دعينا يوم الخميس الماضي إلى سماع محاضرة للدكتور إبراهيم ناجي بك بجمعية الشبان المسيحية، عنوانها (سيكولوجية شعر محمود أبو الوفا).
والدكتور ناجي له جولات موفقة في التعليلات والتحليلات النفسية، والأستاذ محمود أبو الوفا شعره حبيب إلى النفس.
لذلك كنا نتوقع أن ينال شعر أبو الوفا عناية العالم النفسي والأديب الكبير إبراهيم ناجي، ولكنا سمعنا بحثا تسعة وتسعون في المائة منه كلام في تعريف الشاعر والفرق بينه وبين الناثر، والواحد الباقي من المائة في شعر محمود أبو الوفا. . قد وصل إليه من حيث قال إن الكلمات العادية الجارية على الألسن يتناولها الشاعر فيبعث فيها الحياة ويكسبها إشعاعات يبلغ بها عواطف الجماهير، وكذلك أبو الوفا.
وقام - بعد محاضرة الدكتور ناجي التي ألقاها نائب عنه إذ اعتذر هو من عدم الحضور - الأستاذ حليم ديمتري، فتحدث عن (عنوان النشيد) للأستاذ أبو الوفا حديثا خلط فيه قليلا من الكلام على هذا النشيد وكثيرا من الكلام الذي يقصد به الدلالة على غزارة العلم وسعة الاطلاع! ثم ألقى النشيد كله وهو نحو ثلاثمائة بيت، وقطعا أخرى للشاعر، حتى استغرق ذلك نجو ساعة أمل فيها كل الإملال، لا بالشعر نفسه بل بما صنع في إلقائه. . ويظهر أن الأستاذ ديمتري لم يمرن لسانه على النطق الفصيح وبخاصة نطق الشعر، وقد حطم الأوزان تحطيم الأصنام. .
والعجيب أن الأستاذ ديمتري طرق موضوع التحرر من الأديان التي يراها قيودا عائقة في الحياة. على أساس فهم غريب للأبيات الآتية، وهي من (عنوان النشيد) حيث قال أبو الوفا في حوار بينه وبين الروح التي يستلهمها.
قلت: قل لي يا أخا الروح الرفيعه
ما لزوم الدين أو أي شريفه
لنفوس الناس ما دامت رفيعه حين أن النفس مذ كانت ولوعه
بالتسامي والتعالي بالطبيعة؟
قال: لما لا ترى النفس الوضيعه
ثم، أخلوا الأرض من كل شريعة
إنما، والنفس ما زالت رضيعه
من أب سوء، ومن أم وضيعه
كيف ترك الدين أو نلغي الشريعه
إلى أن قال:
إنما الأديان آداب رفيعه
وهي تفسير جميل للطبيعه
فهم السيد ديمتري من هذه الأبيات ومن مثيلات لها في (عنوان النشيد) أن الشاعر يدعو إلى نبذ الأديان! وما كنت أظن أن مثله يحتاج إلى أن أقول له إن الشاعر يقول: إذا كنت لا ترى في هذه الدنيا نفسا وضيعة وكان إنسانها كاملا فلا مقتضى للدين والشريعة، ولكن الناس هم كما نراهم في ضعتهم ودناياهم، فكيف نستغني عن الأديان ذات الآداب الرفيعة وهي تفسير جميل للطبيعة. .؟
ولم يكن لائقا من السيد ديمتري أن يصول ويجول في ميدان (اللادين) وهو يتكلم في جمعية دينية!
وعلى رغم أن ديمتري قرأ (عنوان النشيد) كله، وفيه قول الشاعر بعد أن عرض حال العالم وما هي عليه من شر ونزاع:
ولئن تسألهم: فيم الخصام؟
لأجابوا هو من أجل السلام!
قل لهم: يا قومنا أي سلام!
ليس بين العقل والقلب انسجام
ذي هي العلة لا سوء النظام
على رغم ذلك قال ديمتري إن الشاعر يؤمن بأن العقل وحده هو الذي ينبغي أن يسود!! وقد عقب الأستاذ محمد قطب على ذلك، فاستدل بتلك الأبيات وبقول الشاعر أيضا:
لا أرى الإيمان تشريعا وكتبا
بل أرى الإيمان وجدانا وقلبا
على أن شاعرنا يؤمن بالقلب وبالعقل، فهو يرى أن الدول الكبيرة التي تتحكم بالعالم اليوم لا ينقصها العقل، ومع هذا نراها تحدث في العالم الشر والنكر والعقل لديها متوافر! فالشاعر يدعو إلى مشاعر إنسانية تطهر هذا العالم الذي يتخاصم من أجل السلام.
