من منكم لم يستمتع بصوت أم كلثوم وهي تشدو برباعيات أحمد رامي، التي حين نستمع إليها مرارا نجد أنفسنا أمام محتوى الخيام، وتعبير رامي؟ أحيانا، وأنا مندهش بالصوت الكلثومي، ودال الرامي، أتساءل مع نفسي: هل رباعيات الخيام في صورتها الأولى في مثل جمال وسحر ما أبدعه الشاعر العربي؟ وأحيانا أنحاز، رغم أني لم أطلع على النص في صيغته الفارسية، وأقول إن رامي أبدع من الخيام!
كثيرا ما نقرأ أقوالا مأثورة، أو حكما عميقة على ألسنة حكماء وفلاسفة فيستوقفنا ما فيها من إيجاز وإعجاز لتقديمها أفكارا قد تكون راودتنا، أو نحس فيها بما يجعلنا نشترك مع أصحابها في الإيمان بها، وتثمين ما انفردوا بتقديمه من خلالها، وهم يسجلونها بعمق وأصالة. هكذا هي النصوص الكبرى في تاريخ الإبداع الإنساني. إنها التقاط للتجربة الإنسانية وقدرة على التعبير عنها، في الوقت الذي يعجز الإنسان العادي على ترهينها، أو تمثيلها. ولعل في هذا الاشتراك مع ما تنفرد به مثل هذه النصوص، هو ما يجعلها قابلة للتداول، والاستعمال الدائمين. وما ترجمتها إلى لغات كثيرة، وفي أزمنة متعددة سوى تعبير عن المشترك الإنساني، ومن بين هذه النصوص: رباعيات الخيام.
لقد انبرى الشعراء العرب إلى مضاهاتها شعرا، وتميز كل منهم بإبداع شعري حقيقي لا يدفعنا إلى الحديث عن الترجمة، لكن عن الإبداع. إن الترجمة لأنها محاكاة يمكن أن يضطلع بها من يعرف لغتين، وينقل من إحداهما إلى الأخرى ما هو طبيعي وعادي من الخطابات العادية والطبيعية، التي تتأسس على «التعيين»: ترجمة العقود، والخطابات اليومية والإدارية. أما ما يرتبط بالفكر والعلم والإبداع، فلا يمكن أن ينجح في تقديمه إلى لغة أخرى غير المتمرس بذلك النوع من الإبداع. الشعر لا يترجم لأنه لغة تختلف عن اللغة الطبيعية، لكنه يضاهى بلغة شعرية أخرى، لشاعر ينتج نصا يتميز بشعرية خاصة قد تتحول بدورها إلى تجربة جديدة لا تقل أهمية عن النص المضاهَى، إن لم تتفوق عليه في بعض الأحيان، كما أنها قد تفشل حين لا يفلح المضاهِي في تمثل التجربة والارتقاء بها إلى مستوى ما تتميز به لغته ومتخيلها الجمالي والتعبيري. كما كان لترجمة أنطون غالان ( 1717) لليالي العربية أثره في الآداب الغربية الحديثة، وإثارة الاهتمام بها لدى العربي، كان لترجمة إدوارد فيتزجيرالد لرباعيات الخيام (1859) دور كبير في لفت النظر إلى الرباعيات. تواترت الترجمات في كل اللغات، وكان نصيب الإبداع الشعري العربي مهماً، فأقبل عليها الشعراء متفاعلين معها عن طريق النص الفارسي أو المترجم إلى التركية أو الإنكليزية.
ابتدأ الاهتمام بالرباعيات عربيا عندما أقدم وديع البستاني (1912) على الانطلاق من الترجمة الإنكليزية، لأنه لا يعرف الفارسية، فحولها من رباعيات إلى سباعيات. وتوالت المضاهيات التي قام بها شعراء، وقد أغرتهم سباعيات البستاني فكتب عبد الرحمن شكري (1913) وعبد اللطيف النشار (1917) ومحمد السباعي (1922) وأحمد رامي (1924) ومصطفى وهبي التل (1925) والصافي النجفي (1926) وجميل صدقي الزهاوي (1928) رباعياته على طريقته الخاصة، محافظا على مدلولاتها، مصبغا دوالها بطريقة الشاعر وممارسته الإبداعية. ولم تظهر بعد ذلك مضاهيات أخريات إلا في الستينيات مع إبراهيم العريّض (1965) وأخيرا ما قام به بدر توفيق عندما قام بترجمة ترجمة فيتزجيرالد عن الإنكليزية (1989) ترجمة لا تراعي العروض العربي القديم.
