عندما أرسل نزار قباني رسالته الشهيرة من تحت الماء، وصدح بها عبد الحليم متغنّياً بكلماتها، إني أتنفّس تحت الماء، إني أغرق، كانا كلاهما على البرّ.
وتهيّأ لنزار إنه غاص في البحر، وتذكّر وهو يهوي إلى قاعه الفكريّ بأنه لا يعرف فنّ العوم، وظلّ يردّد، إني أغرق، إني أغرق، منتظراً من حبيبته أن تنتشله من استماتته في بحر الحب، وما كان غارقاً إلا في بحر هيامه.
بدليل أنّ رسالته وصلتْ لمن يتلقّفها!
حتى أنها لم تصل إلينا مبللة بالماء المالح، ولا حتى بالماء الجاري، بل وصلَتْ جافّة، ناشفة بأحبارها، مطبوعة في ديوان.
أما فكرة إرسال رسالة من تحت الماء فهي ولا غرو قديمة، وأقدم بكثير من نزار. عندما كان الإنسان يعجز عن طرح فكرته، أو يخشى من البوح برأيه، فكان يضع رسالته في زجاجة، ويُحكِم إغلاقها ويطرحها في اليم، فتصل عندها للقارئ خلف الشطوط أو للغوّاص الباحث عن اللؤلؤ، كرسالة حقيقية من تحت الماء، وقد تكون قديمة أو مغرقة في القدم.
وكثيراً ما كانوا يهتمّون بها كلُقيا، كمخطط أو خريطة لكنز القرصان. وأحياناً يجدونها تافهة، وفيها حرفان لمطلع اسمَي العاشقين، وبينهما قلبٌ مرسوم لا ينبض، وسهم الحب يخترقه، وتسيل منه نقطتان من دموع الخيبة على الوصال الممنوع.
كنّا ليلتَها في زورق اللاجئين، لأننا انطلقنا كاللصوص تحت جنح الليل من الشاطئ الجهنّمي، يحدونا الأمل بالوصول لشاطئ الجنّة. أشبه بالمهرِّبين، ولم نكُ بمهرِّبين، بل كنا مُهرَّبين يقودُنا المُهرِّب الخبير.
كبضاعةٍ ممنوعة هنا وممنوعة أيضاً هناك
لسنا حشيشاً أو مخدّرات، فالحشيش غالي الثمن، ونحن كنا، وما نزال، بضاعةً جدُّ رخيصة.
وتمايل المركب العجوز ينوء بثقل بضاعته المكدّسة، ولطمَتنا أذيال الأمواج الأخطبوطية على وجوهنا، فتلاحمَت أجسادنا المقشعرّة التي قد تواجه نفس وبئس المصير.
ما كانت على البر لتسمح لي باحتضانها، وكانت تتكهرب لمجرّد لمسها
لكنّ البحر وجبروته، والزورق المعزول كجزيرةٍ بلا عنوان، جعلاها تغور بي لأشتملها كعباءة البدوي، فلا يبقى منها إلا وجهها المبلل بالرذاذ المالح، وشعرها الغجري المجنون سيسافر في كلّ الدنيا.
وسمعنا البعض يحرّضنا لنغنّي معاً أغنية البحّارة التي غنّتها فيروز، هيلا يا واسع، مركبَك راجع.
لكنّي وإياها، كنا على إيقاع عبد الحليم الحزين، بأننا سنتنفّس تحت الماء، وأننا سنغرق.
أخذتُ من يدها قارورة الماء البلاستيكية، وأهرقْتُ ثمالتها في البحر المكتظ بمائه المالح عساه يحلو، وقلت، تعالي نكتب رسالة باسمي وباسمك مقترنين بقلبٍ واحد ونرميها في البحر، لا تخافي فلن تصل إلى شاطئ الآباء والجدود، وإن وصلت إليهم عبر الموج يدفعها التيار، فلا خوف إذ أننا سنكون خلف البحار.
وراقت لها الفكرة
لا لشيء إلا للسلوى عن هموم الساعة العصيبة
ومزّقتُ ورقة صغيرة من مفكّرتي الجيبية، وقلمي الأزرق الناشف عجز عن الكتابة على وقع هزيز الورقة المسترطبة.
هاتي قلم حمرتكِ الأحمر، أو قلم كحلك الأسود إن كان مبريّاً
وأطاعت ببهجة المترقّب لحدثٍ سعيد
ورسمتُ قلباً يخترقه سهم الحب، وعلى جنباته اسمينا بالعربيّة.
