1 - في دنيا الشعر:
في الجو رائحة تفوح، رائحة شعر، إنها (أنفاس محترقة) للشاعر محمود أبو الوفا، ذلك الشاعر الذي لم نعرفه في حين، لأننا كنا في غفلة عن إدراك حقيقة الشعر في ذلك الحين! كنا نتلمس مخنوقا في ركام (الفكرة) المعتلة الجامدة، أو متقززاً في اللفتة الذهنية البراقة! وكنا نتلمسه في قلب الرواية، لأن ببغاوات كثيرة قالت لنا: إن الشعر لا يكون إلا في هذا القلب. نقلا عن الإغريق والرومان والمحدثين في أوربا! وكنا نتلمسه في وسوسة العبارة، وفي اصطناع الصورة، وفي فرنجة المشاهد، وفي صقل الإيقاعات كما لو كانت ملفوفة في أوراق (السلوفان!)
ودع عنك شعر (الصالونات) وشعر الحفلات، وشعر المناسبات. وشعر الغناء الذي يفرغه بعضهم على الناس. . . فهذه ألوان ليست في حساب النقد، ولا اعتبار لها في هذا المجال! فأما الشعر، الشعر كما هو مجرداً من القوالب والأشكال، طليقاً من ثقلة الفكر ولمعة الذهن، واصطناع المشاهد والموضوعات. . الشعر كما هو طليقاً رفافا طلاقة العطر والشذى فهو ما لم نحفل به كثيراً
ولقد كتبت قبل سنوات أربع تحت عنوان: (آن للشعر أن يكون غناء) في فصل من فصول كتاب: (النقد الأدبي: أصوله ومناهجج) أصور حقيقة الشعر وطبيعته في هذه الفقرات: (. . . إنه الغناء، الغناء المطلق بما في النفس من مشاعر وأحاسيس وانفعالات، حين ترتفع هذه المشاعر والأحاسيس عن الحياة العادية، وحين تصل هذه الانفعالات إلى درجة التوهج والإشراق، أو الرقرقة والانسياب على نحو من الأنحاء)
(ولسائل أن يسأل: أو تنفى الفكر من عالم الشعر أيضا؟ ولست أتردد في الإجابة. إن هذا الفكر لا يجوز أن يدخل هذا العالم إلا مقنعا غي سافر، ملفعا بالمشاعر والتصورات والظلال، ذائبا في وهج الحس والانفعال، أو موشي بالسبحات والسرحات!. . ليس له أن يلج هذا عالم ساكنا باردا مجردا! (ولحسن الحظ أن الإنسانية لا تزال تحمل هذه الشعلة المقدسة، ولا يزال ضميرها يزخر بالمشاعر والخواطر، ولا تزال تهتدي بالغريزة والإلهام بجانب الذهن البارد الجاف. وهناك لحظات تنفض عنها ذلك السكون البارد والوعي المتقيد؛ وتنطلق رفافة مشرقة، أو دافقة متوهجة، أو ساربة تائهة، أو نشوانة حالمة. . وفي كل اللحظات الفنية الفائقة لا تجد إلا التعبير الشعري، يتسق بإيقاعه القوي، وصوره، وظلاله، مع هذه الحظات الملاء الوضاء)
في هذا العالم الذي وصفت سماته نلتقي بالشاعر محمود أبو الوفا صاحب الأنفاس المحترقة. نلتقي به شاعرا كله شاعر يخلص من اصطناع القوالب، واصطناع الأفكار، واصطناع الأحاسيس، واصطناع التعبير، ويلقانا بروحه كما خلقه الله. يلقانا بلا تكلف ولا تجمع ولا غشاء. يلقانا كما تلقانا الزهرة لتفرغ لدينا عبيرها وعطرها وتمضي! ويحدثنا أبو الوفا عن نفسه وحبه وآلامه ونجواه. . . أو يحدثنا عن الإنسانية والوطن والشعب. . . فهذا هو أبو الوفا الشاعر الغنائي المرفرف، عذب الروح حتى وهو يتجرع صاب الحياة، سمح الخليفة حتى وهو يحرق الأنفاس
استمع إليه يغني (في انتظار الصباح)
جدد لي الأقداح ... يا ساقي الراح
على أرى في الراح ... أطياف أفراحي
في مزهري ألحان ... أخشى أغنيها
أخشى على الأوتار ... من حولها ما فيها
يا مزهر الأقدار غن ... بها غني
واشرح على الأطيار ... ما غاب من فني
لكل يوم شراب ... لابد من كأسه
وكل معنى العذاب ... في لون إحساسه
من ذا يرد الصواب ... للدهر في ناسه
للغاب يا ابن الغاب ... اهرب فداك اللواح
تبا لضعف التراب ... أغرى عليه الرياح
لولاي في ذا الإهاب ... ما هيض مني الجناح
لا تسألوا يا شهود ... عن حكمة الأقدار
وأين نحن العبيد ... مما وراء الستار
ومن تخطى الحدود ... يلقى به في النار
(النار ذات الوقود) ... يا رب يا ستار!
