القراءة
القصة القصيرة العالمة: (بين تعدد الرهان ومحدودية التداول) وجهة نظر حول قصة الكاتب أحمد بوقراعة: (من أكثر الناس خيانة؟)
- أ-) حول القصة القصيرة العالمة:
من يقرأ هذه القصة القصيرة سيلاحظ أنها تَخْتَطُّ لنفسها مسارا مغايرا للمعتاد في كتابة القصة القصيرة، وأظن أن الكاتب أحمد بوقراعة يسير بخطوات ثابتة لبناء مشروع متميز له أسس يسعى إلى ترسيخها...
ليست هذه التسمية (القصة القصيرة العالمة) حكم قيمة، إنما هو (مصطلح) يرمي إلى تبني توصيف إجرائي في محاولة لتصنيف هذه القصة القصيرة المختلفة من حيث رؤيتها الفنية ورهاناتها ومعجمها وأدوات اشتغالها وبالأخص انفتاحها على الموروث الثقافي العربي ... وسميتها "بالعالمة " لأنها تراهن على متلق يمتاز بقدرته على الإحاطة بما تحبل به من معارف ومعلومات في مجالات معرفية مختلفة... ويكفينا إلقاء نظرة على معجم هذه القصة القصيرة لنقف على العدة المعرفية التي يحتاجها المتلقي ليلج إلى عوالم هذا النص.
وهذه بعض المكونات النصية التي سمحت بإطلاق صفة العالمة على هذه القصة القصيرة:
1- تتعدد الحقول المعجمية التي وظفها الكاتب في هذا النص، وهي في مجملها تحيل إلى المخزون الثقافي الذي يمتح منه الكاتب والذي يفترض وجود مثيله لدى المتلقي ليتحقق تفاعله الإيجابي مع النص. وهذه بعض الحقول المعجمية التي تؤثث هذا النص:
-الحقل الديني والعرفاني: " البقرة" \ المؤمنون \ الكافرون \الضلال\العين\ العقل\ ساح فكره\ الفانوس....
- حقل الطب: مر الدواء\ المريض\ الشفاء\ حلو الدواء.....
- حقل الأدب: أسماء الشعراء والأدباء (ابن المقفع، ابن الرومي، البحتري، بشار ابن برد، أبو نواس، المتنبي، أبو علي النحوي،ابن خاقان، التوحيدي) أوبيات شعرية، وكتاب "التوابع والزوابع"
- حقل البلاغة: الإيجاز الإطناب...
2- التناص:
تعدد النصوص التي تنفتح عليها هذه القصة القصيرة وتحاورها نذكر منها:
- القرآن: حضور عبارات قرآنية على شكل اقتباسات (الاقتباس: عند البلاغيين هو تضمين الكلام شيء من القرآن أو الحديث النبوي دون الإشارة إلى ذلك) مثال ذلك: (روح و ريحان و فاكهة و رمان و النخل ذات الاكمام فبأي آلاء ربكما تكذبان)، وقوله: (و خَلَتْ القَاعَة و استراحت من أعجاز النخل) اقتباس من قوله تعالى (فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية)
وقوله: ( إنّه الحول أو العام الذي سيغاث الناس فيه. سيزرع الناس و يحصدون و يطمرون..) تناص مع قصة يوسف الواردة في القرآن... و أوجس منهم خيفة ...الخ
- الشعر: حضور بعض الأشعار في ثنايا النص دون الإشارة إلى ذلك وهو ما يعرف في البلاغة بالتضمين... مثال ذلك قوله: (و مشى ليس يدري:" أأنَا السّائر في الدّرب أمِ الدّربُ يَسِير..." وهو من قصيدة إليا أبي ماضي ( جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت)
وكذلك قوله:( اتتنا الخلافة منقادة إلينا تجرّاذيالها فلا نَصْلُحُ الا لها و لا تصلح إلّا لنا ") وهو تضمين من أبيات لأبي العتاهية يقول:
أتته الخلافة منقادة
إليه تجر أذيالها
ولم تك تصلح إلا له
ولم يك يصلح إلا لها
وكذلك بيت البحتري في وصف فصل الربيع : أتاك الربيع
- سير الأدباء الواردة في كتب الأدب:
التركيز على النهايات المأساوية لبعض الأدباء بسبب مواقفهم : إعدام ابن المقفع\ تسميم ابن الرومي\ قتل بشار بن برد ...
العلاقة بين المبدع\ الشاعر والناقد: قصة المتنبي مع أبي علي النحوي... الخ
3- لغة النص مميزة رصينة متينة تتماهى مع لغة التراث( هذه الميزة يمكن للقارئ العادي أن يدركها لذلك لن أفصل في هذه النقطة)
ب) المتن الحكائي:
العنوان: جاء العنوان على صيغة إنشائية استفهامية، وهو استفهام حقيقي يتطلب جوابا. وسيكون النص جوابا عن هذا السؤال. وسنفترض أن هذا السؤال هو الخيط الناظم لمقاطع النص وأجزائه.