الحياة الفكرية في مصر الحديثة؛
أشرت في الأسبوع الماضي إلى المحاضرة التي ألقاها الدكتور محمد كامل حسين في حفلة استقباله عصوا جديدا بمجمع فؤاد الأول للغة العربية واعدا بخلاصتها في هذا الأسبوع، وهذه هي الخلاصة:
تحدث عن سلفه في عضوية المجمع أحمد حافظ عوض، فكان مما قاله: أنه نشأ في عصر لا يعد خير عصور الحياة الفكرية في مصر، وآثاره الأدبية لا تخلو من صفات ذلك العهد، ولا يعد هذا عيبا، فحسب المرء أن تكون آثاره في ميدان الفكر صورة صادقة واضحة للعصر الذي يعيش فيه، وكذلك كانت آثار سلفي، ففيها تخبط الذين يلتمسون أسلوبا جديدا وتعثر الذين يتحسسون منهجا غير مألوف، ولا أكتمكم أني أحب كثيرا من هذا التخبط وذلك التعثر، بل بعضه أحب إلى نفسي من الكمال الفني، وإن لأجد سقارة أحب إلى من وادي الملوك، وأقدم الشعر عندي خير من شعر أبي تمام، وإن كنا لا نعرف للشعر العربي دور تعثر ولا طور بداءة، كأنما هو قد انبعث من رمال الصحراء أتم ما يكون جمالا، كما خرجت (فينوس) من أمواج البحر، والصورة القديمة أشهى إلى النفس من روائع (روفائيل) كأن الكمال الفني يشعرني قرب النهاية وضعف الشيخوخة.
ثم تحدث عن الحياة الفكرية في مصر الحديثة فقال: إني ممن لا يزالون يؤمنون بالفكر المحض وأثره في الحياة العامة. وأكثر الناس على أن الحياة الحديثة شغلتنا عنه بما هو أقرب منالا وأسرع جزاء، وأن المحدثين يفضلون العمل على الفكر، وأن الغلبة اليوم لما سميناه الماديات. وأننا فقدنا الإيمان وهجرنا الأخلاق واختلط علينا الخير والشر، ولا أريد دفاعا عن المحدثين، ولكني أقول إن هذه آراء لا تصدق إلا على ظاهر الأمور، واصل الخطأ فيها ما طرأ من تغير على مكان الفكر من حياة الناس وعلى الصور التي تتمثل فيها الأخلاق. إلى أن قال: والناس في عصرنا هذا لم يفقدوا الإيمان وإنما شكوا فيما يؤمنون به، ولم ينكروا الأخلاق وإنما التمسوا لها وجوها غير التي اصطلح عليها القدماء، ولم يهجروا الكثير من الفضائل الفردية التي عكف عليها الأولون إلا ليستبدلوا بها فضائل اجتماعية ذهبوا إلى أنها لا تقل فضلا.
ثم عرض للاتجاه إلى المدنية الغربية، فقال إذا كانت المدنيات كلها قد وات وجهها شطر المدنية الغربية فإن ذلك ليس إعجابا بها أو خضوعا لقوتها، بل يرجع إلى أن طبيعة التفكير البشري في جوهرها واحدة، وأن كل ثقافة لا يقف بها النمو ستجد نفسها تسير على نهج يؤدي بها إلى ما يشبه المدنية الغربية.
ثم قال: وكان أول ما اتصلت الأسباب بيننا وبين التفكير الغربي تلك المؤلفات التي كتبت في خلال القرن التاسع عشر يسيرة هينة التفكير بسيطة الأسلوب رقيقة المعنى، فيها ظرف وإعجاب يشبه إعجاب المراهقين بالكبار، ثم تبين بعد قليل أن السير بطئ لن نبلع به ما نبغي بعد أن سبقنا الغربيون بقرون، فهرولنا وأخذنا بجرع من الحضارة الغربية جرعا قويا نروي به ظمأ شديدا، وأهل البدو - وهم أعلم الناس بالظمأ - يقولون: الجوع أروى والرشيف أنقع. ونحن لا نزال نفضل الري على النقع، ولا يزال فينا أثر الهرولة التي أغرمنا عليها إرغاما.