ربان بحر الوجود ... أدرى بموج البحار
فاستسلموا للوعود ... وامضوا مع التيار
ها اسقني يا صاح ... كأس الهوى الفضاح
سكران لكن فؤادي ... مما يعانيه صاح
يا ليل هل من مداو ... يا ليل، يشفي جراحي؟
لم يجد فيك اصطباري ... وليس يجدي نواحي
يا هل ترى لي صياح ... أم ليس لي من صباح
إنه مطلق غناء. لا تربط بينه قافية واحدة، ولا تربط بينه فكرة جامدة. إنما تربط بينه تلك النغمة المنسابة. نغمة الروح الحزين. العابث. المتطلع. الأليف. الوديع. روح الفراشة البضاء والعصفور والراقص المزقزق الصداح!
ومن هذا اللون والجو قصيدته: من الأعماق:
يا ليل هل ترثي لواجد؟ ... يا ليل أنت علي شاهد
أشكو الوسائد للمرا ... قد، والمراقد للوسائد
وجد أقض مضاجعي ... هيهات ينجو منه واجد
بيني وبين هواي أب ... عاد نضل بها المراصد
(عيسى) أخوك (محمد) ... وكلا كما: تبان وشائد
ما للنصارى في كنا ... ئس والحنائف في مساجد!
ما للرواشد ما لهم ... لا يصهرون مع الرواشد!
أو ليس آدم واحدا ... أوليس دين الله واحد
لم لا يكون الحب وه ... والأصل رائد كل رائد
من فك بين عرى القلو ... ب وشد من العقائد؟
ومن الذي خلى القوا ... رح لعبة بيد الولائد؟
رفقا بأفئدة تحر ... ق في المجامر للمعابد
رفقا على الأنف الشكي ... م من الشكائم والمقاود
أصبحت من خوف القيو ... د أخاف وسوسة القلائد
جعلوا قواعد للحيا ... ة هل الحياة لها قواعد؟
يا قلب ويحك فاتئد ... يكفي الذي بك من مواجد
من ذا تناغى في دجىالل ... يل البهيم ومن تناشد؟
لغة البلابل أين تذه ... هب بين هدهدة الهداهد؟!
