أما هذا الرجل فيكاد أن يكون مقيما في مرسى القوارب .. يعرفه الصيادون ويعرفه عساكر نقطة الحدود .. بل ويسمحون له بالجلوس على الدكة .. التي يرى في أغلب الأحيان جالسا عليها .. مستنداً بظهره إلى جدار النقطة ، ومتجها بعينيه صوب البحر .
وعندما تهب الريح أو يشتد البرد ، يدعوه العساكر للدخول إلى النقطة ذاتها ، دون أي خوف من الملازم الذي يزور النقطة من وقت لآخر لكي يتفقد العمل أو يوقع على تصاريح الصيد ، فالملازم لم يعترض أبداً على وجوده بالنقطة بل كثيراً ما يداعبه أو يمازحه ، ولا ينصرف إلا بعد أن يوصي العساكر بأن يشركوه في طعامهم وشرابهم .
أما هو فيبقى في مكانه هذا طوال النهار ، من.. الصباح الباكر وحتى مغيب الشمس ، حين يغلق العساكر المرسى في وجه القوارب العائدة ، التي لا يسمحون لها بدخول المرسى إلا خلال ساعات النهار ، حينئذ ينهض الرجل من فوق الدكة ، ويولي وجهه صوب النجع ، حاملا نصيبه من صيد اليوم ، الذي يهديه إياه الصيادون .
يفعل الرجل ذلك منذ أكثر من عشر سنوات ، لم يتخلف عن ذلك خلالها سوى بضعة أيام متقطعة ، لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة ، وعندما يأتي في اليوم التالي ، يسأله العساكر والصيادون عن سبب تخلفه بالأمس ، فيجيبهم بأنه كان مريضاً ، وأنه لن يتغيب مرة أخرى حتى يكون في استقبال إبراهيم عند عودته ، هو يعرف إلى حد اليقين أن إبراهيم سيعود ذات يوم ، في ذات القارب الذي رحل به منذ عشر سنوات .
بدأت القصة بمجرد عبث ، عبث أطفال لا أكثر ، فالصبي إبراهيم الذي لم يتجاوز عمره الخامسة عشرة ، والذي رافق أباه عدة مرات في رحلات صيد ، فكر في أن يستمتع بنزهة بحرية مع أحد آخر يقاربه في السن ، لم يعرض إبراهيم الفكرة على أبيه ، إذ كان يدرك جيداً أن أباه سيرفضها تماماً ، فإبراهيم لم يكن لديه الخبرة الكافية بشئون البحر ، ولم يكن على دراية بمواقع الشعاب المرجانية ، التي تختبئ رؤوسها بالقرب من سطح الماء ، وهي كفيلة بتحطيم أي قارب مهما كانت متانته بمجرد الاصطدام بها ، ولكن الصبي المراهق لم يعبأ كثيرا بذلك ، فقد اغتنم فرصة غياب أبيه ، ولم يتبق أمامه سوى عقبة واحدة وهى عساكر النقطة ، ورأى الصبى أن تلك العقبة يمكن تذليلها ، وأن بإمكانه مغافلة العساكر ، فالعساكر لا يتواجدون دائماً على الساحل ، بل كثيراً ما يقضون وقتهم داخل النقطة ذاتها ، يثرثرون ، أو يتناولون الطعام ، مطمئنين إلى أن الأمور تسير على ما يرام في الخارج ، وأن قارباً هو واحداً من القوارب الكثيرة التي ترسو على الشاطئ لن يجرؤ على الإبحار خلسة .
ولقد كان الصبي محقاً في ذلك ، ونجح بالفعل في التسلل إلى القارب هو ورفيقه دون أن ينتبه إليهما عساكر النقطة ، ساعدهما في ذلك أن القارب كان يرسون بعيداً عن النقطة ، وأن قوارب عديدة أخرى كانت تقف حائلاً بينهم وبين النقطة ، فخاض الصبيان في المياه بحذر شديد ، حتى بلغا القارب ، وقبل أن يصعدا إلى القارب ، ألقيا نظرة إلى نقطة الحدود ، فلم يجدا أحداً من العساكر خارجها ، فتشبثا بالقارب ، وصعدا إليه ، وقام أحدهما بجذب المرساة ، ثم شرعا في التجديف صوب المياه العميقة .
