخرها، ومن ثم لازمها التنافر".
وأحسب أن محفوظ كان قاسيًا جدًّا على نفسه فى هذا النقد الذاتى لأسلوبه الأول، فلا شك أن الخيار اللغوى يمثل الخطوة الأولى فى أية كتابة سردية، وقد كان النموذج الضخم الفخم المشبع بالمبالغات البلاغية الرومانسية فى الثلث الأول من القرن العشرين يتمثل فى ثلاثة أقطاب ملأوا أسماع وأنظار القراء العرب، أدخلهم فى السرد هو المنفلوطى بعبراته ونظراته وترجماته وآهاته، وأشدهم تكلفًا وسلفية وبلاغة تراثية تزعم التجديد فى الأسلوب وهى تنسلخ من جلد العتاقة الدينية وتستغرق فى التشكيل الباروكى للجملة الأدبية عند الرافعى، أما النموذج الثالث فقد كان سلسًا متدفقًا لكنه مقيد أيضًا بالتراث العربى يشد جلده فى عمليات تجميل تبث الحياة النضرة فى أوصاله وهو أسلوب طه حسين القريب من إيقاع الشعر العذب والنثر الحديث، لكنه لا يقدم النموذج الأمثل للكتابة السردية المنشودة. وجد محفوظ نفسه يتمتع بميزة مخالفة هذه النماذج الثلاثة، فهو يتمتع برصيد فلسفى يفتقرون جميعًا إليه، ويطمح إلى تمثيل الحياة الفرعونية فيجيد ترجمتها إلى عربية فصحى متدفقة وسلسة كما تترجم الأعمال الإبداعية العالمية، دون أن يكون هناك مجال للنزول إلى الدارجة المصرية التى لم يكن للفراعنة علاقة بها، أو لمحاكاة البلاغية السلفية القديمة البعيدة عن عوالمها. أصاب محفوظ فى اختياره اللغوى فى هذه الخطوة الأولى، ولم يكن بوسعه أن يفعل غير ذلك بمثل هذا التوفيق.
لكن وعيه الحاد بمشكلة التجانس بين التجربة والتعبير سرعان ما قاده إثر فراغه من المشروع التاريخى إلى صهر أهم إنجاز روائى فى الأسلوب فى العصر الحديث، صنعه محفوظ بحرفية بالغة وإتقان مذهل تجاوز فيه بضربة معلم جيل أساتذته من الروائيين الكلاسيكيين من أساتذة اللغة العربية خاصة، من طبقة طه حسين وعلى الجارم وفريد أبو حديد ومن على شاكلتهم، ونافس نموذجه الأقرب حينئذ وهو يحيى حقى حتى تجاوزه.
ابتكر محفوظ فى خطوته الأسلوبية الثانية ما أسميه "اللغة الشفافة" التى لا يشعر متلقيها بكيانها ولا يصطدم بجسدها المجازى، بل هى أشبه بهذه الجدر الزجاجية الصافية التى توشك أن تقتحمها لأنك لا تراها ولا تحس بها، استطاع محفوظ أن يذيب طبقات الدهن البلاغى المتراكم فى أعطاف التعبير ليصب نموذجًا زجاجيًّا جديدًا وصافيًا يشف بشكل مباشر عن الشخصيات والمواقف والنبرات والأصوات فى حوارية خلاقة، دون أية شائبة تشعرك بجسمها الحامل لهذه السوائل الملونة، أعاد تشكيل العبارات العامية المثقفة بترتيب نحوى بسيط يدخلها بسلاسة منظومة العربية الفصيحة الموحدة القادرة على التوصيل بكفاءة عالية وإنكار واضح للذات.