. . . الخ
فهنا كذلك تفوح رائحة الأسى والعتاب مضمخة بشذى الود والحب. . الحب الذي يلقى به الشاعر الحياة، وهي تفزعه وتروعه، فيغدو فيها كالطائر الحذر المفزع، لا يتم نهله من ري، ولا يأمن لروح من ظل، إلا وهو يتلفت ذات اليميم وذات الشمال
أصبحت من خوف القيو ... د أخاف وسوسة القلائد
وهي لمسة فنية بارعة متحركة لحالة نفسية فريدة في بضع كلمات ويبلغ الشاعر قمته في هذا المعنى أو قريب منه، وهو يرسم في قصيدة (ضحايا) تلك الصورة العجيبة، النادرة في شعر الإنسانية كلها، وهو يقول:
أحب أضحك للدنيا فيمنعني ... أن عاقبتي على بعض ابتساماتي
هاج الجواد فعضته شكيمته ... شلت أنامل صناع الشكيمات
ويبلغ الفن ذروته هنا في توافق الحركة الشعورية للشاعر والحركة الحسية المتخيلة للجواد. وتأخذ الحركة الشعورية في البروز والتجسم بتواكب الحركة الحسية ونبضها، حتى تنتهي بذلك الدعاء الكظيم: (شلت أنامل الشكيمات) فتبلغ ذروتها النفسية والفنية جميعا، وتترك في النفس إيقاعها الشاجي وصداها الحزين
والآن فلنصحب الشاعر في جولة أخرى. (على شاطئ النيل):
الكأس قبلك مرت في فم نجس ... وكيف تشرب منها بالفم الطاهر
يا نيل إن لم تطهرها فمعذرة ... إن عف عنها، وإلا عافك، الشاعر
ولا أزيدك لم الشاطئين وما ... عليهما اليوم من خاف ومن ظاهر عليهما الأمر يجري حسب ما سمحت ... به الرياح ولا ناه ولا زاجر
أقسمت يا نيل - لو تدري - لما التطمت ... فيك الشواطئ إلا بالدم الفائر
يا ليت شعري لمن تلك الكروم على الش ... طين تسبي القلب والناظر
في سندس من حقول الروض أبسطة ... بالدر قد فصلت واللؤلؤ العاطر
كأنها لوحة من عبقر رفعت ... في باب عبقر يستهدي بها الزائر
ما أجمل الأفق يبدو في شروقهما ... وفي غروبها غب السما الماطر
سرادق الظل في أفواف ظلهما ... كأنه أفق فجر غائم سافر
كأنه سحب من فوق مجمرة ... قد بات يشملها في كهفه ساحر
قل لي: أللشعب منها غير منظرها ... وسقيها أويد الحصاد والباذر؟
إن لم تدر بين أيدينا معاضرها ... فما أردت ولا دارت رحى عاصر
قم حطم الكأس أو فاملك مواردها ... أو فانس حقك إن الحق للقادر!
هنا تلتقي مواجع الشاعر بمواجع الشعب المحروم، وتلتقي آلامه بآلام الجماهير الكادحة؛ فترتفع نغمة الألم، وتشتد حرارة النفثة، وتتحول شواظا وضراما. ولكن الشاعر يظل يلقاك بروحه الشاعرة، وفنه الأصيل. سواء كان ذلك في تصوراته الشعرية ورؤاه، أم في الزاوية التي يطل منها على المشاهد والمرائي. فلا يسف ولا يجف، ولا يتحول فنه إلى خطابه جوفاء، وليس فيها سوى الجعجعة والضجيج!
وهكذا يثبت أبو الوفا أن الفنان الأصيل يملك أن يغمس ريشته في جراح الإنسانية، ومواجع الكادحين والمحرومين، ثم يبقى مع ذلك فنانا يحس بطريقته الخاصة، ويرسم بيده لا بيد العوام والأمين وهي ظاهرة أحب أن أبرزها هنا، لأن هنالك خلطا في هذه الأيام بين وظيفة الفنان ووظيفة خطيب الجماهير! في الإحساس بالآلام العامة. وفي طريقة التعبير عن هذه الآلام، تختنق في غمرتها روح التقدير الفني الصحيح
وبعد فليست (أنفاس محترقة) كلها من هذا الطراز الفني بطبيعة الحال، ففيها الأنفاس المشتملة والأنفاس الخابية، وفيها المقطوعات التي يصيبها الإعياء سواء في النبض أو في التعبير، وفيها المقطوعات التي يصعب أن تعدها من الشعر أصلا، ولكنني أحب أن أقرر بعد هذا كله أن شعر أبو الوفا (ظاهرة فنية) لها مظاهر قوتها الخاصة، ومظاهر ضعفها الخاصة. ظاهرة فنية مستقلة تستحق الدراسة في تاريخ الشعر العربي كله ظاهرة نية لم تدرس بعد حق دراستها لأن النقد الفني لم يكن من اليقظة بحيث يلتفت إلى الظواهر الفنية التي تولد بين الحين والحين
سيد قطب
مجلة الرسالة - العدد 945
بتاريخ: 13 - 08 - 1951
في الجو رائحة تفوح، رائحة شعر، إنها (أنفاس محترقة) للشاعر محمود أبو الوفا، ذلك الشاعر الذي لم نعرفه في حين، لأننا كنا في غفلة عن إدراك حقيقة الشعر في ذلك الحين! كنا نتلمس مخنوقا في ركام (الفكرة) المعتلة الجامدة، أو متقززاً في اللفتة الذهنية البراقة! وكنا نتلمسه في قلب الرواية، لأن ببغاوات كثيرة قالت لنا: إن الشعر لا يكون إلا في هذا القلب. نقلا عن الإغريق والرومان والمحدثين في أوربا! وكنا نتلمسه في وسوسة العبارة، وفي اصطناع الصورة، وفي فرنجة المشاهد، وفي صقل الإيقاعات كما لو كانت ملفوفة في أوراق (السلوفان!)