عندما بلغا المياه العميقة كان قد أجهدا من التجديف ، ولكن لم يكن بمقدورهما أن يتوقفا لحظة واحدة عن استخدام المجاديف ، تلك مخاطرة يعرفها كل من ارتاد البحر ، التوقف عن التجديف يعني أن يستحيل القارب ريشة في مهب الريح ، ريشة تتلاعب بها الأمواج والرياح تدفعها إلى حيث تشاء ، والنهاية معروفة ، أن يتحطم القارب فوق أقرب رأس من رؤوس الشعاب المرجانية التي يعج بها البحر ، والتي لا يعرف الصبيان موقعها على وجه التحديد .
من هنا اختار الصبيان أن يرفعا الشراع ، فازدادت سرعة القارب ، واتجهت مقدمته صوب الشمال ، لم يكن الصبيان يدركان أن رفع الشراع يعني أنهما يتركان القيادة للرياح ، تتحكم في توجيه القارب كما تشاء ، خاصة مع وجود صبيين يجهلان فنون المناورة بالشراع ، وفي تلك اللحظة بالذات خرج أحد العساكر من النقطة ولمح القارب في عرض البحر ، فقام بإبلاغ الملازم الذي أرسل إشارة عاجلة لخفر السواحل لضبط القارب في عرض البحر .
من يركب البحر يركب الرياح تلك حقيقة يعرفها الصيادون المخضرمون ، وهذا على وجه التحديد ما لم يكن الصبيان المراهقان يعرفانه جيداً ، فقد أبحرا ، وخاطرا برفع الأشرعة في وقت كانت رياح الأزيب الجنوبية تلفظ أنفاسها وكانت رياح الشرو العاتية القادمة من الشمال تتأهب للانقضاض عليها ، لا عجب إذا ، والأمر كذلك ، أن زورق خفر السواحل ، الذي تلقى الإشارة ثم تلكأ في التحرك ، لم يعثر على أي أثر للقارب .
بعد ثلاثة أيام ألقى البحر إلى الشاطئ ببعض قطع من حطام القارب ، انتشلها بعض الصيادين ، وعندما تم استدعاء أبي إبراهيم أقر بأن هذا الحطام هو لقاربه ، وبعد خمسة أيام ظهرت جثة واحدة ألقى بها البحر بالقرب من نفس المكان الذي عثروا فيه على الحطام ، وكشفت المعاينة أن الجثة للصبي الآخر .
منذ ذلك الحين والرجل يأتي إلى المرسى كل صباح ، ويقبع في مكانه، متجهاً بناظريه صوب البحر ، يجلس صامتاً كأنه أخرس ، فيحاول العساكر ، ممازحته ، ولكنه نادراً ما يستجيب للممازحة ، بل يكتفي حيناً بالابتسام ويقطب جبينه حيناً آخر ، وعندما يقترب أحد الصيادين من النقطة ، كي يسجل اسمه قبل الإبحار ، يرفع الرجل عينيه ويرمقه بنظرة ذات مغزى ، وغالبا ما يفهم الصياد مغزى النظرة ، فيومئ برأسه ، وهي إشارة من الصياد على أنه سيبحث عن إبراهيم ، وأنه سيأتي به بمجرد أن يصادفه في مكان ما من البحر .
يتقاطر الصيادون منذ الصباح الباكر على نقطة الحدود لتسجيل أسمائهم ، ويرمقهم الرجل جميعا بذات النظرة ، فيعدونه جميعا بالبحث عن إبراهيم أثناء وجودهم في البحر ، ثم يبحر الصيادون ، ويبدأ أغلبهم في العودة إلى المرسى قبيل المغرب ، بينما يقضى بعضهم ليلته في البحر حتى الصباح ، ثم يعودون في اليوم التالي ، ليقدموا للرجل نفس الاعتذار الذي يسمعه من سنوات لم نجد إبراهيم ربما نعثر عليه غدا إن شاء الله .
تمضي الأيام والسنون والرجل لا يزال متشبثاً بأن إبراهيم لا يزال حياً .. وأن صياداً سيعثر عليه ذات يوم .. قال الرجل ذلك صراحة أكثر من مرة .. قالها في تلك المرات القليلة التي كان يتخلى فيها عن صمته .. قال أنه أكثرهم دراية بالبحر .. البحر قد يغدر .. وقد يقتل .. ولكنه سرعان ما يعتذر عن فعلته بأن يلقي بجثث ضحاياه إلى الشاطئ .. هذا هو البحر الذي أعرفه .. فهل تعرفون بحراً آخر؟! .. يقولها .. ثم يعود إلى صمته ويلقي بعينيه بعيداً إلى البحر .. بعيدا جدا .. صوب آخر موجة تتراءى له من بعيد .