ما زلت أذكر تجربة طريفة كان يحلو لى أن أجريها على طلبتى فى درس النقد السردى فى أقسام اللغة العربية بكلية الآداب إذ أفاجئهم بالسؤال التالي:
- ما رأيكم فى العامية التى يستخدمها نجيب محفوظ فى رواية "الثلاثية" أو (زقاق المدق) مثلاً؟ يجيب معظمهم على الفور بأنه استخدام جميل وموفق ولا إشكال فيه، وتكون دهشتهم كبيرة عندما يتبينون معى أنه لم يستخدم أية لهجة عامية فى الحوار أو السرد، بل أغرقنا فى تيار عذب من تلك اللغة الشفيفة المفعمة بالحيوية والتى عرف كيف يغمرنا بها فنتعمد بروح الشعب دون عوائق تمنعنا من رؤيته.
لكن نجيب محفوظ - ابن الثقافة العربية المفعمة بعبق الشعر والمضمخة بريحانه وتكويناته البلاغية الرائعة- لم يلبث فى أعماله التالية أن انتقل إلى صياغة أسلوب ثالث مختلف عن تجاربه السابقة فى الأسلوبين الفصيح والشفيف، أخذ ينقش شعريته الخاصة فى نوع من "الأرابيسك" المكثف المتميز، بلغ ذروة إتقانه فى تقديرى فى درته الكبرى (الحرافيش) التى لم يكتف فيها بإعادة اكتشاف شعرية السرد فى اللغة العربية، بل غازل أسرار الشعر الفارسى المنشد فى التكايا الصوفية لإضفاء مسحة روحية رائقة على المواقف المصورة، أخذ يتدفق بسحر بلاغة جديدة لم تعهدها كتاباته من قبل، حيث تكتنز الصور المجازية والرمزية وتتدثر العبارات بمسحة إيقاعية حميمة كأنها أناشيد الخلود المصرية، يقول فى المطلع:
"فى ظلمة الفجر العاشقة، فى الممر العابر بين الموت والحياة، على مرأى من النجوم الساهرة، على مسمع من الأناشيد البهيجة الغامضة، طرحت مناجاة متجسدة للمعاناة والمسرات الموعودة لحارتنا".
ولأننا نعرف ولع نجيب بالشعر وإدراكه لعبقرية اللغة العربية فى تشكيله، على الرغم من عناده المبكر للمغالاة فى تقديره على حساب النثر الذى كان محفوظ يفترع بكارته السردية فى شبابه، كما تجلى ذلك فى رده على مقال العقاد عن المضاهاة بين السكر المعقود فى الشعر والدرهم القليل منه فى خشب الخرّوب الذى شبه به الرواية، فإن تحول محفوظ إلى اكتشاف آفاق جديدة للشعرية ظل يمضى فى خط متصاعد فى تلك الآونة من العقود الملحمية فى كتاباته.
لكن المرحلة الأسلوبية الرابعة والأخيرة لنجيب محفوظ تجسدت فى العملين الإبداعيين الباهرين (أحلام فترة النقاهة) و(أصداء السيرة الذاتية)، وفيها يبلغ محفوظ درجة عليا فى بلورة "بلاغة سردية" فائقة.
كان محفوظ قد أدرك مكمن السرّ والسحر فى بلاغة الحياة النثرية فى سياق الوجود المفعم بالعواطف والمرتبط أساسًا بقلوب الناس وأهوائهم، كما أدرك أن هذا اللون من السحر الذى يتفجر به الخيال الروائى المحاور للواقع يختلف جذريًّا عن بلاغة الشعر المحفوظ فى عباراته الفاتنة المركبة العميقة.
هنا يتجلى الفارق الواضح بين وعى محفوظ بأدبية كتابته وأدبية الأساتذة السابقين عليه.
ومع أنه قد أخذ يمارس فى هذه المرحلة الأخيرة التفافًا مقصودًا فى اتجاه البلاغة الرمزية غزوًا لبعض مناطق الشعرية التى طالما عزف عنها فى صباه، فهو يظل شديد الحرص على الخيط السردى، لا يغزل فيه حبالاً طويلة، بل يكثف تجربته الحيوية فى الذكرى والحلم والكتابة عبر حبات صغيرة صلبة، ليست نواة لمشروع قصة قصيرة تتطلب الامتداد والنمو والتغطية، بل هى مكتفية بذاتها، فى غنى عما عداها، كأنها أبيات القصيدة المستقلة فى الشعرية القديمة.