ودع عنك شعر (الصالونات) وشعر الحفلات، وشعر المناسبات. وشعر الغناء الذي يفرغه بعضهم على الناس. . . فهذه ألوان ليست في حساب النقد، ولا اعتبار لها في هذا المجال! فأما الشعر، الشعر كما هو مجرداً من القوالب والأشكال، طليقاً من ثقلة الفكر ولمعة الذهن، واصطناع المشاهد والموضوعات. . الشعر كما هو طليقاً رفافا طلاقة العطر والشذى فهو ما لم نحفل به كثيراً
ولقد كتبت قبل سنوات أربع تحت عنوان: (آن للشعر أن يكون غناء) في فصل من فصول كتاب: (النقد الأدبي: أصوله ومناهجج) أصور حقيقة الشعر وطبيعته في هذه الفقرات: (. . . إنه الغناء، الغناء المطلق بما في النفس من مشاعر وأحاسيس وانفعالات، حين ترتفع هذه المشاعر والأحاسيس عن الحياة العادية، وحين تصل هذه الانفعالات إلى درجة التوهج والإشراق، أو الرقرقة والانسياب على نحو من الأنحاء)
(ولسائل أن يسأل: أو تنفى الفكر من عالم الشعر أيضا؟ ولست أتردد في الإجابة. إن هذا الفكر لا يجوز أن يدخل هذا العالم إلا مقنعا غي سافر، ملفعا بالمشاعر والتصورات والظلال، ذائبا في وهج الحس والانفعال، أو موشي بالسبحات والسرحات!. . ليس له أن يلج هذا عالم ساكنا باردا مجردا! (ولحسن الحظ أن الإنسانية لا تزال تحمل هذه الشعلة المقدسة، ولا يزال ضميرها يزخر بالمشاعر والخواطر، ولا تزال تهتدي بالغريزة والإلهام بجانب الذهن البارد الجاف. وهناك لحظات تنفض عنها ذلك السكون البارد والوعي المتقيد؛ وتنطلق رفافة مشرقة، أو دافقة متوهجة، أو ساربة تائهة، أو نشوانة حالمة. . وفي كل اللحظات الفنية الفائقة لا تجد إلا التعبير الشعري، يتسق بإيقاعه القوي، وصوره، وظلاله، مع هذه الحظات الملاء الوضاء)
في هذا العالم الذي وصفت سماته نلتقي بالشاعر محمود أبو الوفا صاحب الأنفاس المحترقة. نلتقي به شاعرا كله شاعر يخلص من اصطناع القوالب، واصطناع الأفكار، واصطناع الأحاسيس، واصطناع التعبير، ويلقانا بروحه كما خلقه الله. يلقانا بلا تكلف ولا تجمع ولا غشاء. يلقانا كما تلقانا الزهرة لتفرغ لدينا عبيرها وعطرها وتمضي! ويحدثنا أبو الوفا عن نفسه وحبه وآلامه ونجواه. . . أو يحدثنا عن الإنسانية والوطن والشعب. . . فهذا هو أبو الوفا الشاعر الغنائي المرفرف، عذب الروح حتى وهو يتجرع صاب الحياة، سمح الخليفة حتى وهو يحرق الأنفاس
استمع إليه يغني (في انتظار الصباح)
جدد لي الأقداح ... يا ساقي الراح
على أرى في الراح ... أطياف أفراحي
في مزهري ألحان ... أخشى أغنيها
أخشى على الأوتار ... من حولها ما فيها
يا مزهر الأقدار غن ... بها غني
واشرح على الأطيار ... ما غاب من فني
لكل يوم شراب ... لابد من كأسه
وكل معنى العذاب ... في لون إحساسه
من ذا يرد الصواب ... للدهر في ناسه
للغاب يا ابن الغاب ... اهرب فداك اللواح
تبا لضعف التراب ... أغرى عليه الرياح
لولاي في ذا الإهاب ... ما هيض مني الجناح
لا تسألوا يا شهود ... عن حكمة الأقدار
وأين نحن العبيد ... مما وراء الستار
ومن تخطى الحدود ... يلقى به في النار
(النار ذات الوقود) ... يا رب يا ستار!