ابتسمَتْ وقالت، اكتبهما بأحرفٍ لاتينية، فقد تذهب قارورتنا لبلاد الغرب.
وأطعتُها، وزوّقتُ اسمينا تزويقاً فنيّاً.
وقلت:
-يحتاج الأمر بصمتكِ، ليكون الكتاب شرعيّاً
فطبعَتْ على الورقة بصمة شفتيها المطليّتين بالحُمرة، وناولتنْي الورقة وقالت:
-وبصمتك
ولم أدر كيف أبصم، فلوّنَتْ شفتيّ بقلم حمرتها تخبيصاً وبقسوة الفنّان المستعجل، ولم نخجل لأن الليل كان يستر تخبيصنا، وهزيز المركب وتقلقله يجعلان يدها تجوز عن حدود فمي المطبق.
وقبّلتُ الورقة مثلها فكانت بصمتي كلطخة حمراء لا معنى لها
ولعقتُ ما استزاد من الحمرة اللزجة، ووجدتُ طعمَها مستحبّاً.
وقبل أن أدخِل ورقتي ملفوفةً في قارورتها الصغيرة
عرضتُها عليها لأخذ موافقتها النهائية
فقالت، أضِفْ تاريخ الواقعة، فذيّلتُها بتاريخ ذاك الزمان.
وقذفتُها بعيداً، قارورتنا المقفلة على سرّها الدفين
فهلّلتْ بما يشبه الزغرودة، وأخرجَتْ يديها لتصفّق كالطفلة عندما ترمي طائرة الورق من سطح العمارة.
وشاهد الركاب القارورة المقذوفة ولم يعرفوا كنه ما فيها من سرّ
وأخذ الليل رسالتنا الطافية، ولم يبتلعها الموج، واختفت عنا، ورأيتها تُطرِق إلى أسفل وتعضّ شفتَها السفلى، وكأنها ارتكبت معصية على الملأ.
-هيه وماذا جرى؟ إنها مجرّد قارورة وخسرتيها!
ضحكت من فرط عصابها وقالت:
-بالله عليك دعك من لفظة قارورة، فأنا لم أخسر قارورتي بعد. قل قنينة يا أخي أو زجاجة
وضحكنا ضحك طفلين معاً كما قالت أم كلثوم في أطلالها، لكننا لم نعدُ لنسبق ظلنا لأننا كنا محشورَين في مركب
وشاهد طفلٌ يجلس قبالتنا في حضن أمه تلك اللعبة، وراقت له، وطلب مني ورقة ليرميها في الماء مثلنا، فأعطيته مفكرتي الصغيرة من جيبي. وكان يمزّق صفحاتها ويرميها، الواحدة تلو الأخرى، وتأخذها الريح كقصاصاتٍ ورقية، ثم يأخذها الموج كمناشير تلقيها إحدى الطائرات المعادية، بتحذيرٍ للسكان المدنيين لأنّ القصف الجويّ سيبدأ بعد قليل.
وأخذ الليل والبحر الهادر أوراق مفكرتي بما فيها من أرقام هواتفي ومخططاتي ومهامي التي قد أنجزها، كله إلى البحر، بما فيها من مذكرات، هباءً منثوراً، لا بأس، فكله سيكون جديداً في الحياة الآيلة للانفتاح.
لكنْ...
ما بال محرّك المركب يزداد عنيناً ويفحّ فحيحاً؟
وما بال المركب يتباطأ عن عنفوانه؟
كأنه صار لقمة سائغة بين أضراس الموج وألسنته، لا .. لا تمضعنا أيها الموج، لا .. لا تحاول أن تبلعنا إلى جوفك البارد!
كان الصياح فوضوياً من الركاب كالأسرى المشدوهين الذين وقعوا في كمينٍ قاتل، ثم تخافتت الأصوات إذ أنّ الأجساد والعقول والقلوب والعضلات تحفّزت للمصيبة القادمة.
وازداد التصاقها بي، وكانت تبتسم على رعدتها، وقالت :
-هلمّ بنا نقف كوقفة العاشقَين في التايتانك!
وهيهات منّا الوقوف، على أرضنا الخشبية المتزلزلة.
لا أدري لماذا سمِعْت في دقائقنا تلك صوت عبد الحليم قوياًّ، كأننا صرنا قريبين منه ومن نزار وهما الأموات.