- معاناة الشخصية الرئيسة من الضلال في سبيل بحثها عن الحقيقة الحسية (العين) اعتزل (غلق عليه الأبواب) وكأني به قد دخل في أزمة شبيهة بأزمة الغزالي في (المنقذ من الضلال)، البحث عن الحقيقة الفكرية (العقل)... أصبح الضلال مضاعفا عمى البصر وعمى البصيرة.. في لحظة تأمل (رأى المثقفين أكثر الناس خيانة) هذا جواب عن السؤال المطروح في العنوان. هل انتهى النص عند هذا الحد؟ هذا ما يقوله المنطق.. ما دور كل الكلام الذي سيأتي؟
ما سيأتي سيكون بحثا للاستدلال على صحة هذه المقولة التي هي لحد الساعة مجرد فرضية تحتاج إلى إثبات أو نفي...
كما في البحوث العلمية سيبدأ التقصي حول مفهوم المثقف لغة واصطلاحا تعريفا ومفهوما، وسيخلص إلى النتيجة (المثقف كالمهماز توخز به الحمير والبغال)= وظيفة المثقف العضوي الذي يناضل ضد استبداد السلطة ولا يهادن الفساد في مقابل المثقف التقليدي المرتمي في أحضان السلطة ( المثقف عند غرامشي )...
الشخصية الرئيسة (مثقف ثوري راديكالي يبحث عن (المرارة) الحلول الجذرية). استحضر نماذج من الرجال والنساء أصبحوا (رموزا لكلّ كائن إنسانيّ غضوب في زمانه و مكانه.) ضحوا بأنفسهم من أجل الآخرين.
انتقال الشخصية الرئيسة \ المثقف من الادراك إلى الفعل عن طريق الكتابة لكنه سيعاني من استعصاء سببه القمع الذي مورس على الكتبة (إنّما هو كفر الناس بالناس)، استحضار نماذج من المثقفين في التراث تم التنكيل بهم بسبب أفكارهم ومواقفهم من السلطة، وقمعهم والحد من انطلاقهم من لدن النقاد...
لحظة التحول: انخراط المثقف في اللعبة الديموقراطية لكنه سيجد المثقفين منبطحين يجعلون كل ولائهم للسلطة مدافعين عنها، ومن يخرج عن طوعها سيكون مصيره المرتقب هو الهلاك (و اذكر في الكتاب: ما صاحب الملك الا كصاحب الحية ليس يدري متى تنقلب عليه فتلدغه). وإذا سكت عن الحق كان شيطانا...
في النهاية سيصل إلى اكتشاف حقيقة الشعب (" تبّا لهذه الشعوب، آذان عُيُوبٌ... كلها تلوك الكلام لتبتلعه..."
ليعود إلى دائرة السؤال: أكان " التوحيدي على حَقٍّ حين أحرق كُتُبَهُ؟! مَا كَانَ ظَنُّهُ؟! وَ عَلى مَن كَان بِهَا يَضِنُّ؟!"
و مشى ليس يدري:" أأنَا السّائر في الدّرب أمِ الدّربُ يَسِير..."
السؤال عن فعل التوحيدي، يشكك في الجواب الذي طرحته الشخصية الرئيسة جوابا على سؤال العنوان... لتسقط الشخصية في اتون فلسفة عدمية عبثية وهي "اللاأدرية" التي جسدتها قصيدة إليا أبي ماضي التي منها البيت الذي ختمت به القصة.
رهان النص
رهان فني أدبي: كتابة قصة قصيرة مغايرة لما هو سائد تتكئ على لغة خاصة وتعالج قضايا فكرية اعتدنا أن تعالج في مقالات فكرية وأدبية، وكأني بالنص القصصي قد غير عباءته السردية وارتدى عباءة الفكر والمنطق المبني على طرح الفرضيات والعمل على إثبات صحة أو خطئها. وقد جاء النص مشبعا بالمعارف والمعلومات والاقتباسات والتضمينات والتناصات التي لا يكاد سطر يخلو منها، وهذا المنحى سيجعل من هذه القصة القصيرة العالمة ذات الرهانات المتعددة محدودة التداول في مضمار التلقي لأنها تستدعي لفهمها وتحليلها معرفة خلفية متخصصة معظمها مستقاة من التراث العربي الإسلامي...
وختاما : هذه وجهة نظر تكونت لدي بعد قراءة هذه القصة القصيرة المتميزة بلغتها الجميلة، وحقولها المعجمية المتنوعة وأنساقها الدلاية الغنية ورؤيتها الفنية التي ترفع سقف التلقي إلى معالجة قضايا فكرية مظانها الكتب الفكرية قوالأدبية لذلك فهي تحدد متلقيها في دائرة محدودة له القدرة التعاطي مع هذا النوع من القصة القصيرة النخبوية. وما قلته هنا لا ينقص من قيمة هذا النص الأدبي، بل ذلك يرفعه إلى مصاف كتاب عظام جعلوا قصصهم تنو منحى نخبويا بنوعية القضايا التي تطرحها وطرق تناولها... ويحضرني هنا كاتب عالمي متميز هو صاحب المتاهات والنصوص القصصية التي تسقط فيها الحواجز النص السردي والعلوم والتاريخ والجغرافيا وهو خ . ل. بورخيس . ويكفي أن أذكر مجموعة من القصص ترجمها له الأستاذ إبراهيم الخطيب تحت عنوان الدنو من المعتصم.
أعتذر على طول هذا التعليق، وعلى أي شطط في الفهم أو التأويل فذلك من قلة حيلتي وقصوري عن إدراك مرامي النص.