ربان بحر الوجود ... أدرى بموج البحار
فاستسلموا للوعود ... وامضوا مع التيار
ها اسقني يا صاح ... كأس الهوى الفضاح
سكران لكن فؤادي ... مما يعانيه صاح
يا ليل هل من مداو ... يا ليل، يشفي جراحي؟
لم يجد فيك اصطباري ... وليس يجدي نواحي
يا هل ترى لي صياح ... أم ليس لي من صباح
إنه مطلق غناء. لا تربط بينه قافية واحدة، ولا تربط بينه فكرة جامدة. إنما تربط بينه تلك النغمة المنسابة. نغمة الروح الحزين. العابث. المتطلع. الأليف. الوديع. روح الفراشة البضاء والعصفور والراقص المزقزق الصداح!
ومن هذا اللون والجو قصيدته: من الأعماق:
يا ليل هل ترثي لواجد؟ ... يا ليل أنت علي شاهد
أشكو الوسائد للمرا ... قد، والمراقد للوسائد
وجد أقض مضاجعي ... هيهات ينجو منه واجد
بيني وبين هواي أب ... عاد نضل بها المراصد
(عيسى) أخوك (محمد) ... وكلا كما: تبان وشائد
ما للنصارى في كنا ... ئس والحنائف في مساجد!
ما للرواشد ما لهم ... لا يصهرون مع الرواشد!
أو ليس آدم واحدا ... أوليس دين الله واحد
لم لا يكون الحب وه ... والأصل رائد كل رائد
من فك بين عرى القلو ... ب وشد من العقائد؟
ومن الذي خلى القوا ... رح لعبة بيد الولائد؟
رفقا بأفئدة تحر ... ق في المجامر للمعابد
رفقا على الأنف الشكي ... م من الشكائم والمقاود
أصبحت من خوف القيو ... د أخاف وسوسة القلائد
جعلوا قواعد للحيا ... ة هل الحياة لها قواعد؟
يا قلب ويحك فاتئد ... يكفي الذي بك من مواجد
من ذا تناغى في دجىالل ... يل البهيم ومن تناشد؟
لغة البلابل أين تذه ... هب بين هدهدة الهداهد؟!