أسيُغنّي لنا عبد الحليم وجهاً لوجه؟
إني أتنفس تحت الماء، إني أغرق، أسمعها الآن ملحّنة وذات صدى..
بالحقيقة إني أغرق، أغرق، والكل من حولي يغرقون وسيغرقون!
وصار صوت عبد الحليم أقوى وأكثر وضوحاً، إن كنت قوياً أخرجني من هذا اليم، فأنا لا أعرف فن العوم.
وتذكّرت أنني أعرف فن العوم، فلا استسلام للموت
وابتلع الموج الكثيرين بسلاسة، وبعضهم ذاب بلا أثر كحبّات السكر في الماء البارد الذي يغلي أمواجاً وفقاقيع.
عندما جهجه ضوء الفجر، كانت يداي الكليلتان ممسكتين ببقايا صندوق خشبي، وكنت وحدي، إلا من بساطٍ بحريّ أزرق ساكن بلا أمواج
ونظرتُ يمنة ويسرة، فلا حركة ولا صوت، إلا أوراقاً وجوازات سفر وبقايا ثياب ملوّنة تطفو، تلك هي رسائلهم من تحت الماء!.
وضحكتُ لأوراق نقدية طافية من حولي، بعضها من عملات صعبة وبعضها من عملات، للأسف سهلة!
كله بلا قيمة، أمام الحياة العزيزة .
الله الذي يرى، اسمُه تردّد عبر الصيحات التي سمعتها كآخر ما سمعت من أصواتهم
والله الذي يرى هو القويّ الذي سيخرجني من هذا اليم، ولو أني أعرف فن العوم.
عندما جاءت المراكب لتنتشلنا، وجدتُ فيها بعضاً من ناجين مقمّطين بالملاءات كالمومياءات المنبعثة من قاع الهرم وليس من قاع البحر، وبحثت في وجوهم عنها، وأملي أن تكون في مركبٍ ما.
وطافت المراكب في دوراتٍ عديدة تبحث عمّن تلتقطه من أرواح، دارت ودارت ككتيبة طبية تنظف أرض المعركة علّها تجد جريحاً قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة.
وعندما قرروا العودة لترك بقية المهمة للغواصين، رجوتهم أن يطوفوا أكثر وأكثر، كنت أدقق النظر في صفحة المياة علّني أجد رسالتنا المشتركة في قارورتها البلاستيكة، وما وجدتها.
وتهيّأ لنزار إنه غاص في البحر، وتذكّر وهو يهوي إلى قاعه الفكريّ بأنه لا يعرف فنّ العوم، وظلّ يردّد، إني أغرق، إني أغرق، منتظراً من حبيبته أن تنتشله من استماتته في بحر الحب، وما كان غارقاً إلا في بحر هيامه.
بدليل أنّ رسالته وصلتْ لمن يتلقّفها!
حتى أنها لم تصل إلينا مبللة بالماء المالح، ولا حتى بالماء الجاري، بل وصلَتْ جافّة، ناشفة بأحبارها، مطبوعة في ديوان.
أما فكرة إرسال رسالة من تحت الماء فهي ولا غرو قديمة، وأقدم بكثير من نزار. عندما كان الإنسان يعجز عن طرح فكرته، أو يخشى من البوح برأيه، فكان يضع رسالته في زجاجة، ويُحكِم إغلاقها ويطرحها في اليم، فتصل عندها للقارئ خلف الشطوط أو للغوّاص الباحث عن اللؤلؤ، كرسالة حقيقية من تحت الماء، وقد تكون قديمة أو مغرقة في القدم.
وكثيراً ما كانوا يهتمّون بها كلُقيا، كمخطط أو خريطة لكنز القرصان. وأحياناً يجدونها تافهة، وفيها حرفان لمطلع اسمَي العاشقين، وبينهما قلبٌ مرسوم لا ينبض، وسهم الحب يخترقه، وتسيل منه نقطتان من دموع الخيبة على الوصال الممنوع.
كنّا ليلتَها في زورق اللاجئين، لأننا انطلقنا كاللصوص تحت جنح الليل من الشاطئ الجهنّمي، يحدونا الأمل بالوصول لشاطئ الجنّة. أشبه بالمهرِّبين، ولم نكُ بمهرِّبين، بل كنا مُهرَّبين يقودُنا المُهرِّب الخبير.
كبضاعةٍ ممنوعة هنا وممنوعة أيضاً هناك
لسنا حشيشاً أو مخدّرات، فالحشيش غالي الثمن، ونحن كنا، وما نزال، بضاعةً جدُّ رخيصة.