أبرز سمات هذه المرحلة أنها خلاصة مقطرة ومكثفة لعتاقة تجربته الجمالية فى اللغة، ويمكن أن نطلق عليها المرحلة الماسية، لا لأنها قد بدت بعد قرابة خمس وسبعين عامًا من بداياته فى الخطوة الأولى تقريبًا، ولكن لأنها تتوهج بتلك القطع الفريدة النادرة المفعمة بالحكمة والإشارات الرمزية والألوان الباهرة المتعددة التى أصبحت الكأس فيها جسد الفن الثمين ومناط قيمته الغالية بأكثر مما يتراءى فيها من شراب مصبوب.
وكما تكون اللآلئ نتيجة عبقرية لفعل الزمن فى أعماق المحيطات بكل تياراتها الزاخرة ومحنها العظيمة، فإن تفاعل التجارب وتراكم الوعى بإيقاعات الحياة واللغة هو الذى مكن نجيب محفوظ من بلورة خطوته الأولى فى صناعة عقد الأساليب السردية للرواية العربية فى حباته الكبرى، حيث تعكس روح اللغة وضمير المجتمع وإيقاع التاريخ بتوازن مدهش ونفاسة حقيقية.
وربما كانت الخطوة الأولى التى يحلو لى رصدها فى هذا السياق لا تتجلى إلا إذا أجملت ملاحظاتى على تطوره الأسلوبى وركزت أبرز ملامحه مستخلصة من معايشتى النقدية والبحثية لنصوصه فى مراحل متتابعة من كتابته، بمعالمها الكبرى من خلال تجربتى التأملية فيها.
ومن الطريف أننى لم أتوقف كثيرًا عند بداياته الأولى فى الرواية التاريخية التى كان الجيل السابق من النقاد قد أشبعوا الحديث فيها، مع اختلاف مناهجهم وأدواتهم التحليلية، لكننى لاحظت فى أحد بحوثى الأخيرة عنه أنه قد سخر من لغته فى بداياتها ونقد أسلوبه بحدة فى هذه الأعمال؛ إذ يقول عن باكورته الأولى (عبث الأقدار) التى كان اسمها (خوفو) قبل أن يغيره ناشره وأستاذه سلامة موسى: "أضحك الآن على نفسى من أسلوب هذه الرواية؛ إذ أننى كنت متشبعًا وقتها بأنماط من التعبيرات اللفظية الفخمة التى كنا نحفظها عن ظهر قلب، ولم أدرك وقتها ضرورة خضوع وسيلة التعبير لطبيعة موضوع الرواية الذى أتناوله، فكان الموضوع فرعونيًّا فيه نوع من الخيال التاريخى، ولكنه يستخدم الألفاظ العربية الجزلة الفخمة الفصيحة من أول الرواية إلى آخرها، ومن ثم لازمها التنافر".
وأحسب أن محفوظ كان قاسيًا جدًّا على نفسه فى هذا النقد الذاتى لأسلوبه الأول، فلا شك أن الخيار اللغوى يمثل الخطوة الأولى فى أية كتابة سردية، وقد كان النموذج الضخم الفخم المشبع بالمبالغات البلاغية الرومانسية فى الثلث الأول من القرن العشرين يتمثل فى ثلاثة أقطاب ملأوا أسماع وأنظار القراء العرب، أدخلهم فى السرد هو المنفلوطى بعبراته ونظراته وترجماته وآهاته، وأشدهم تكلفًا وسلفية وبلاغة تراثية تزعم التجديد فى الأسلوب وهى تنسلخ من جلد العتاقة الدينية وتستغرق فى التشكيل الباروكى للجملة الأدبية عند الرافعى، أما النموذج الثالث فقد كان سلسًا متدفقًا لكنه مقيد أيضًا بالتراث العربى يشد جلده فى عمليات تجميل تبث الحياة النضرة فى أوصاله وهو أسلوب طه حسين القريب من إيقاع الشعر العذب والنثر الحديث، لكنه لا يقدم النموذج الأمثل للكتابة السردية المنشودة. وجد محفوظ نفسه يتمتع بميزة مخالفة هذه النماذج الثلاثة، فهو يتمتع برصيد فلسفى يفتقرون جميعًا إليه، ويطمح إلى تمثيل الحياة الفرعونية فيجيد ترجمتها إلى عربية فصحى متدفقة وسلسة كما تترجم الأعمال الإبداعية العالمية، دون أن يكون هناك مجال للنزول إلى الدارجة المصرية التى لم يكن للفراعنة علاقة بها، أو لمحاكاة البلاغية السلفية القديمة البعيدة عن عوالمها. أصاب محفوظ فى اختياره اللغوى فى هذه الخطوة الأولى، ولم يكن بوسعه أن يفعل غير ذلك بمثل هذا التوفيق.