. . . الخ
فهنا كذلك تفوح رائحة الأسى والعتاب مضمخة بشذى الود والحب. . الحب الذي يلقى به الشاعر الحياة، وهي تفزعه وتروعه، فيغدو فيها كالطائر الحذر المفزع، لا يتم نهله من ري، ولا يأمن لروح من ظل، إلا وهو يتلفت ذات اليميم وذات الشمال
أصبحت من خوف القيو ... د أخاف وسوسة القلائد
وهي لمسة فنية بارعة متحركة لحالة نفسية فريدة في بضع كلمات ويبلغ الشاعر قمته في هذا المعنى أو قريب منه، وهو يرسم في قصيدة (ضحايا) تلك الصورة العجيبة، النادرة في شعر الإنسانية كلها، وهو يقول:
أحب أضحك للدنيا فيمنعني ... أن عاقبتي على بعض ابتساماتي
هاج الجواد فعضته شكيمته ... شلت أنامل صناع الشكيمات
ويبلغ الفن ذروته هنا في توافق الحركة الشعورية للشاعر والحركة الحسية المتخيلة للجواد. وتأخذ الحركة الشعورية في البروز والتجسم بتواكب الحركة الحسية ونبضها، حتى تنتهي بذلك الدعاء الكظيم: (شلت أنامل الشكيمات) فتبلغ ذروتها النفسية والفنية جميعا، وتترك في النفس إيقاعها الشاجي وصداها الحزين
والآن فلنصحب الشاعر في جولة أخرى. (على شاطئ النيل):
الكأس قبلك مرت في فم نجس ... وكيف تشرب منها بالفم الطاهر
يا نيل إن لم تطهرها فمعذرة ... إن عف عنها، وإلا عافك، الشاعر
ولا أزيدك لم الشاطئين وما ... عليهما اليوم من خاف ومن ظاهر عليهما الأمر يجري حسب ما سمحت ... به الرياح ولا ناه ولا زاجر
أقسمت يا نيل - لو تدري - لما التطمت ... فيك الشواطئ إلا بالدم الفائر
يا ليت شعري لمن تلك الكروم على الش ... طين تسبي القلب والناظر
في سندس من حقول الروض أبسطة ... بالدر قد فصلت واللؤلؤ العاطر
كأنها لوحة من عبقر رفعت ... في باب عبقر يستهدي بها الزائر
ما أجمل الأفق يبدو في شروقهما ... وفي غروبها غب السما الماطر
سرادق الظل في أفواف ظلهما ... كأنه أفق فجر غائم سافر
كأنه سحب من فوق مجمرة ... قد بات يشملها في كهفه ساحر
قل لي: أللشعب منها غير منظرها ... وسقيها أويد الحصاد والباذر؟
إن لم تدر بين أيدينا معاضرها ... فما أردت ولا دارت رحى عاصر
قم حطم الكأس أو فاملك مواردها ... أو فانس حقك إن الحق للقادر!
هنا تلتقي مواجع الشاعر بمواجع الشعب المحروم، وتلتقي آلامه بآلام الجماهير الكادحة؛ فترتفع نغمة الألم، وتشتد حرارة النفثة، وتتحول شواظا وضراما. ولكن الشاعر يظل يلقاك بروحه الشاعرة، وفنه الأصيل. سواء كان ذلك في تصوراته الشعرية ورؤاه، أم في الزاوية التي يطل منها على المشاهد والمرائي. فلا يسف ولا يجف، ولا يتحول فنه إلى خطابه جوفاء، وليس فيها سوى الجعجعة والضجيج!
وهكذا يثبت أبو الوفا أن الفنان الأصيل يملك أن يغمس ريشته في جراح الإنسانية، ومواجع الكادحين والمحرومين، ثم يبقى مع ذلك فنانا يحس بطريقته الخاصة، ويرسم بيده لا بيد العوام والأمين وهي ظاهرة أحب أن أبرزها هنا، لأن هنالك خلطا في هذه الأيام بين وظيفة الفنان ووظيفة خطيب الجماهير! في الإحساس بالآلام العامة. وفي طريقة التعبير عن هذه الآلام، تختنق في غمرتها روح التقدير الفني الصحيح
وبعد فليست (أنفاس محترقة) كلها من هذا الطراز الفني بطبيعة الحال، ففيها الأنفاس المشتملة والأنفاس الخابية، وفيها المقطوعات التي يصيبها الإعياء سواء في النبض أو في التعبير، وفيها المقطوعات التي يصعب أن تعدها من الشعر أصلا، ولكنني أحب أن أقرر بعد هذا كله أن شعر أبو الوفا (ظاهرة فنية) لها مظاهر قوتها الخاصة، ومظاهر ضعفها الخاصة. ظاهرة فنية مستقلة تستحق الدراسة في تاريخ الشعر العربي كله ظاهرة نية لم تدرس بعد حق دراستها لأن النقد الفني لم يكن من اليقظة بحيث يلتفت إلى الظواهر الفنية التي تولد بين الحين والحين
سيد قطب
مجلة الرسالة - العدد 945
بتاريخ: 13 - 08 - 1951