في ليل شتوي موحش، يتململ في فراشه، ذات اليمين و ذات الشمال، و تتحسس يده المرتعشة الصخرة الثقيلة الجاثمة على صدره، و سرعان ما تمتد إلى ساقه المبتورة؛ فتهاجمه الأوجاع بضراوة؛ يشعر بأن المناشير لا تزال تنهش لحمه و عظامه، يشعر بآلام حية، لا يسكنها مخدر؛ فيلوذ بالجدران، و تنهمك عيناه الذابلتان في التحديق إلى طلائها الباهت القديم، فكلاهما يعرفان بعضهما البعض جيدا، و الذاكرة تعود بغتة إلى الوراء؛ فيعود إلى زمن، كان الطلاء فيه زاهيا، يرى مربوعته تضج بزوار، اتخذوه كبيرا، و ارتضوه حكما فيما دب بينهم من الشحناء، و الخلافات. يرى نفسه ذلك التاجر عامر الجيب، الذي يغشى أسواق الماشية، يبيع و يشتري، و يعود غانما، يقصد بابه من جاءوا للاستدانة؛ فلا يرد أحدا خائبا. يغشى الأفراح؛ فيتسابق الناس إليه، و في شادر العزاء يجلسونه في الواجهة. يدخل داره؛ فتخفت الأصوات، و يتجمع حوله أبناؤه، و تتهافت زوجاتهم على خدمته. نارجيلته في موضعها المعتاد، بجانبها ركية النار، يتربع على (شلتة) وثيرة محشوة بالقطن، و يصغي إلى أبنائه الواحد تلو الآخر، يهش في وجوههم جميعا، يوجه هذا، و يسدي النصح إلى ذاك؛ فلا يردون له قولا؛ فلتلك الدار الرحبة كبير، و سيدة تقف في الردهة الواسعة، تستقبله عند عودته بابتسامتها العذبة، تتطلع إليه بعينيها الحانيتين؛ فتفهم من النظرة الأولى كيف سار يومه، تسرع إلى الإبريق، و الطست الفضي، و تصب الماء عليه، تعمد إلى إزالة ما علق بوجهه من الملح، و العرق، و التراب، و محو ما تسلل إلى قلبه من الهموم.
طيبة كانت، لكنها أخلفت العهود قبل أن يصل الطريق إلى منتهاه. ذات يوم، و بينما هي في ذروة الألم، تصنعت الابتسام، تحاملت على نفسها، و أخفت ما في قلبها من وجع، كأنما أرادت ألا تحدث جلبة أية جلبة، كأنما رغبت في أن ترحل بهدوء كما عاشت طوال عمرها. يومها رأى وجهها على الفراش مشرقا، لم ينقص الموت من ضوئه شيئا، هزها برفق، و هتف باسمها، لم يصدق على الإطلاق أنها ستفارقه، لكنه في النهاية جلس على شفير قبرها مهزوما، و قد تجمدت الدموع في عينه، في حين راح قلبه ينتحب، و يصرخ، و يتمزق إلى ألف جزء، و جزء. يومها استوطن (السكري) جسده، و راح بمرور الأيام يسد عروقه و شرايينه بدم أزرق، أفسدته شدة الحزن، و مرارة الكمد.
أوردة ساقه اليمنى تنسد تماما، و (الغنغرينة) تصيبها، و مناشير الحديد تسلمه إلى فراش شائك، و أرق طويل. و الناس ناس، لهم ذاكرة من دخان، و المربوعة أمست شاغرة، بعدما تناسوه، و اعتبروه في عداد الموتى، حتى أولاده، تكالبوا على ماله؛ فاقتسموه بمجرد أن سقط، و لما خلا جيبه، صار في نظرهم مجرد شيخ خرف، يستثقلون وجوده، شيخ خرف ما عادوا يرجعون إليه في شيء من شئونهم، و زوجاتهم رحن يتشاجرن، على مرأى و مسمع منه، و لم تخجل أي منهن في كيل السباب للأخرى، و بينما ضاع صوته الواهن بين أصواتهن العالية، ما عدن يسمعنه من الأساس.