تحياتي وتقديري للكاتب المجتهد الأستاذ سي أحمد بوقراعة .
مبارك السعداني
*************************
الكاتب أحمد بوقراعة
من أكثر النّاس خيانة؟.. قصّة قصيرة
ضلّت عينه كلّ سبيل فهي كعين الأعمى يرتدّ بصرها إلى عمق الظّلام. غلّق عليه الأبواب. و ضلّ عقله كلّ طريق فهو كالمسكين تشابكت و تقاطعت و تضايقت أمامه كل الطرق جامدا هامدا تراخت حركته ، نزع منه العمر و العمل نشاطا كان لا يملّه ،ساح فكره محتارا كيف يرى بعض المثقّفين أكثر النّاس خيانة. وعاد يبحث كالمتهرّب في أصل«ثقف» و تاه في ذلك بين لغة و مصطلح و مفهوم و تعريف. و فجأة ضحك ضحكة لا يدري كيف جَادَتْ بها نفسه و قال :"نعم ثقف العود أي بَرَاهُ فصار طرفه حادا... حادا كالمهماز توخز به الحمير و البغال حَثًّا..."
كان رجلًا يَأْكُلُ الكتب أصنافا و اختلافا يبحث عن المرارة فيها . و كلّ مرّ دواء يتجرّعه المريض يطلب به الشّفاء .كذلك كان يقول و أمّا الحلو فغذاء التافهين. و نظر في سقف بيته فإذا به فتيل فانوس يتدلّى كالمشنوق المخنوق رأىصورا لرجال و نساء أكلهم وفاؤهم و استحضرهم الزمن رموزا لكلّ كائن إنسانيّ غضوب في زمانه و مكانه. فانوس يودّعهم بعين جاحظة و باكية و أخرى :" أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا من الحسن حتى كاد ان يتكلّما ."
ومسك قلما يهمّ بكتابة بعض الأسطر فتجمّدت أصابعه و استعصى عليه الخط و قال بصوت مسموع :" ليس ذلك بغريب . كان ذلك منذ بدء الخليفة ، فلم الحيرة ؟ ... إيجاز في أوّل "البقرة" في المؤمنين وأطناب في الكافرين." ليس كفرا بالله و إنّما هو كفر الناس بالناس و تراءت له من بعيد صورة ابن المقفع يعدم و ابن الرومي يترنّح مسموما و بشار بن برد يقتل بتهمة أذانه سكران في غير وقت الصّلاة . و سمع أيضا أبا نواس ينشد الخليفة ضاحكا مبتهجا "أ أرفضها و الله لم يرفض اسمها و هذا أمير المؤمنين صديقها ؟"
فضحك منه و عليه المتنبي و قد عرّى وجهه للهجير خارجا من قلعة "حلب ... و قد شجّ أبوعلي النحوي رأسه بمفتاح يصيح:
"نعم ... الخيل والليل والبيداء تعرفني والسّيف والرمح والقرطاس والقلم."
و أَسْرى به هذا الشّعر سريعا الى ابن خاقان يوصّي " البحتري" ."خاطبه بما يفهم يا بحتري" فأنعم برأْسِه يقول:" أجمعيهم المتوكّل أم أضعف." وترك الرّجل بيته دون أن يستعد مظهرا الى مجلس قد دُعى إليه فيه أعيان و عيون ورؤوس كبيرة وأخرى صغيرة و أيد طويلة ذات أكفّ عريضة وأخرى " و أوجس منهم خيفة... " وأفواه لها مشافر البغال و الجمال و أخرى رقّت و دقّت ورؤوس ليس لها آذان و أخرى بها قصاع .
كان يعرف مثل هذه المجالس و استقبله البوّاب و لم يضحك له أو يبتسم كان ذلك البوّاب رجلا ضخما و عريضا و أشدّ أناقة منه. و دخل القاعة فرأى خلقا كثيراقلّ أن يرى أمثالهم في الشوارع و بين عامة النّاس و سوادهم و جلس إلى جماعة ألف وجوههم. و بوجه نَضِرٍ نظر إلى صديق قديم أديب مثقّف له في المعرفة نظر و له فيها أراء و له في الحق أقوال و رحّب به مسرورا مستغربا فيه وجه طلقا و عينا باسمه و يدا ناعمة ولباسا فاخرا " فأسرّها في نفسه" و صرّها في حلقه .
وسكن الحاضرون و منهم من صفّق كثيرا فَرَحًا و ترحيبا و لم يكفّ عن ذلك إلّا بأمر. وقام في الناس خطيبٌ فتحدّث بأكثر من لسان في الديمقراطية و في خدمة الشعوب و تحقيق العدل و انحناء الظَّهْرِتعبا و مشقّة يحمل أعباء الناس و أتى كلاما من كلّ أقطار الأرض بما ينفعهم رغم أنّ باللسان تحاذقا فيه كثير تعثّر فالتفت الرّجل الى صديقه الأديب و قال له:
أراد أن يحسّن في مألوف و يغالط تنميقا في مُستهلك مسموع و يبعث حياة في منقضٍ مقبور فعقل وربط لسانه في مكرّر حفظه النّاس و كرهوه وأراد أن يستقدم فصاحة غيره فتعثر حافر لسانه لأبسط حجارة...
