الوقت مرايا مهشمة. مشارط الغروب تفتح الجراح المغلقة، و ترتل كتاب الحزن في قلب عجوز. على الحصير المتآكل بسطت المائدة. قرآن المغرب ينثال رخيما من الراديو. أبدا لم تنس وضع الزيتون و تزيين المائدة بصحن التين؛ كي يشق يحيي صومه بالعسل الرطيب. اتكأت على عصا قديمة، جثت أمام فرن الحطب القابع في ذيل الدار، أخرجت برام الأرز المدسوس؛ فيحيي يحب الطعام ساخنا كقلبه المشتعل بعشق غزالة. لقد وعدته بأن تبيع الدملج و الشناف و الخلخال و النخلات؛ كي يمهر العروس بعد حصوله على تصريح الإجازة القادمة. تخيلت ولدها يخطر في قفطانه الناصع وسط فتيان النجع الذين حملوا المشاعل ليلة زفافه، و تخيلت الدار مطلية بالجير الوردي، و رأت أكف النساء المخضبة بالحناء تتبارى في التصفيق، و بسملت في وجه عروس نافس فضة البدر، فالتمع وسط حلقة الحجل، و سمعت الزغاريد تحلق في الفضاء المشبع بسجع اليمام. شحذت العجوز بصرها الكليل، و تطلعت إلى الباب متلهفة لإطلالته. عادة ما يقبل لاهثا بعد إطلاق مدفع الإفطار؛ فيحيي لا يشبع من الركض خلف الكرة في باحة الرمل المحفوفة بالنخيل ، رفاق اجتمعوا بعد صلاة العصر بغية تسلية الصيام كان يحيي وردتهم، لعبة صارت نبع البهجة لأهالي النجع، لن يوقفها شيء سوى دوي المدفع المسموع من ميكروفون المسجد المزين بلمبات النيون الخضراء. وجه ندي مبلل بحبات العرق، و ابتسامة صافية تحيل الدار المعجونة في السكون إلى صهيل حياة. ترهف العجوز السمع؛ لعلها تسمع خصف نعليه على الأديم، فيرتد إليها الصمت كحصاة بليدة لم تشعر باحتراق قلبها. المؤذن يرفع الأذان والإقامة، و العجوز قابعة أمام المائدة في ذهول واضعة رأسها بين كفيها. الظلمة تتسلل إلى الدار كغراب منقوع في السواد، الطعام يبرد و قلب العجوز مازال مشتعلا بجمرها المنتبه، الشوق يشوي ضلوعها، تنهض، تفتح صندوقها الخشبي المغلق، تخرج زيا عسكريا مخضبا بالدم، تشتم الرائحة التي لم تفارق أنفها قط، تتحسس صدر السترة، تنطلق رصاصات مسعورة، تستقر في قلبها المفطور، تتمدد للمرة الألف غارقة في دمائها أمام المائدة المبسوطة، بينما كانت صورة الغائب المعلقة على الحائط تزيح بنورها سديم الظلمة، و تعانق في خشوع سجع اليمام و أجنحة ملائكة تنزلت على باحة الدار بصفاء و سلام.