الخواطر تزدحم في رأسه، و طلاء الجدران ينطفئ شيئا، فشيئا، و يعود باهتا كما كان؛ فيستبد به السأم، و يظل على تلك الحال إلى أن يرتفع أذان الفجر من ميكرفون المسجد القريب، فيتنفس الصعداء، و يميل بجذعه إلى صحن ممتلئ بالتراب، لا يفارق الصوان المتاخم للسرير، يتيمم، و يؤدي الصلاة، و تداعب أنامله مسبحته، و ينهمك في ترديد الأوراد، و بينما هو كذلك؛ إذ بمهر أبيض مزين بسرج فضي و لجام يقتحم عليه الغرفة، و يدنو من سريره بتؤدة؛ فيذهل الشيخ للحظات، لكنه سرعان ما يستفيق؛ فيتعلق برقبة المهر، و يكد، حتى يعتلي صهوته، و ما إن يعتدل فوقها، حتى يهمز مهره؛ فيخرجان من باب الدار المفتوح على مصراعيه. المهر يركض بأقصى سرعة، و بيوت النجع خلفه تغرق في الضباب، و الشيخ يمد بصره إلى نهاية الطريق؛ فيرى شمسا في أوج زينتها تقف في انتظاره، تتطلع إليه بعينين حانيتين، و قد ارتسم على ثغرها ابتسامة عذبة صافية.
طيبة كانت، لكنها أخلفت العهود قبل أن يصل الطريق إلى منتهاه. ذات يوم، و بينما هي في ذروة الألم، تصنعت الابتسام، تحاملت على نفسها، و أخفت ما في قلبها من وجع، كأنما أرادت ألا تحدث جلبة أية جلبة، كأنما رغبت في أن ترحل بهدوء كما عاشت طوال عمرها. يومها رأى وجهها على الفراش مشرقا، لم ينقص الموت من ضوئه شيئا، هزها برفق، و هتف باسمها، لم يصدق على الإطلاق أنها ستفارقه، لكنه في النهاية جلس على شفير قبرها مهزوما، و قد تجمدت الدموع في عينه، في حين راح قلبه ينتحب، و يصرخ، و يتمزق إلى ألف جزء، و جزء. يومها استوطن (السكري) جسده، و راح بمرور الأيام يسد عروقه و شرايينه بدم أزرق، أفسدته شدة الحزن، و مرارة الكمد.
أوردة ساقه اليمنى تنسد تماما، و (الغنغرينة) تصيبها، و مناشير الحديد تسلمه إلى فراش شائك، و أرق طويل. و الناس ناس، لهم ذاكرة من دخان، و المربوعة أمست شاغرة، بعدما تناسوه، و اعتبروه في عداد الموتى، حتى أولاده، تكالبوا على ماله؛ فاقتسموه بمجرد أن سقط، و لما خلا جيبه، صار في نظرهم مجرد شيخ خرف، يستثقلون وجوده، شيخ خرف ما عادوا يرجعون إليه في شيء من شئونهم، و زوجاتهم رحن يتشاجرن، على مرأى و مسمع منه، و لم تخجل أي منهن في كيل السباب للأخرى، و بينما ضاع صوته الواهن بين أصواتهن العالية، ما عدن يسمعنه من الأساس.
الخواطر تزدحم في رأسه، و طلاء الجدران ينطفئ شيئا، فشيئا، و يعود باهتا كما كان؛ فيستبد به السأم، و يظل على تلك الحال إلى أن يرتفع أذان الفجر من ميكرفون المسجد القريب، فيتنفس الصعداء، و يميل بجذعه إلى صحن ممتلئ بالتراب، لا يفارق الصوان المتاخم للسرير، يتيمم، و يؤدي الصلاة، و تداعب أنامله مسبحته، و ينهمك في ترديد الأوراد، و بينما هو كذلك؛ إذ بمهر أبيض مزين بسرج فضي و لجام يقتحم عليه الغرفة، و يدنو من سريره بتؤدة؛ فيذهل الشيخ للحظات، لكنه سرعان ما يستفيق؛ فيتعلق برقبة المهر، و يكد، حتى يعتلي صهوته، و ما إن يعتدل فوقها، حتى يهمز مهره؛ فيخرجان من باب الدار المفتوح على مصراعيه. المهر يركض بأقصى سرعة، و بيوت النجع خلفه تغرق في الضباب، و الشيخ يمد بصره إلى نهاية الطريق؛ فيرى شمسا في أوج زينتها تقف في انتظاره، تتطلع إليه بعينين حانيتين، و قد ارتسم على ثغرها ابتسامة عذبة صافية.