مرت ساعة منذُ أن تم إيقافه في مخفر الشرطة.
اجترت ذاكرته أحداث اليوم السابق، والأسبوع الماضي، بل جاهد أكثر ليتذكر ما حصل الشهر الفائت.
استحضر صور أشخاص تحدث معهم، وجوهًا قابلها، أعاد مع نفسه الأحاديث التي تبادلها مع آخرين عله يعثر على شيء يدينه، لكن ذلك لم يأتِ بنتيجة.
صداع ألم به جرّاء هبوط السكري عنده في الدم.
مد يده في جيب سترته وأخرج حبات تمر يابسة، شعر بعد ابتلاعها كأنه يعانق الحياةَ ثانيةً.
رائحة العفن المنبعثة من الفراش، لم تمنعه من الاستلقاء عليه،في هذا المكان لا مزيد من الخيارات،
وهو يحدق في النافذة القذرة المكتسية بطبقة غبار كانت كافية لتمنع مرور أشعة الشمس من خلالها، أغمض عينيهِ مانحًا الصداع عذرًا ليرحل، لكن الأصوات القادمة من عالم مليء بالغموض،هي التي استحوذت على اهتمامه.
سمع وقع خطوات تتجه نحوه، اقتربت أكثر حتى شعر بأنفاس صاحبها. فتح عينيه في وجه شاب ملتح، انحنى يتفرس في وجهه قائلاً:
- إنت زين؟
نظر إليه بكل الدهشة التي يمتلكها قبل أن يرد عليه:
- كيف دخلت؟ لمْ أشعر بكَ!
- أنا مسجون مثلك، بس إنت ما انتبهت عليّ لما دخلت، شنو تهمتك؟
قال بعد لحظة صمت:
- تفاجأت بهم وهم يلقون القبض عليّ في الجامعة.
- أنتَ معلم بالكلية؟
انشغل عن الإجابة بالنظر إلى قميصِ الشاب المتعرق، رائحة أبطيه اختلطت مع رائحة المكان. شعر برأسه مثقلًا بأفكار يلفها الضباب، أخرجه مما هو فيه صوت الشاب يسأله ثانية:
- إنت شنو أدرّس؟
- التأريخ السياسي. فجأة، التمعت عيناه كأنه تذكر شيئًا.
سأله الشاب بقلق:
- إشبيك، ليش صفنت؟!
كأنه يحدث نفسه حينما قال:
- عندما ألقوا القبض عليّ، كنت أحاضر عن التاريخ المزيف الذي درسناه، عن الأكاذيب التي أجبرنا على تصديقها والتي ملأت رؤوسنا بالرماد. كنت أقول لطلابي: مهما جاهدنا للوصول إلى جزيرة الأمان، سيعيدنا التيار ثانية للغرق مادمنا لا نغير وسائل الإبحار. إننا كمن يحاول النجاة وسط رمال متحركة حتى إنني تذكرت كلمات أحد الطلبة عندما قال لي: نعم يا دكتور، العطشان يرى كل ماحوله ماءً، وقد لا يكون ما يحيط به سوى السراب!
التفت نحو الشاب فجأة ليسأله:
- لماذا أنت هنا؟
- تعاركت ويه واحد.
- كم مضى عليك في السجن؟
- منذ زمن طويل، انتظر المحامي حتى يخلصني. البارحة، كالولي اليوم هو موعد زيارته، بس تأجل الموعد أكثر من مرة.
تنبه الاثنان لصوت باب الزنزانة وهو يفتح من قبل الحارس الذي راح يهمس للشاب مبتسمًا وهو يناوله صينية الأكل:
- باجر يجي المحامي مالتك، ويخلصك، فقط التزم الصبر و .. ا .. ل .. ه .. د .. و .. ء.
حزن لسماعه الخبر،فقال موجهًا الحديث لزميل السجن:
- صارلي انتظر هذا المخلص أكثر من ألف عام، ما أعرف اشوكت يحن عليّ ويجي؟!
وهو ينظر للشاب،أحس إنَّ كل فكرة من أفكاره ماهي إلا محاولة لمصافحة مارد جبار حول معصميه، طوق من نار، شعور عميق بالغباء ترسخَ داخله لأنه ظنَّ أنه سيتمكن من ملامسة السماء بينما هو يقف على رؤوس أصابعه.
جال ببصره في جدران السجن المثقلة بظلالها والتي أخبرته ساخرة: أنت وتاريخك سجينا زنزانة واحدة.
فقدَ الرغبة في الحديث بينما كلماته وقفت في ثنايا أسنانه المتكسرة.
وهو يلتهم آخر حبة تمر وجدها في جيبه، نظر إلى الشاب الذي حمل صينية الأكل قابع في الزاوية البعيدة يتناول طعامه ونظرة تأمل نابعة من عينيه.
رفع رأسه إلى النافذة العالية التي سمحت لخيط رفيع من الضوء يخترق بصمت العتمة التي تفصل بينه وبين رفيقه، نور مفعم بالفضيلة، لكنه عاجز عن تبديد الظلمة.
ردد مع نفسه:
البحر يقلص شواطئه، بينما نحن ما نزال نبحر بزوارق من ورق!