لكن وعيه الحاد بمشكلة التجانس بين التجربة والتعبير سرعان ما قاده إثر فراغه من المشروع التاريخى إلى صهر أهم إنجاز روائى فى الأسلوب فى العصر الحديث، صنعه محفوظ بحرفية بالغة وإتقان مذهل تجاوز فيه بضربة معلم جيل أساتذته من الروائيين الكلاسيكيين من أساتذة اللغة العربية خاصة، من طبقة طه حسين وعلى الجارم وفريد أبو حديد ومن على شاكلتهم، ونافس نموذجه الأقرب حينئذ وهو يحيى حقى حتى تجاوزه.
ابتكر محفوظ فى خطوته الأسلوبية الثانية ما أسميه "اللغة الشفافة" التى لا يشعر متلقيها بكيانها ولا يصطدم بجسدها المجازى، بل هى أشبه بهذه الجدر الزجاجية الصافية التى توشك أن تقتحمها لأنك لا تراها ولا تحس بها، استطاع محفوظ أن يذيب طبقات الدهن البلاغى المتراكم فى أعطاف التعبير ليصب نموذجًا زجاجيًّا جديدًا وصافيًا يشف بشكل مباشر عن الشخصيات والمواقف والنبرات والأصوات فى حوارية خلاقة، دون أية شائبة تشعرك بجسمها الحامل لهذه السوائل الملونة، أعاد تشكيل العبارات العامية المثقفة بترتيب نحوى بسيط يدخلها بسلاسة منظومة العربية الفصيحة الموحدة القادرة على التوصيل بكفاءة عالية وإنكار واضح للذات.
ما زلت أذكر تجربة طريفة كان يحلو لى أن أجريها على طلبتى فى درس النقد السردى فى أقسام اللغة العربية بكلية الآداب إذ أفاجئهم بالسؤال التالي:
- ما رأيكم فى العامية التى يستخدمها نجيب محفوظ فى رواية "الثلاثية" أو (زقاق المدق) مثلاً؟ يجيب معظمهم على الفور بأنه استخدام جميل وموفق ولا إشكال فيه، وتكون دهشتهم كبيرة عندما يتبينون معى أنه لم يستخدم أية لهجة عامية فى الحوار أو السرد، بل أغرقنا فى تيار عذب من تلك اللغة الشفيفة المفعمة بالحيوية والتى عرف كيف يغمرنا بها فنتعمد بروح الشعب دون عوائق تمنعنا من رؤيته.
لكن نجيب محفوظ - ابن الثقافة العربية المفعمة بعبق الشعر والمضمخة بريحانه وتكويناته البلاغية الرائعة- لم يلبث فى أعماله التالية أن انتقل إلى صياغة أسلوب ثالث مختلف عن تجاربه السابقة فى الأسلوبين الفصيح والشفيف، أخذ ينقش شعريته الخاصة فى نوع من "الأرابيسك" المكثف المتميز، بلغ ذروة إتقانه فى تقديرى فى درته الكبرى (الحرافيش) التى لم يكتف فيها بإعادة اكتشاف شعرية السرد فى اللغة العربية، بل غازل أسرار الشعر الفارسى المنشد فى التكايا الصوفية لإضفاء مسحة روحية رائقة على المواقف المصورة، أخذ يتدفق بسحر بلاغة جديدة لم تعهدها كتاباته من قبل، حيث تكتنز الصور المجازية والرمزية وتتدثر العبارات بمسحة إيقاعية حميمة كأنها أناشيد الخلود المصرية، يقول فى المطلع:
"فى ظلمة الفجر العاشقة، فى الممر العابر بين الموت والحياة، على مرأى من النجوم الساهرة، على مسمع من الأناشيد البهيجة الغامضة، طرحت مناجاة متجسدة للمعاناة والمسرات الموعودة لحارتنا".