وعندما تهب الريح أو يشتد البرد ، يدعوه العساكر للدخول إلى النقطة ذاتها ، دون أي خوف من الملازم الذي يزور النقطة من وقت لآخر لكي يتفقد العمل أو يوقع على تصاريح الصيد ، فالملازم لم يعترض أبداً على وجوده بالنقطة بل كثيراً ما يداعبه أو يمازحه ، ولا ينصرف إلا بعد أن يوصي العساكر بأن يشركوه في طعامهم وشرابهم .
أما هو فيبقى في مكانه هذا طوال النهار ، من.. الصباح الباكر وحتى مغيب الشمس ، حين يغلق العساكر المرسى في وجه القوارب العائدة ، التي لا يسمحون لها بدخول المرسى إلا خلال ساعات النهار ، حينئذ ينهض الرجل من فوق الدكة ، ويولي وجهه صوب النجع ، حاملا نصيبه من صيد اليوم ، الذي يهديه إياه الصيادون .
يفعل الرجل ذلك منذ أكثر من عشر سنوات ، لم يتخلف عن ذلك خلالها سوى بضعة أيام متقطعة ، لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة ، وعندما يأتي في اليوم التالي ، يسأله العساكر والصيادون عن سبب تخلفه بالأمس ، فيجيبهم بأنه كان مريضاً ، وأنه لن يتغيب مرة أخرى حتى يكون في استقبال إبراهيم عند عودته ، هو يعرف إلى حد اليقين أن إبراهيم سيعود ذات يوم ، في ذات القارب الذي رحل به منذ عشر سنوات .
بدأت القصة بمجرد عبث ، عبث أطفال لا أكثر ، فالصبي إبراهيم الذي لم يتجاوز عمره الخامسة عشرة ، والذي رافق أباه عدة مرات في رحلات صيد ، فكر في أن يستمتع بنزهة بحرية مع أحد آخر يقاربه في السن ، لم يعرض إبراهيم الفكرة على أبيه ، إذ كان يدرك جيداً أن أباه سيرفضها تماماً ، فإبراهيم لم يكن لديه الخبرة الكافية بشئون البحر ، ولم يكن على دراية بمواقع الشعاب المرجانية ، التي تختبئ رؤوسها بالقرب من سطح الماء ، وهي كفيلة بتحطيم أي قارب مهما كانت متانته بمجرد الاصطدام بها ، ولكن الصبي المراهق لم يعبأ كثيرا بذلك ، فقد اغتنم فرصة غياب أبيه ، ولم يتبق أمامه سوى عقبة واحدة وهى عساكر النقطة ، ورأى الصبى أن تلك العقبة يمكن تذليلها ، وأن بإمكانه مغافلة العساكر ، فالعساكر لا يتواجدون دائماً على الساحل ، بل كثيراً ما يقضون وقتهم داخل النقطة ذاتها ، يثرثرون ، أو يتناولون الطعام ، مطمئنين إلى أن الأمور تسير على ما يرام في الخارج ، وأن قارباً هو واحداً من القوارب الكثيرة التي ترسو على الشاطئ لن يجرؤ على الإبحار خلسة .
ولقد كان الصبي محقاً في ذلك ، ونجح بالفعل في التسلل إلى القارب هو ورفيقه دون أن ينتبه إليهما عساكر النقطة ، ساعدهما في ذلك أن القارب كان يرسون بعيداً عن النقطة ، وأن قوارب عديدة أخرى كانت تقف حائلاً بينهم وبين النقطة ، فخاض الصبيان في المياه بحذر شديد ، حتى بلغا القارب ، وقبل أن يصعدا إلى القارب ، ألقيا نظرة إلى نقطة الحدود ، فلم يجدا أحداً من العساكر خارجها ، فتشبثا بالقارب ، وصعدا إليه ، وقام أحدهما بجذب المرساة ، ثم شرعا في التجديف صوب المياه العميقة .