في كل هذه الممارسات يبدو لنا التفاعل الشعري بجلاء، فهو يتحرك بين اللغات والتجارب الشعرية الخاصة. تستوقفني من بين هذه الإبداعات تجربة أحمد الصافي النجفي، لقد تأثر بما كتبه وديع البستاني، وكرّس ثمانية أعوام لدراسة الفارسية، وعندما عرض نصه على باحثين من إيران قيل له: «إن بعض «التعريب» مع كونه مطابقا للأصل جدا، فهو يفوقه من حيث البلاغة والأسلوب» بل ذهب آخر بعد مقارنة شعرية بين الخيام والنجفي إلى القول: «أكاد أعتقد أن الخيام نظم رباعياته بالعربية والفارسية معا. وقد فُقد العربي منهما، فعثرت عليه، وانتحلته لنفسك»؟ يؤكد لنا هذان القولان ما زعمناه من انحياز إلى أن تجربة المضاهاة حين تكون في مستوى عال من الإبداعية يمكنها أن تكون أحسن من النص المضاهى، أو على الأقل في مستواه الإبداعي.
إن الدراسات الشعرية المقارنة، بمعناها الجمالي، يمكنها أن تكون موضوعا للبحث في العلاقات التفاعلية بين الشعراء. فلا أحد ينكر أن الخيام كان ملما بالعربية، ومعجبا بتجربة المعري، وبينهما تشابهات كثيرة، ما يؤكد أنه كان متفاعلا مع لزوميات المعري وسقط زنده. وحين ينجح الشعراء العرب في مضاهاة الخيام فهم يستندون في ذلك إلى تراث شعري مشترك يتناغم فيه الفارسي مع العربي، ويبدع الشاعر مستلهما هذا التراث، فمحمد السباعي مثلا حول الرباعيات إلى خماسيات، وجعل كل نشيد ينتهي الشطر الرابع والخامس بقافيتين موحدتين على طول النشيد. وقف يوسف بكار على «الترجمات العربية لرباعيات الخيام: دراسة نقدية» وما أحوجنا إلى قراءة جديدة لمضاهاة الرباعيات، والوقوف على الخصوصيات.
كاتب مغربي
كثيرا ما نقرأ أقوالا مأثورة، أو حكما عميقة على ألسنة حكماء وفلاسفة فيستوقفنا ما فيها من إيجاز وإعجاز لتقديمها أفكارا قد تكون راودتنا، أو نحس فيها بما يجعلنا نشترك مع أصحابها في الإيمان بها، وتثمين ما انفردوا بتقديمه من خلالها، وهم يسجلونها بعمق وأصالة. هكذا هي النصوص الكبرى في تاريخ الإبداع الإنساني. إنها التقاط للتجربة الإنسانية وقدرة على التعبير عنها، في الوقت الذي يعجز الإنسان العادي على ترهينها، أو تمثيلها. ولعل في هذا الاشتراك مع ما تنفرد به مثل هذه النصوص، هو ما يجعلها قابلة للتداول، والاستعمال الدائمين. وما ترجمتها إلى لغات كثيرة، وفي أزمنة متعددة سوى تعبير عن المشترك الإنساني، ومن بين هذه النصوص: رباعيات الخيام.