وتمايل المركب العجوز ينوء بثقل بضاعته المكدّسة، ولطمَتنا أذيال الأمواج الأخطبوطية على وجوهنا، فتلاحمَت أجسادنا المقشعرّة التي قد تواجه نفس وبئس المصير.
ما كانت على البر لتسمح لي باحتضانها، وكانت تتكهرب لمجرّد لمسها
لكنّ البحر وجبروته، والزورق المعزول كجزيرةٍ بلا عنوان، جعلاها تغور بي لأشتملها كعباءة البدوي، فلا يبقى منها إلا وجهها المبلل بالرذاذ المالح، وشعرها الغجري المجنون سيسافر في كلّ الدنيا.
وسمعنا البعض يحرّضنا لنغنّي معاً أغنية البحّارة التي غنّتها فيروز، هيلا يا واسع، مركبَك راجع.
لكنّي وإياها، كنا على إيقاع عبد الحليم الحزين، بأننا سنتنفّس تحت الماء، وأننا سنغرق.
أخذتُ من يدها قارورة الماء البلاستيكية، وأهرقْتُ ثمالتها في البحر المكتظ بمائه المالح عساه يحلو، وقلت، تعالي نكتب رسالة باسمي وباسمك مقترنين بقلبٍ واحد ونرميها في البحر، لا تخافي فلن تصل إلى شاطئ الآباء والجدود، وإن وصلت إليهم عبر الموج يدفعها التيار، فلا خوف إذ أننا سنكون خلف البحار.
وراقت لها الفكرة
لا لشيء إلا للسلوى عن هموم الساعة العصيبة
ومزّقتُ ورقة صغيرة من مفكّرتي الجيبية، وقلمي الأزرق الناشف عجز عن الكتابة على وقع هزيز الورقة المسترطبة.
هاتي قلم حمرتكِ الأحمر، أو قلم كحلك الأسود إن كان مبريّاً
وأطاعت ببهجة المترقّب لحدثٍ سعيد
ورسمتُ قلباً يخترقه سهم الحب، وعلى جنباته اسمينا بالعربيّة.
ابتسمَتْ وقالت، اكتبهما بأحرفٍ لاتينية، فقد تذهب قارورتنا لبلاد الغرب.
وأطعتُها، وزوّقتُ اسمينا تزويقاً فنيّاً.
وقلت:
-يحتاج الأمر بصمتكِ، ليكون الكتاب شرعيّاً
فطبعَتْ على الورقة بصمة شفتيها المطليّتين بالحُمرة، وناولتنْي الورقة وقالت:
-وبصمتك
ولم أدر كيف أبصم، فلوّنَتْ شفتيّ بقلم حمرتها تخبيصاً وبقسوة الفنّان المستعجل، ولم نخجل لأن الليل كان يستر تخبيصنا، وهزيز المركب وتقلقله يجعلان يدها تجوز عن حدود فمي المطبق.
وقبّلتُ الورقة مثلها فكانت بصمتي كلطخة حمراء لا معنى لها
ولعقتُ ما استزاد من الحمرة اللزجة، ووجدتُ طعمَها مستحبّاً.
وقبل أن أدخِل ورقتي ملفوفةً في قارورتها الصغيرة
عرضتُها عليها لأخذ موافقتها النهائية
فقالت، أضِفْ تاريخ الواقعة، فذيّلتُها بتاريخ ذاك الزمان.
وقذفتُها بعيداً، قارورتنا المقفلة على سرّها الدفين
فهلّلتْ بما يشبه الزغرودة، وأخرجَتْ يديها لتصفّق كالطفلة عندما ترمي طائرة الورق من سطح العمارة.
وشاهد الركاب القارورة المقذوفة ولم يعرفوا كنه ما فيها من سرّ
وأخذ الليل رسالتنا الطافية، ولم يبتلعها الموج، واختفت عنا، ورأيتها تُطرِق إلى أسفل وتعضّ شفتَها السفلى، وكأنها ارتكبت معصية على الملأ.
-هيه وماذا جرى؟ إنها مجرّد قارورة وخسرتيها!