عندما بلغا المياه العميقة كان قد أجهدا من التجديف ، ولكن لم يكن بمقدورهما أن يتوقفا لحظة واحدة عن استخدام المجاديف ، تلك مخاطرة يعرفها كل من ارتاد البحر ، التوقف عن التجديف يعني أن يستحيل القارب ريشة في مهب الريح ، ريشة تتلاعب بها الأمواج والرياح تدفعها إلى حيث تشاء ، والنهاية معروفة ، أن يتحطم القارب فوق أقرب رأس من رؤوس الشعاب المرجانية التي يعج بها البحر ، والتي لا يعرف الصبيان موقعها على وجه التحديد .
من هنا اختار الصبيان أن يرفعا الشراع ، فازدادت سرعة القارب ، واتجهت مقدمته صوب الشمال ، لم يكن الصبيان يدركان أن رفع الشراع يعني أنهما يتركان القيادة للرياح ، تتحكم في توجيه القارب كما تشاء ، خاصة مع وجود صبيين يجهلان فنون المناورة بالشراع ، وفي تلك اللحظة بالذات خرج أحد العساكر من النقطة ولمح القارب في عرض البحر ، فقام بإبلاغ الملازم الذي أرسل إشارة عاجلة لخفر السواحل لضبط القارب في عرض البحر .
من يركب البحر يركب الرياح تلك حقيقة يعرفها الصيادون المخضرمون ، وهذا على وجه التحديد ما لم يكن الصبيان المراهقان يعرفانه جيداً ، فقد أبحرا ، وخاطرا برفع الأشرعة في وقت كانت رياح الأزيب الجنوبية تلفظ أنفاسها وكانت رياح الشرو العاتية القادمة من الشمال تتأهب للانقضاض عليها ، لا عجب إذا ، والأمر كذلك ، أن زورق خفر السواحل ، الذي تلقى الإشارة ثم تلكأ في التحرك ، لم يعثر على أي أثر للقارب .
بعد ثلاثة أيام ألقى البحر إلى الشاطئ ببعض قطع من حطام القارب ، انتشلها بعض الصيادين ، وعندما تم استدعاء أبي إبراهيم أقر بأن هذا الحطام هو لقاربه ، وبعد خمسة أيام ظهرت جثة واحدة ألقى بها البحر بالقرب من نفس المكان الذي عثروا فيه على الحطام ، وكشفت المعاينة أن الجثة للصبي الآخر .
منذ ذلك الحين والرجل يأتي إلى المرسى كل صباح ، ويقبع في مكانه، متجهاً بناظريه صوب البحر ، يجلس صامتاً كأنه أخرس ، فيحاول العساكر ، ممازحته ، ولكنه نادراً ما يستجيب للممازحة ، بل يكتفي حيناً بالابتسام ويقطب جبينه حيناً آخر ، وعندما يقترب أحد الصيادين من النقطة ، كي يسجل اسمه قبل الإبحار ، يرفع الرجل عينيه ويرمقه بنظرة ذات مغزى ، وغالبا ما يفهم الصياد مغزى النظرة ، فيومئ برأسه ، وهي إشارة من الصياد على أنه سيبحث عن إبراهيم ، وأنه سيأتي به بمجرد أن يصادفه في مكان ما من البحر .
يتقاطر الصيادون منذ الصباح الباكر على نقطة الحدود لتسجيل أسمائهم ، ويرمقهم الرجل جميعا بذات النظرة ، فيعدونه جميعا بالبحث عن إبراهيم أثناء وجودهم في البحر ، ثم يبحر الصيادون ، ويبدأ أغلبهم في العودة إلى المرسى قبيل المغرب ، بينما يقضى بعضهم ليلته في البحر حتى الصباح ، ثم يعودون في اليوم التالي ، ليقدموا للرجل نفس الاعتذار الذي يسمعه من سنوات لم نجد إبراهيم ربما نعثر عليه غدا إن شاء الله .
تمضي الأيام والسنون والرجل لا يزال متشبثاً بأن إبراهيم لا يزال حياً .. وأن صياداً سيعثر عليه ذات يوم .. قال الرجل ذلك صراحة أكثر من مرة .. قالها في تلك المرات القليلة التي كان يتخلى فيها عن صمته .. قال أنه أكثرهم دراية بالبحر .. البحر قد يغدر .. وقد يقتل .. ولكنه سرعان ما يعتذر عن فعلته بأن يلقي بجثث ضحاياه إلى الشاطئ .. هذا هو البحر الذي أعرفه .. فهل تعرفون بحراً آخر؟! .. يقولها .. ثم يعود إلى صمته ويلقي بعينيه بعيداً إلى البحر .. بعيدا جدا .. صوب آخر موجة تتراءى له من بعيد .