وذكر صفات للتفكير عندنا، فعد منها الهرولة وأتى ببعض مظاهرها، ثم قال: ومن تلك الصفات الكلاسيكية المبكرة، والكلاسيكية تعني في العادة المحافظة على أسلوب خاص من حيث لشكل وحده، ذلك أن كل تفكير صادق أو فن جديد ينشأ معه أسلوب في التعبير خاص به، ثم لا يزال ينمو حتى يبلغ درجة من الكمال يعترف بها الماس، حتى إذا نفد ما في هذا التفكير أو الفن من قوة في الشكل يرجى لذاته.
إلى أن قال: وعلينا أن نقتل الفصاحة فينا فهي شكل محض، وأن نتجاهل البلاغة فقد أصابنا منها شر كثير، وألا نضع للأسلوب قواعد الجملة فالقاعدة الوحيدة للجمال هي أن يكون الشيء جميلا. ثم قال: وأول ما يجب علينا عمله أن نترك وراءنا ظهريا كل ما حملنا عليه من هرولة وتمويه، ولنقلع عن المجاراة والاحتذاء، فقد بلغنا من الحياة الفكرية مبلغا يستحيل معه النكوص إذا تركنا أنفسنا على سجيتها. وأهم ما يجب أن نعنى به هو العلم بالعربية؛ فإن أحدا لا يستطيع أن يأتي بعمل ذي خطر إلا أن يكون ذلك بلغته. والذين لا يملكون ناصيتها يظلون حيارى لا يقدرون على شيء من الأدب الرفيع.
تعقيب:
وبعد فإن المتأمل في تلك المحاضرة القيمة يراها - على قيمتها وما حوته من آراء ناضجة وأفكار طريفة وعلى سياقها الجميل - لم تخل من (الهرولة) وهذا طبيعي، لأنها جزء من الإنتاج الفكري الحديث الذي قال الدكتور كامل حسين إن من صفاته الهرولة. .
وبيان ذلك في الأسبوع القادم إن شاء الله.
عباس خضر
مجلة الرسالة - العدد 987
بتاريخ: 02 - 06 - 1952
والدكتور ناجي له جولات موفقة في التعليلات والتحليلات النفسية، والأستاذ محمود أبو الوفا شعره حبيب إلى النفس.
لذلك كنا نتوقع أن ينال شعر أبو الوفا عناية العالم النفسي والأديب الكبير إبراهيم ناجي، ولكنا سمعنا بحثا تسعة وتسعون في المائة منه كلام في تعريف الشاعر والفرق بينه وبين الناثر، والواحد الباقي من المائة في شعر محمود أبو الوفا. . قد وصل إليه من حيث قال إن الكلمات العادية الجارية على الألسن يتناولها الشاعر فيبعث فيها الحياة ويكسبها إشعاعات يبلغ بها عواطف الجماهير، وكذلك أبو الوفا.
وقام - بعد محاضرة الدكتور ناجي التي ألقاها نائب عنه إذ اعتذر هو من عدم الحضور - الأستاذ حليم ديمتري، فتحدث عن (عنوان النشيد) للأستاذ أبو الوفا حديثا خلط فيه قليلا من الكلام على هذا النشيد وكثيرا من الكلام الذي يقصد به الدلالة على غزارة العلم وسعة الاطلاع! ثم ألقى النشيد كله وهو نحو ثلاثمائة بيت، وقطعا أخرى للشاعر، حتى استغرق ذلك نجو ساعة أمل فيها كل الإملال، لا بالشعر نفسه بل بما صنع في إلقائه. . ويظهر أن الأستاذ ديمتري لم يمرن لسانه على النطق الفصيح وبخاصة نطق الشعر، وقد حطم الأوزان تحطيم الأصنام. .
والعجيب أن الأستاذ ديمتري طرق موضوع التحرر من الأديان التي يراها قيودا عائقة في الحياة. على أساس فهم غريب للأبيات الآتية، وهي من (عنوان النشيد) حيث قال أبو الوفا في حوار بينه وبين الروح التي يستلهمها.