أنكر منه صديقه الأديب مقاله و بابتسامة نفث فيها هاروت سحرًاقال : "
ألم تكن بلسان نبي الله موسى عليه السلام عقدة..."
فهمها منه و عرف دائرة بصر عينه و محطّ نفسه و محيطها فأجابه: إذن فاحللْ بلسانك عقدة بلسانه يفقه قوله، ثم ضحك و قال:
والله "لو جاز الغلط على رب العزة لقلت غلط بك و به"
فتركه الاديب ليحاضر في الناس قائلا :
هذا الذي اخترناه و باركناه و باركنا حوله و من حوله.و بَرَكْنَا حوله و له.إنّه الحولأو العام الذي سيغاث الناس فيه. سيزرع الناس و يحصدون و يطمرون، ألم تكن "تؤنس" منذ القديم مطمور روما... السواعد السواعد... ليس فينا خائنون،عاطلون أو قواعد (ويعني قاعدون) فصفق له الحاضرون و أضاف : ستجرى السحابات والغيوم المثقلة نحو ديارنا، و حتى جليد القطبين سيثقب أحشاء الأرض يجري إلينا أنهارا، و حتى "النيل" مجراه و هباته لنا نحن سنصير أمّ الدنيا و بقية البلدان ذراريها
و أشار برأسه الى ذلك الخطيب و قال :
روح و ريحان و فاكهة و رمان و النخل ذات الاكمام فبأي الاء ربكما تكذبان انه الزّارع والحارث وانتم الحاصدون فبأي الاءربّكم قد تشكّون ، انه عصارة جهد النوابغ و "التوابع والزوابع" و "يد موسى تخرج بيضاء من غير سوء" فهو بكم أولى و نحن به "مؤمنون".
فسارع الناس إلى التصفيق و ابتسم له الخطيب. و بدأت أرض القاعة الفسيحة ترتاح من صدى و قع السنابك و الحوافر و بدأ نسيم يتسلل من النوافذ يطهّر فناءها و فضاءها.
صديقة
صديقة علي
وقعد نفر من رجال اخر القاعة يشربون و يتمازحون بادية عليهم نعم من يؤثر نفسه و لو كان بغير خصاصة. و سمع الرّجل أحدهم يثنى بخبث على الأديب لأحد جلاسه يقول: " لمثل هذا يدرس الدّارسون و منّا ينعمون". و بصوت خافت يقول "متّعناه فاستحلى و دعوناه فاستجاب و أمرناه فأطاع فأغلق دماغه عن سوانا، و زدناه فاستعذب و على قدر الكساء يمدّ رجله وليقل غيره ما يشاء فما ضرّنا مدح او قدح. شعرة معاوية نحن صنعناها وهي إلينا دائما فأيدينا المرس و الدّرس الهرس. نحن كالجسم و لكن أضفنا للرجلين ازواجا، و الى الأدي أضعافا. لنا أرجل تضرب في الأرض من أجلنا و"أمطري حيث شئت فحصادك و خراجك راجع اليّ ... و لنا أيد خدم كأنها من الجنّ" تجري بأمرنا... و لم تفسق عن أمر ربّها" فنحن في هذه الأرض" تجري الرياح بأمرنا " لا ترى و يرى النّاس أفعالها و أثارها و تأثيرها و لا حول و لا قوه لهم إلّا النّفس يخرج تنفيسا بكلام لا يشفع بفعل ريح لينة آنا و عاصفة قاصفة دهرا لا تبقي و لا تذر. وكذا أمرنا في الناس "يستميلهم الدّين أحيانا وتقوّمهم العصا دائما ابدا ... و لذلك: " اتتنا الخلافة منقادة إلينا تجرّاذيالها فلا نَصْلُحُ الا لها و لا تصلح إلّا لنا " و التفت الرّجل الى الاديبِ و قال له:
-"لو أنّ الذي كنت تمدح كان قويا متينا عارفا مؤثرا على نفسه صادق السعي والوعد لَكُنْتُ له الظهر واليد والعقل ولكنها حظوظ لجهّالٍ في زمن ردئ ... و اذكر في الكتاب: ما صاحب الملك الا كصاحب الحية ليس يدري متى تنقلب عليه فتلدغه
و ما أمْرك و هؤلاء إلاّ كتلك المرأة التي قالت للجاحظ اتبعني فتبعها فقالت للصائغي ارسم لي صورة ابليس على خاتمي فقال لها: و أنّى لي بصورته فأشارت إلى الجاحظ..."
وَ رَدَّ عليه بعضُ من كان صَامِتًا: "ليس العيب فيما يقال أو في صاحبه و إنّما العيب في مَن يصدّقُ مَا يُقَالُ..."
و خَلَتْ القَاعَة و استراحت من أعجاز النخل و أرداف البِغَالِ فخرج الرّجل مطرِقًا مفكّرًا يَقُولُ : " تبّا لهذه الشعوب، آذان عُيُوبٌ... كلها تلوك الكلام لتبتلعه..."
ثمّ قال بصوت مسموع:
أكان " التوحيدي على حَقٍّ حين أحرق كُتُبَهُ؟! مَا كَانَ ظَنُّهُ؟! وَ عَلى مَن كَان بِهَا يَضِنُّ؟!"
و مشى ليس يدري:" أأنَا السّائر في الدّرب أمِ الدّربُ يَسِير..."