لقد انبرى الشعراء العرب إلى مضاهاتها شعرا، وتميز كل منهم بإبداع شعري حقيقي لا يدفعنا إلى الحديث عن الترجمة، لكن عن الإبداع. إن الترجمة لأنها محاكاة يمكن أن يضطلع بها من يعرف لغتين، وينقل من إحداهما إلى الأخرى ما هو طبيعي وعادي من الخطابات العادية والطبيعية، التي تتأسس على «التعيين»: ترجمة العقود، والخطابات اليومية والإدارية. أما ما يرتبط بالفكر والعلم والإبداع، فلا يمكن أن ينجح في تقديمه إلى لغة أخرى غير المتمرس بذلك النوع من الإبداع. الشعر لا يترجم لأنه لغة تختلف عن اللغة الطبيعية، لكنه يضاهى بلغة شعرية أخرى، لشاعر ينتج نصا يتميز بشعرية خاصة قد تتحول بدورها إلى تجربة جديدة لا تقل أهمية عن النص المضاهَى، إن لم تتفوق عليه في بعض الأحيان، كما أنها قد تفشل حين لا يفلح المضاهِي في تمثل التجربة والارتقاء بها إلى مستوى ما تتميز به لغته ومتخيلها الجمالي والتعبيري. كما كان لترجمة أنطون غالان ( 1717) لليالي العربية أثره في الآداب الغربية الحديثة، وإثارة الاهتمام بها لدى العربي، كان لترجمة إدوارد فيتزجيرالد لرباعيات الخيام (1859) دور كبير في لفت النظر إلى الرباعيات. تواترت الترجمات في كل اللغات، وكان نصيب الإبداع الشعري العربي مهماً، فأقبل عليها الشعراء متفاعلين معها عن طريق النص الفارسي أو المترجم إلى التركية أو الإنكليزية.
ابتدأ الاهتمام بالرباعيات عربيا عندما أقدم وديع البستاني (1912) على الانطلاق من الترجمة الإنكليزية، لأنه لا يعرف الفارسية، فحولها من رباعيات إلى سباعيات. وتوالت المضاهيات التي قام بها شعراء، وقد أغرتهم سباعيات البستاني فكتب عبد الرحمن شكري (1913) وعبد اللطيف النشار (1917) ومحمد السباعي (1922) وأحمد رامي (1924) ومصطفى وهبي التل (1925) والصافي النجفي (1926) وجميل صدقي الزهاوي (1928) رباعياته على طريقته الخاصة، محافظا على مدلولاتها، مصبغا دوالها بطريقة الشاعر وممارسته الإبداعية. ولم تظهر بعد ذلك مضاهيات أخريات إلا في الستينيات مع إبراهيم العريّض (1965) وأخيرا ما قام به بدر توفيق عندما قام بترجمة ترجمة فيتزجيرالد عن الإنكليزية (1989) ترجمة لا تراعي العروض العربي القديم.
في كل هذه الممارسات يبدو لنا التفاعل الشعري بجلاء، فهو يتحرك بين اللغات والتجارب الشعرية الخاصة. تستوقفني من بين هذه الإبداعات تجربة أحمد الصافي النجفي، لقد تأثر بما كتبه وديع البستاني، وكرّس ثمانية أعوام لدراسة الفارسية، وعندما عرض نصه على باحثين من إيران قيل له: «إن بعض «التعريب» مع كونه مطابقا للأصل جدا، فهو يفوقه من حيث البلاغة والأسلوب» بل ذهب آخر بعد مقارنة شعرية بين الخيام والنجفي إلى القول: «أكاد أعتقد أن الخيام نظم رباعياته بالعربية والفارسية معا. وقد فُقد العربي منهما، فعثرت عليه، وانتحلته لنفسك»؟ يؤكد لنا هذان القولان ما زعمناه من انحياز إلى أن تجربة المضاهاة حين تكون في مستوى عال من الإبداعية يمكنها أن تكون أحسن من النص المضاهى، أو على الأقل في مستواه الإبداعي.
إن الدراسات الشعرية المقارنة، بمعناها الجمالي، يمكنها أن تكون موضوعا للبحث في العلاقات التفاعلية بين الشعراء. فلا أحد ينكر أن الخيام كان ملما بالعربية، ومعجبا بتجربة المعري، وبينهما تشابهات كثيرة، ما يؤكد أنه كان متفاعلا مع لزوميات المعري وسقط زنده. وحين ينجح الشعراء العرب في مضاهاة الخيام فهم يستندون في ذلك إلى تراث شعري مشترك يتناغم فيه الفارسي مع العربي، ويبدع الشاعر مستلهما هذا التراث، فمحمد السباعي مثلا حول الرباعيات إلى خماسيات، وجعل كل نشيد ينتهي الشطر الرابع والخامس بقافيتين موحدتين على طول النشيد. وقف يوسف بكار على «الترجمات العربية لرباعيات الخيام: دراسة نقدية» وما أحوجنا إلى قراءة جديدة لمضاهاة الرباعيات، والوقوف على الخصوصيات.
كاتب مغربي