قلت: قل لي يا أخا الروح الرفيعه
ما لزوم الدين أو أي شريفه
لنفوس الناس ما دامت رفيعه حين أن النفس مذ كانت ولوعه
بالتسامي والتعالي بالطبيعة؟
قال: لما لا ترى النفس الوضيعه
ثم، أخلوا الأرض من كل شريعة
إنما، والنفس ما زالت رضيعه
من أب سوء، ومن أم وضيعه
كيف ترك الدين أو نلغي الشريعه
إلى أن قال:
إنما الأديان آداب رفيعه
وهي تفسير جميل للطبيعه
فهم السيد ديمتري من هذه الأبيات ومن مثيلات لها في (عنوان النشيد) أن الشاعر يدعو إلى نبذ الأديان! وما كنت أظن أن مثله يحتاج إلى أن أقول له إن الشاعر يقول: إذا كنت لا ترى في هذه الدنيا نفسا وضيعة وكان إنسانها كاملا فلا مقتضى للدين والشريعة، ولكن الناس هم كما نراهم في ضعتهم ودناياهم، فكيف نستغني عن الأديان ذات الآداب الرفيعة وهي تفسير جميل للطبيعة. .؟
ولم يكن لائقا من السيد ديمتري أن يصول ويجول في ميدان (اللادين) وهو يتكلم في جمعية دينية!
وعلى رغم أن ديمتري قرأ (عنوان النشيد) كله، وفيه قول الشاعر بعد أن عرض حال العالم وما هي عليه من شر ونزاع:
ولئن تسألهم: فيم الخصام؟
لأجابوا هو من أجل السلام!
قل لهم: يا قومنا أي سلام!
ليس بين العقل والقلب انسجام
ذي هي العلة لا سوء النظام
على رغم ذلك قال ديمتري إن الشاعر يؤمن بأن العقل وحده هو الذي ينبغي أن يسود!! وقد عقب الأستاذ محمد قطب على ذلك، فاستدل بتلك الأبيات وبقول الشاعر أيضا:
لا أرى الإيمان تشريعا وكتبا
بل أرى الإيمان وجدانا وقلبا
على أن شاعرنا يؤمن بالقلب وبالعقل، فهو يرى أن الدول الكبيرة التي تتحكم بالعالم اليوم لا ينقصها العقل، ومع هذا نراها تحدث في العالم الشر والنكر والعقل لديها متوافر! فالشاعر يدعو إلى مشاعر إنسانية تطهر هذا العالم الذي يتخاصم من أجل السلام.
الحياة الفكرية في مصر الحديثة؛
أشرت في الأسبوع الماضي إلى المحاضرة التي ألقاها الدكتور محمد كامل حسين في حفلة استقباله عصوا جديدا بمجمع فؤاد الأول للغة العربية واعدا بخلاصتها في هذا الأسبوع، وهذه هي الخلاصة:
تحدث عن سلفه في عضوية المجمع أحمد حافظ عوض، فكان مما قاله: أنه نشأ في عصر لا يعد خير عصور الحياة الفكرية في مصر، وآثاره الأدبية لا تخلو من صفات ذلك العهد، ولا يعد هذا عيبا، فحسب المرء أن تكون آثاره في ميدان الفكر صورة صادقة واضحة للعصر الذي يعيش فيه، وكذلك كانت آثار سلفي، ففيها تخبط الذين يلتمسون أسلوبا جديدا وتعثر الذين يتحسسون منهجا غير مألوف، ولا أكتمكم أني أحب كثيرا من هذا التخبط وذلك التعثر، بل بعضه أحب إلى نفسي من الكمال الفني، وإن لأجد سقارة أحب إلى من وادي الملوك، وأقدم الشعر عندي خير من شعر أبي تمام، وإن كنا لا نعرف للشعر العربي دور تعثر ولا طور بداءة، كأنما هو قد انبعث من رمال الصحراء أتم ما يكون جمالا، كما خرجت (فينوس) من أمواج البحر، والصورة القديمة أشهى إلى النفس من روائع (روفائيل) كأن الكمال الفني يشعرني قرب النهاية وضعف الشيخوخة.