أحمد بو قراعة
القصة القصيرة العالمة: (بين تعدد الرهان ومحدودية التداول) وجهة نظر حول قصة الكاتب أحمد بوقراعة: (من أكثر الناس خيانة؟)
- أ-) حول القصة القصيرة العالمة:
من يقرأ هذه القصة القصيرة سيلاحظ أنها تَخْتَطُّ لنفسها مسارا مغايرا للمعتاد في كتابة القصة القصيرة، وأظن أن الكاتب أحمد بوقراعة يسير بخطوات ثابتة لبناء مشروع متميز له أسس يسعى إلى ترسيخها...
ليست هذه التسمية (القصة القصيرة العالمة) حكم قيمة، إنما هو (مصطلح) يرمي إلى تبني توصيف إجرائي في محاولة لتصنيف هذه القصة القصيرة المختلفة من حيث رؤيتها الفنية ورهاناتها ومعجمها وأدوات اشتغالها وبالأخص انفتاحها على الموروث الثقافي العربي ... وسميتها "بالعالمة " لأنها تراهن على متلق يمتاز بقدرته على الإحاطة بما تحبل به من معارف ومعلومات في مجالات معرفية مختلفة... ويكفينا إلقاء نظرة على معجم هذه القصة القصيرة لنقف على العدة المعرفية التي يحتاجها المتلقي ليلج إلى عوالم هذا النص.
وهذه بعض المكونات النصية التي سمحت بإطلاق صفة العالمة على هذه القصة القصيرة:
1- تتعدد الحقول المعجمية التي وظفها الكاتب في هذا النص، وهي في مجملها تحيل إلى المخزون الثقافي الذي يمتح منه الكاتب والذي يفترض وجود مثيله لدى المتلقي ليتحقق تفاعله الإيجابي مع النص. وهذه بعض الحقول المعجمية التي تؤثث هذا النص:
-الحقل الديني والعرفاني: " البقرة" \ المؤمنون \ الكافرون \الضلال\العين\ العقل\ ساح فكره\ الفانوس....
- حقل الطب: مر الدواء\ المريض\ الشفاء\ حلو الدواء.....
- حقل الأدب: أسماء الشعراء والأدباء (ابن المقفع، ابن الرومي، البحتري، بشار ابن برد، أبو نواس، المتنبي، أبو علي النحوي،ابن خاقان، التوحيدي) أوبيات شعرية، وكتاب "التوابع والزوابع"
- حقل البلاغة: الإيجاز الإطناب...
2- التناص:
تعدد النصوص التي تنفتح عليها هذه القصة القصيرة وتحاورها نذكر منها:
- القرآن: حضور عبارات قرآنية على شكل اقتباسات (الاقتباس: عند البلاغيين هو تضمين الكلام شيء من القرآن أو الحديث النبوي دون الإشارة إلى ذلك) مثال ذلك: (روح و ريحان و فاكهة و رمان و النخل ذات الاكمام فبأي آلاء ربكما تكذبان)، وقوله: (و خَلَتْ القَاعَة و استراحت من أعجاز النخل) اقتباس من قوله تعالى (فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية)
وقوله: ( إنّه الحول أو العام الذي سيغاث الناس فيه. سيزرع الناس و يحصدون و يطمرون..) تناص مع قصة يوسف الواردة في القرآن... و أوجس منهم خيفة ...الخ
- الشعر: حضور بعض الأشعار في ثنايا النص دون الإشارة إلى ذلك وهو ما يعرف في البلاغة بالتضمين... مثال ذلك قوله: (و مشى ليس يدري:" أأنَا السّائر في الدّرب أمِ الدّربُ يَسِير..." وهو من قصيدة إليا أبي ماضي ( جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت)
وكذلك قوله:( اتتنا الخلافة منقادة إلينا تجرّاذيالها فلا نَصْلُحُ الا لها و لا تصلح إلّا لنا ") وهو تضمين من أبيات لأبي العتاهية يقول:
أتته الخلافة منقادة
إليه تجر أذيالها
ولم تك تصلح إلا له
ولم يك يصلح إلا لها
وكذلك بيت البحتري في وصف فصل الربيع : أتاك الربيع
- سير الأدباء الواردة في كتب الأدب:
التركيز على النهايات المأساوية لبعض الأدباء بسبب مواقفهم : إعدام ابن المقفع\ تسميم ابن الرومي\ قتل بشار بن برد ...
العلاقة بين المبدع\ الشاعر والناقد: قصة المتنبي مع أبي علي النحوي... الخ
3- لغة النص مميزة رصينة متينة تتماهى مع لغة التراث( هذه الميزة يمكن للقارئ العادي أن يدركها لذلك لن أفصل في هذه النقطة)
ب) المتن الحكائي:
العنوان: جاء العنوان على صيغة إنشائية استفهامية، وهو استفهام حقيقي يتطلب جوابا. وسيكون النص جوابا عن هذا السؤال. وسنفترض أن هذا السؤال هو الخيط الناظم لمقاطع النص وأجزائه.