ولأننا نعرف ولع نجيب بالشعر وإدراكه لعبقرية اللغة العربية فى تشكيله، على الرغم من عناده المبكر للمغالاة فى تقديره على حساب النثر الذى كان محفوظ يفترع بكارته السردية فى شبابه، كما تجلى ذلك فى رده على مقال العقاد عن المضاهاة بين السكر المعقود فى الشعر والدرهم القليل منه فى خشب الخرّوب الذى شبه به الرواية، فإن تحول محفوظ إلى اكتشاف آفاق جديدة للشعرية ظل يمضى فى خط متصاعد فى تلك الآونة من العقود الملحمية فى كتاباته.
لكن المرحلة الأسلوبية الرابعة والأخيرة لنجيب محفوظ تجسدت فى العملين الإبداعيين الباهرين (أحلام فترة النقاهة) و(أصداء السيرة الذاتية)، وفيها يبلغ محفوظ درجة عليا فى بلورة "بلاغة سردية" فائقة.
كان محفوظ قد أدرك مكمن السرّ والسحر فى بلاغة الحياة النثرية فى سياق الوجود المفعم بالعواطف والمرتبط أساسًا بقلوب الناس وأهوائهم، كما أدرك أن هذا اللون من السحر الذى يتفجر به الخيال الروائى المحاور للواقع يختلف جذريًّا عن بلاغة الشعر المحفوظ فى عباراته الفاتنة المركبة العميقة.
هنا يتجلى الفارق الواضح بين وعى محفوظ بأدبية كتابته وأدبية الأساتذة السابقين عليه.
ومع أنه قد أخذ يمارس فى هذه المرحلة الأخيرة التفافًا مقصودًا فى اتجاه البلاغة الرمزية غزوًا لبعض مناطق الشعرية التى طالما عزف عنها فى صباه، فهو يظل شديد الحرص على الخيط السردى، لا يغزل فيه حبالاً طويلة، بل يكثف تجربته الحيوية فى الذكرى والحلم والكتابة عبر حبات صغيرة صلبة، ليست نواة لمشروع قصة قصيرة تتطلب الامتداد والنمو والتغطية، بل هى مكتفية بذاتها، فى غنى عما عداها، كأنها أبيات القصيدة المستقلة فى الشعرية القديمة.
أبرز سمات هذه المرحلة أنها خلاصة مقطرة ومكثفة لعتاقة تجربته الجمالية فى اللغة، ويمكن أن نطلق عليها المرحلة الماسية، لا لأنها قد بدت بعد قرابة خمس وسبعين عامًا من بداياته فى الخطوة الأولى تقريبًا، ولكن لأنها تتوهج بتلك القطع الفريدة النادرة المفعمة بالحكمة والإشارات الرمزية والألوان الباهرة المتعددة التى أصبحت الكأس فيها جسد الفن الثمين ومناط قيمته الغالية بأكثر مما يتراءى فيها من شراب مصبوب.
وكما تكون اللآلئ نتيجة عبقرية لفعل الزمن فى أعماق المحيطات بكل تياراتها الزاخرة ومحنها العظيمة، فإن تفاعل التجارب وتراكم الوعى بإيقاعات الحياة واللغة هو الذى مكن نجيب محفوظ من بلورة خطوته الأولى فى صناعة عقد الأساليب السردية للرواية العربية فى حباته الكبرى، حيث تعكس روح اللغة وضمير المجتمع وإيقاع التاريخ بتوازن مدهش ونفاسة حقيقية.