اجترت ذاكرته أحداث اليوم السابق، والأسبوع الماضي، بل جاهد أكثر ليتذكر ما حصل الشهر الفائت.
استحضر صور أشخاص تحدث معهم، وجوهًا قابلها، أعاد مع نفسه الأحاديث التي تبادلها مع آخرين عله يعثر على شيء يدينه، لكن ذلك لم يأتِ بنتيجة.
صداع ألم به جرّاء هبوط السكري عنده في الدم.
مد يده في جيب سترته وأخرج حبات تمر يابسة، شعر بعد ابتلاعها كأنه يعانق الحياةَ ثانيةً.
رائحة العفن المنبعثة من الفراش، لم تمنعه من الاستلقاء عليه،في هذا المكان لا مزيد من الخيارات،
وهو يحدق في النافذة القذرة المكتسية بطبقة غبار كانت كافية لتمنع مرور أشعة الشمس من خلالها، أغمض عينيهِ مانحًا الصداع عذرًا ليرحل، لكن الأصوات القادمة من عالم مليء بالغموض،هي التي استحوذت على اهتمامه.
سمع وقع خطوات تتجه نحوه، اقتربت أكثر حتى شعر بأنفاس صاحبها. فتح عينيه في وجه شاب ملتح، انحنى يتفرس في وجهه قائلاً:
- إنت زين؟
نظر إليه بكل الدهشة التي يمتلكها قبل أن يرد عليه:
- كيف دخلت؟ لمْ أشعر بكَ!
- أنا مسجون مثلك، بس إنت ما انتبهت عليّ لما دخلت، شنو تهمتك؟
قال بعد لحظة صمت:
- تفاجأت بهم وهم يلقون القبض عليّ في الجامعة.
- أنتَ معلم بالكلية؟
انشغل عن الإجابة بالنظر إلى قميصِ الشاب المتعرق، رائحة أبطيه اختلطت مع رائحة المكان. شعر برأسه مثقلًا بأفكار يلفها الضباب، أخرجه مما هو فيه صوت الشاب يسأله ثانية:
- إنت شنو أدرّس؟
- التأريخ السياسي. فجأة، التمعت عيناه كأنه تذكر شيئًا.
سأله الشاب بقلق:
- إشبيك، ليش صفنت؟!
كأنه يحدث نفسه حينما قال:
- عندما ألقوا القبض عليّ، كنت أحاضر عن التاريخ المزيف الذي درسناه، عن الأكاذيب التي أجبرنا على تصديقها والتي ملأت رؤوسنا بالرماد. كنت أقول لطلابي: مهما جاهدنا للوصول إلى جزيرة الأمان، سيعيدنا التيار ثانية للغرق مادمنا لا نغير وسائل الإبحار. إننا كمن يحاول النجاة وسط رمال متحركة حتى إنني تذكرت كلمات أحد الطلبة عندما قال لي: نعم يا دكتور، العطشان يرى كل ماحوله ماءً، وقد لا يكون ما يحيط به سوى السراب!
التفت نحو الشاب فجأة ليسأله:
- لماذا أنت هنا؟
- تعاركت ويه واحد.
- كم مضى عليك في السجن؟
- منذ زمن طويل، انتظر المحامي حتى يخلصني. البارحة، كالولي اليوم هو موعد زيارته، بس تأجل الموعد أكثر من مرة.
تنبه الاثنان لصوت باب الزنزانة وهو يفتح من قبل الحارس الذي راح يهمس للشاب مبتسمًا وهو يناوله صينية الأكل:
- باجر يجي المحامي مالتك، ويخلصك، فقط التزم الصبر و .. ا .. ل .. ه .. د .. و .. ء.
حزن لسماعه الخبر،فقال موجهًا الحديث لزميل السجن:
- صارلي انتظر هذا المخلص أكثر من ألف عام، ما أعرف اشوكت يحن عليّ ويجي؟!
وهو ينظر للشاب،أحس إنَّ كل فكرة من أفكاره ماهي إلا محاولة لمصافحة مارد جبار حول معصميه، طوق من نار، شعور عميق بالغباء ترسخَ داخله لأنه ظنَّ أنه سيتمكن من ملامسة السماء بينما هو يقف على رؤوس أصابعه.
جال ببصره في جدران السجن المثقلة بظلالها والتي أخبرته ساخرة: أنت وتاريخك سجينا زنزانة واحدة.
فقدَ الرغبة في الحديث بينما كلماته وقفت في ثنايا أسنانه المتكسرة.
وهو يلتهم آخر حبة تمر وجدها في جيبه، نظر إلى الشاب الذي حمل صينية الأكل قابع في الزاوية البعيدة يتناول طعامه ونظرة تأمل نابعة من عينيه.
رفع رأسه إلى النافذة العالية التي سمحت لخيط رفيع من الضوء يخترق بصمت العتمة التي تفصل بينه وبين رفيقه، نور مفعم بالفضيلة، لكنه عاجز عن تبديد الظلمة.
ردد مع نفسه:
البحر يقلص شواطئه، بينما نحن ما نزال نبحر بزوارق من ورق!