- معاناة الشخصية الرئيسة من الضلال في سبيل بحثها عن الحقيقة الحسية (العين) اعتزل (غلق عليه الأبواب) وكأني به قد دخل في أزمة شبيهة بأزمة الغزالي في (المنقذ من الضلال)، البحث عن الحقيقة الفكرية (العقل)... أصبح الضلال مضاعفا عمى البصر وعمى البصيرة.. في لحظة تأمل (رأى المثقفين أكثر الناس خيانة) هذا جواب عن السؤال المطروح في العنوان. هل انتهى النص عند هذا الحد؟ هذا ما يقوله المنطق.. ما دور كل الكلام الذي سيأتي؟
ما سيأتي سيكون بحثا للاستدلال على صحة هذه المقولة التي هي لحد الساعة مجرد فرضية تحتاج إلى إثبات أو نفي...
كما في البحوث العلمية سيبدأ التقصي حول مفهوم المثقف لغة واصطلاحا تعريفا ومفهوما، وسيخلص إلى النتيجة (المثقف كالمهماز توخز به الحمير والبغال)= وظيفة المثقف العضوي الذي يناضل ضد استبداد السلطة ولا يهادن الفساد في مقابل المثقف التقليدي المرتمي في أحضان السلطة ( المثقف عند غرامشي )...
الشخصية الرئيسة (مثقف ثوري راديكالي يبحث عن (المرارة) الحلول الجذرية). استحضر نماذج من الرجال والنساء أصبحوا (رموزا لكلّ كائن إنسانيّ غضوب في زمانه و مكانه.) ضحوا بأنفسهم من أجل الآخرين.
انتقال الشخصية الرئيسة \ المثقف من الادراك إلى الفعل عن طريق الكتابة لكنه سيعاني من استعصاء سببه القمع الذي مورس على الكتبة (إنّما هو كفر الناس بالناس)، استحضار نماذج من المثقفين في التراث تم التنكيل بهم بسبب أفكارهم ومواقفهم من السلطة، وقمعهم والحد من انطلاقهم من لدن النقاد...
لحظة التحول: انخراط المثقف في اللعبة الديموقراطية لكنه سيجد المثقفين منبطحين يجعلون كل ولائهم للسلطة مدافعين عنها، ومن يخرج عن طوعها سيكون مصيره المرتقب هو الهلاك (و اذكر في الكتاب: ما صاحب الملك الا كصاحب الحية ليس يدري متى تنقلب عليه فتلدغه). وإذا سكت عن الحق كان شيطانا...
في النهاية سيصل إلى اكتشاف حقيقة الشعب (" تبّا لهذه الشعوب، آذان عُيُوبٌ... كلها تلوك الكلام لتبتلعه..."
ليعود إلى دائرة السؤال: أكان " التوحيدي على حَقٍّ حين أحرق كُتُبَهُ؟! مَا كَانَ ظَنُّهُ؟! وَ عَلى مَن كَان بِهَا يَضِنُّ؟!"
و مشى ليس يدري:" أأنَا السّائر في الدّرب أمِ الدّربُ يَسِير..."
السؤال عن فعل التوحيدي، يشكك في الجواب الذي طرحته الشخصية الرئيسة جوابا على سؤال العنوان... لتسقط الشخصية في اتون فلسفة عدمية عبثية وهي "اللاأدرية" التي جسدتها قصيدة إليا أبي ماضي التي منها البيت الذي ختمت به القصة.
رهان النص
رهان فني أدبي: كتابة قصة قصيرة مغايرة لما هو سائد تتكئ على لغة خاصة وتعالج قضايا فكرية اعتدنا أن تعالج في مقالات فكرية وأدبية، وكأني بالنص القصصي قد غير عباءته السردية وارتدى عباءة الفكر والمنطق المبني على طرح الفرضيات والعمل على إثبات صحة أو خطئها. وقد جاء النص مشبعا بالمعارف والمعلومات والاقتباسات والتضمينات والتناصات التي لا يكاد سطر يخلو منها، وهذا المنحى سيجعل من هذه القصة القصيرة العالمة ذات الرهانات المتعددة محدودة التداول في مضمار التلقي لأنها تستدعي لفهمها وتحليلها معرفة خلفية متخصصة معظمها مستقاة من التراث العربي الإسلامي...
وختاما : هذه وجهة نظر تكونت لدي بعد قراءة هذه القصة القصيرة المتميزة بلغتها الجميلة، وحقولها المعجمية المتنوعة وأنساقها الدلاية الغنية ورؤيتها الفنية التي ترفع سقف التلقي إلى معالجة قضايا فكرية مظانها الكتب الفكرية قوالأدبية لذلك فهي تحدد متلقيها في دائرة محدودة له القدرة التعاطي مع هذا النوع من القصة القصيرة النخبوية. وما قلته هنا لا ينقص من قيمة هذا النص الأدبي، بل ذلك يرفعه إلى مصاف كتاب عظام جعلوا قصصهم تنو منحى نخبويا بنوعية القضايا التي تطرحها وطرق تناولها... ويحضرني هنا كاتب عالمي متميز هو صاحب المتاهات والنصوص القصصية التي تسقط فيها الحواجز النص السردي والعلوم والتاريخ والجغرافيا وهو خ . ل. بورخيس . ويكفي أن أذكر مجموعة من القصص ترجمها له الأستاذ إبراهيم الخطيب تحت عنوان الدنو من المعتصم.
أعتذر على طول هذا التعليق، وعلى أي شطط في الفهم أو التأويل فذلك من قلة حيلتي وقصوري عن إدراك مرامي النص.