ثم تحدث عن الحياة الفكرية في مصر الحديثة فقال: إني ممن لا يزالون يؤمنون بالفكر المحض وأثره في الحياة العامة. وأكثر الناس على أن الحياة الحديثة شغلتنا عنه بما هو أقرب منالا وأسرع جزاء، وأن المحدثين يفضلون العمل على الفكر، وأن الغلبة اليوم لما سميناه الماديات. وأننا فقدنا الإيمان وهجرنا الأخلاق واختلط علينا الخير والشر، ولا أريد دفاعا عن المحدثين، ولكني أقول إن هذه آراء لا تصدق إلا على ظاهر الأمور، واصل الخطأ فيها ما طرأ من تغير على مكان الفكر من حياة الناس وعلى الصور التي تتمثل فيها الأخلاق. إلى أن قال: والناس في عصرنا هذا لم يفقدوا الإيمان وإنما شكوا فيما يؤمنون به، ولم ينكروا الأخلاق وإنما التمسوا لها وجوها غير التي اصطلح عليها القدماء، ولم يهجروا الكثير من الفضائل الفردية التي عكف عليها الأولون إلا ليستبدلوا بها فضائل اجتماعية ذهبوا إلى أنها لا تقل فضلا.
ثم عرض للاتجاه إلى المدنية الغربية، فقال إذا كانت المدنيات كلها قد وات وجهها شطر المدنية الغربية فإن ذلك ليس إعجابا بها أو خضوعا لقوتها، بل يرجع إلى أن طبيعة التفكير البشري في جوهرها واحدة، وأن كل ثقافة لا يقف بها النمو ستجد نفسها تسير على نهج يؤدي بها إلى ما يشبه المدنية الغربية.
ثم قال: وكان أول ما اتصلت الأسباب بيننا وبين التفكير الغربي تلك المؤلفات التي كتبت في خلال القرن التاسع عشر يسيرة هينة التفكير بسيطة الأسلوب رقيقة المعنى، فيها ظرف وإعجاب يشبه إعجاب المراهقين بالكبار، ثم تبين بعد قليل أن السير بطئ لن نبلع به ما نبغي بعد أن سبقنا الغربيون بقرون، فهرولنا وأخذنا بجرع من الحضارة الغربية جرعا قويا نروي به ظمأ شديدا، وأهل البدو - وهم أعلم الناس بالظمأ - يقولون: الجوع أروى والرشيف أنقع. ونحن لا نزال نفضل الري على النقع، ولا يزال فينا أثر الهرولة التي أغرمنا عليها إرغاما.
وذكر صفات للتفكير عندنا، فعد منها الهرولة وأتى ببعض مظاهرها، ثم قال: ومن تلك الصفات الكلاسيكية المبكرة، والكلاسيكية تعني في العادة المحافظة على أسلوب خاص من حيث لشكل وحده، ذلك أن كل تفكير صادق أو فن جديد ينشأ معه أسلوب في التعبير خاص به، ثم لا يزال ينمو حتى يبلغ درجة من الكمال يعترف بها الماس، حتى إذا نفد ما في هذا التفكير أو الفن من قوة في الشكل يرجى لذاته.
إلى أن قال: وعلينا أن نقتل الفصاحة فينا فهي شكل محض، وأن نتجاهل البلاغة فقد أصابنا منها شر كثير، وألا نضع للأسلوب قواعد الجملة فالقاعدة الوحيدة للجمال هي أن يكون الشيء جميلا. ثم قال: وأول ما يجب علينا عمله أن نترك وراءنا ظهريا كل ما حملنا عليه من هرولة وتمويه، ولنقلع عن المجاراة والاحتذاء، فقد بلغنا من الحياة الفكرية مبلغا يستحيل معه النكوص إذا تركنا أنفسنا على سجيتها. وأهم ما يجب أن نعنى به هو العلم بالعربية؛ فإن أحدا لا يستطيع أن يأتي بعمل ذي خطر إلا أن يكون ذلك بلغته. والذين لا يملكون ناصيتها يظلون حيارى لا يقدرون على شيء من الأدب الرفيع.
تعقيب:
وبعد فإن المتأمل في تلك المحاضرة القيمة يراها - على قيمتها وما حوته من آراء ناضجة وأفكار طريفة وعلى سياقها الجميل - لم تخل من (الهرولة) وهذا طبيعي، لأنها جزء من الإنتاج الفكري الحديث الذي قال الدكتور كامل حسين إن من صفاته الهرولة. .
وبيان ذلك في الأسبوع القادم إن شاء الله.
عباس خضر
مجلة الرسالة - العدد 987
بتاريخ: 02 - 06 - 1952