ضحكت من فرط عصابها وقالت:
-بالله عليك دعك من لفظة قارورة، فأنا لم أخسر قارورتي بعد. قل قنينة يا أخي أو زجاجة
وضحكنا ضحك طفلين معاً كما قالت أم كلثوم في أطلالها، لكننا لم نعدُ لنسبق ظلنا لأننا كنا محشورَين في مركب
وشاهد طفلٌ يجلس قبالتنا في حضن أمه تلك اللعبة، وراقت له، وطلب مني ورقة ليرميها في الماء مثلنا، فأعطيته مفكرتي الصغيرة من جيبي. وكان يمزّق صفحاتها ويرميها، الواحدة تلو الأخرى، وتأخذها الريح كقصاصاتٍ ورقية، ثم يأخذها الموج كمناشير تلقيها إحدى الطائرات المعادية، بتحذيرٍ للسكان المدنيين لأنّ القصف الجويّ سيبدأ بعد قليل.
وأخذ الليل والبحر الهادر أوراق مفكرتي بما فيها من أرقام هواتفي ومخططاتي ومهامي التي قد أنجزها، كله إلى البحر، بما فيها من مذكرات، هباءً منثوراً، لا بأس، فكله سيكون جديداً في الحياة الآيلة للانفتاح.
لكنْ...
ما بال محرّك المركب يزداد عنيناً ويفحّ فحيحاً؟
وما بال المركب يتباطأ عن عنفوانه؟
كأنه صار لقمة سائغة بين أضراس الموج وألسنته، لا .. لا تمضعنا أيها الموج، لا .. لا تحاول أن تبلعنا إلى جوفك البارد!
كان الصياح فوضوياً من الركاب كالأسرى المشدوهين الذين وقعوا في كمينٍ قاتل، ثم تخافتت الأصوات إذ أنّ الأجساد والعقول والقلوب والعضلات تحفّزت للمصيبة القادمة.
وازداد التصاقها بي، وكانت تبتسم على رعدتها، وقالت :
-هلمّ بنا نقف كوقفة العاشقَين في التايتانك!
وهيهات منّا الوقوف، على أرضنا الخشبية المتزلزلة.
لا أدري لماذا سمِعْت في دقائقنا تلك صوت عبد الحليم قوياًّ، كأننا صرنا قريبين منه ومن نزار وهما الأموات.
أسيُغنّي لنا عبد الحليم وجهاً لوجه؟
إني أتنفس تحت الماء، إني أغرق، أسمعها الآن ملحّنة وذات صدى..
بالحقيقة إني أغرق، أغرق، والكل من حولي يغرقون وسيغرقون!
وصار صوت عبد الحليم أقوى وأكثر وضوحاً، إن كنت قوياً أخرجني من هذا اليم، فأنا لا أعرف فن العوم.
وتذكّرت أنني أعرف فن العوم، فلا استسلام للموت
وابتلع الموج الكثيرين بسلاسة، وبعضهم ذاب بلا أثر كحبّات السكر في الماء البارد الذي يغلي أمواجاً وفقاقيع.
عندما جهجه ضوء الفجر، كانت يداي الكليلتان ممسكتين ببقايا صندوق خشبي، وكنت وحدي، إلا من بساطٍ بحريّ أزرق ساكن بلا أمواج
ونظرتُ يمنة ويسرة، فلا حركة ولا صوت، إلا أوراقاً وجوازات سفر وبقايا ثياب ملوّنة تطفو، تلك هي رسائلهم من تحت الماء!.
وضحكتُ لأوراق نقدية طافية من حولي، بعضها من عملات صعبة وبعضها من عملات، للأسف سهلة!
كله بلا قيمة، أمام الحياة العزيزة .
الله الذي يرى، اسمُه تردّد عبر الصيحات التي سمعتها كآخر ما سمعت من أصواتهم
والله الذي يرى هو القويّ الذي سيخرجني من هذا اليم، ولو أني أعرف فن العوم.
عندما جاءت المراكب لتنتشلنا، وجدتُ فيها بعضاً من ناجين مقمّطين بالملاءات كالمومياءات المنبعثة من قاع الهرم وليس من قاع البحر، وبحثت في وجوهم عنها، وأملي أن تكون في مركبٍ ما.
وطافت المراكب في دوراتٍ عديدة تبحث عمّن تلتقطه من أرواح، دارت ودارت ككتيبة طبية تنظف أرض المعركة علّها تجد جريحاً قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة.
وعندما قرروا العودة لترك بقية المهمة للغواصين، رجوتهم أن يطوفوا أكثر وأكثر، كنت أدقق النظر في صفحة المياة علّني أجد رسالتنا المشتركة في قارورتها البلاستيكة، وما وجدتها.