تحياتي وتقديري للكاتب المجتهد الأستاذ سي أحمد بوقراعة .
مبارك السعداني
*************************
الكاتب أحمد بوقراعة
من أكثر النّاس خيانة؟.. قصّة قصيرة
ضلّت عينه كلّ سبيل فهي كعين الأعمى يرتدّ بصرها إلى عمق الظّلام. غلّق عليه الأبواب. و ضلّ عقله كلّ طريق فهو كالمسكين تشابكت و تقاطعت و تضايقت أمامه كل الطرق جامدا هامدا تراخت حركته ، نزع منه العمر و العمل نشاطا كان لا يملّه ،ساح فكره محتارا كيف يرى بعض المثقّفين أكثر النّاس خيانة. وعاد يبحث كالمتهرّب في أصل«ثقف» و تاه في ذلك بين لغة و مصطلح و مفهوم و تعريف. و فجأة ضحك ضحكة لا يدري كيف جَادَتْ بها نفسه و قال :"نعم ثقف العود أي بَرَاهُ فصار طرفه حادا... حادا كالمهماز توخز به الحمير و البغال حَثًّا..."
كان رجلًا يَأْكُلُ الكتب أصنافا و اختلافا يبحث عن المرارة فيها . و كلّ مرّ دواء يتجرّعه المريض يطلب به الشّفاء .كذلك كان يقول و أمّا الحلو فغذاء التافهين. و نظر في سقف بيته فإذا به فتيل فانوس يتدلّى كالمشنوق المخنوق رأىصورا لرجال و نساء أكلهم وفاؤهم و استحضرهم الزمن رموزا لكلّ كائن إنسانيّ غضوب في زمانه و مكانه. فانوس يودّعهم بعين جاحظة و باكية و أخرى :" أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا من الحسن حتى كاد ان يتكلّما ."
ومسك قلما يهمّ بكتابة بعض الأسطر فتجمّدت أصابعه و استعصى عليه الخط و قال بصوت مسموع :" ليس ذلك بغريب . كان ذلك منذ بدء الخليفة ، فلم الحيرة ؟ ... إيجاز في أوّل "البقرة" في المؤمنين وأطناب في الكافرين." ليس كفرا بالله و إنّما هو كفر الناس بالناس و تراءت له من بعيد صورة ابن المقفع يعدم و ابن الرومي يترنّح مسموما و بشار بن برد يقتل بتهمة أذانه سكران في غير وقت الصّلاة . و سمع أيضا أبا نواس ينشد الخليفة ضاحكا مبتهجا "أ أرفضها و الله لم يرفض اسمها و هذا أمير المؤمنين صديقها ؟"
فضحك منه و عليه المتنبي و قد عرّى وجهه للهجير خارجا من قلعة "حلب ... و قد شجّ أبوعلي النحوي رأسه بمفتاح يصيح:
"نعم ... الخيل والليل والبيداء تعرفني والسّيف والرمح والقرطاس والقلم."
و أَسْرى به هذا الشّعر سريعا الى ابن خاقان يوصّي " البحتري" ."خاطبه بما يفهم يا بحتري" فأنعم برأْسِه يقول:" أجمعيهم المتوكّل أم أضعف." وترك الرّجل بيته دون أن يستعد مظهرا الى مجلس قد دُعى إليه فيه أعيان و عيون ورؤوس كبيرة وأخرى صغيرة و أيد طويلة ذات أكفّ عريضة وأخرى " و أوجس منهم خيفة... " وأفواه لها مشافر البغال و الجمال و أخرى رقّت و دقّت ورؤوس ليس لها آذان و أخرى بها قصاع .
كان يعرف مثل هذه المجالس و استقبله البوّاب و لم يضحك له أو يبتسم كان ذلك البوّاب رجلا ضخما و عريضا و أشدّ أناقة منه. و دخل القاعة فرأى خلقا كثيراقلّ أن يرى أمثالهم في الشوارع و بين عامة النّاس و سوادهم و جلس إلى جماعة ألف وجوههم. و بوجه نَضِرٍ نظر إلى صديق قديم أديب مثقّف له في المعرفة نظر و له فيها أراء و له في الحق أقوال و رحّب به مسرورا مستغربا فيه وجه طلقا و عينا باسمه و يدا ناعمة ولباسا فاخرا " فأسرّها في نفسه" و صرّها في حلقه .
وسكن الحاضرون و منهم من صفّق كثيرا فَرَحًا و ترحيبا و لم يكفّ عن ذلك إلّا بأمر. وقام في الناس خطيبٌ فتحدّث بأكثر من لسان في الديمقراطية و في خدمة الشعوب و تحقيق العدل و انحناء الظَّهْرِتعبا و مشقّة يحمل أعباء الناس و أتى كلاما من كلّ أقطار الأرض بما ينفعهم رغم أنّ باللسان تحاذقا فيه كثير تعثّر فالتفت الرّجل الى صديقه الأديب و قال له:
أراد أن يحسّن في مألوف و يغالط تنميقا في مُستهلك مسموع و يبعث حياة في منقضٍ مقبور فعقل وربط لسانه في مكرّر حفظه النّاس و كرهوه وأراد أن يستقدم فصاحة غيره فتعثر حافر لسانه لأبسط حجارة...
أنكر منه صديقه الأديب مقاله و بابتسامة نفث فيها هاروت سحرًاقال : "
ألم تكن بلسان نبي الله موسى عليه السلام عقدة..."
فهمها منه و عرف دائرة بصر عينه و محطّ نفسه و محيطها فأجابه: إذن فاحللْ بلسانك عقدة بلسانه يفقه قوله، ثم ضحك و قال:
والله "لو جاز الغلط على رب العزة لقلت غلط بك و به"
فتركه الاديب ليحاضر في الناس قائلا :
هذا الذي اخترناه و باركناه و باركنا حوله و من حوله.و بَرَكْنَا حوله و له.إنّه الحولأو العام الذي سيغاث الناس فيه. سيزرع الناس و يحصدون و يطمرون، ألم تكن "تؤنس" منذ القديم مطمور روما... السواعد السواعد... ليس فينا خائنون،عاطلون أو قواعد (ويعني قاعدون) فصفق له الحاضرون و أضاف : ستجرى السحابات والغيوم المثقلة نحو ديارنا، و حتى جليد القطبين سيثقب أحشاء الأرض يجري إلينا أنهارا، و حتى "النيل" مجراه و هباته لنا نحن سنصير أمّ الدنيا و بقية البلدان ذراريها
و أشار برأسه الى ذلك الخطيب و قال :
روح و ريحان و فاكهة و رمان و النخل ذات الاكمام فبأي الاء ربكما تكذبان انه الزّارع والحارث وانتم الحاصدون فبأي الاءربّكم قد تشكّون ، انه عصارة جهد النوابغ و "التوابع والزوابع" و "يد موسى تخرج بيضاء من غير سوء" فهو بكم أولى و نحن به "مؤمنون".
فسارع الناس إلى التصفيق و ابتسم له الخطيب. و بدأت أرض القاعة الفسيحة ترتاح من صدى و قع السنابك و الحوافر و بدأ نسيم يتسلل من النوافذ يطهّر فناءها و فضاءها.
صديقة
صديقة علي
وقعد نفر من رجال اخر القاعة يشربون و يتمازحون بادية عليهم نعم من يؤثر نفسه و لو كان بغير خصاصة. و سمع الرّجل أحدهم يثنى بخبث على الأديب لأحد جلاسه يقول: " لمثل هذا يدرس الدّارسون و منّا ينعمون". و بصوت خافت يقول "متّعناه فاستحلى و دعوناه فاستجاب و أمرناه فأطاع فأغلق دماغه عن سوانا، و زدناه فاستعذب و على قدر الكساء يمدّ رجله وليقل غيره ما يشاء فما ضرّنا مدح او قدح. شعرة معاوية نحن صنعناها وهي إلينا دائما فأيدينا المرس و الدّرس الهرس. نحن كالجسم و لكن أضفنا للرجلين ازواجا، و الى الأدي أضعافا. لنا أرجل تضرب في الأرض من أجلنا و"أمطري حيث شئت فحصادك و خراجك راجع اليّ ... و لنا أيد خدم كأنها من الجنّ" تجري بأمرنا... و لم تفسق عن أمر ربّها" فنحن في هذه الأرض" تجري الرياح بأمرنا " لا ترى و يرى النّاس أفعالها و أثارها و تأثيرها و لا حول و لا قوه لهم إلّا النّفس يخرج تنفيسا بكلام لا يشفع بفعل ريح لينة آنا و عاصفة قاصفة دهرا لا تبقي و لا تذر. وكذا أمرنا في الناس "يستميلهم الدّين أحيانا وتقوّمهم العصا دائما ابدا ... و لذلك: " اتتنا الخلافة منقادة إلينا تجرّاذيالها فلا نَصْلُحُ الا لها و لا تصلح إلّا لنا " و التفت الرّجل الى الاديبِ و قال له:
-"لو أنّ الذي كنت تمدح كان قويا متينا عارفا مؤثرا على نفسه صادق السعي والوعد لَكُنْتُ له الظهر واليد والعقل ولكنها حظوظ لجهّالٍ في زمن ردئ ... و اذكر في الكتاب: ما صاحب الملك الا كصاحب الحية ليس يدري متى تنقلب عليه فتلدغه
و ما أمْرك و هؤلاء إلاّ كتلك المرأة التي قالت للجاحظ اتبعني فتبعها فقالت للصائغي ارسم لي صورة ابليس على خاتمي فقال لها: و أنّى لي بصورته فأشارت إلى الجاحظ..."
وَ رَدَّ عليه بعضُ من كان صَامِتًا: "ليس العيب فيما يقال أو في صاحبه و إنّما العيب في مَن يصدّقُ مَا يُقَالُ..."
و خَلَتْ القَاعَة و استراحت من أعجاز النخل و أرداف البِغَالِ فخرج الرّجل مطرِقًا مفكّرًا يَقُولُ : " تبّا لهذه الشعوب، آذان عُيُوبٌ... كلها تلوك الكلام لتبتلعه..."
ثمّ قال بصوت مسموع:
أكان " التوحيدي على حَقٍّ حين أحرق كُتُبَهُ؟! مَا كَانَ ظَنُّهُ؟! وَ عَلى مَن كَان بِهَا يَضِنُّ؟!"
و مشى ليس يدري:" أأنَا السّائر في الدّرب أمِ الدّربُ يَسِير..."
أحمد بو قراعة