أحمد عبدالله إسماعيل - أقنعة السعادة

جلستُ بصحبة هاتفي المحمول، ونيسي البغيض، سجاني الذي استعبدني؛ فصرت لا أقوى على تركه رغم يقيني أنه اختطفني من حياتي الهادئة.
هل أصدق ما تراه عيناي؟!
أقابل أعز أصحابي مصادفة؟؟
إنهم أصدقاء الدراسة، اعتاد أهل الحارة رؤيتهم طوال أيام الجامعة معي في المقهى، انقطعت أخبارهم إلا من الفيس بوك؛ ملوك السعادة الذين لا أراهم إلا عبر الإنترنت، يتزين بهم الفيس بوك كل يوم وليلة، ينشرون كل تفاصيل حياتهم السعيدة على مدار الساعة؛ فتبهجني رؤيتهم سعداء غارقين في الحب والسعادة الزوجية.
عادل أحمد ... خمسيني صاحب شركة سياحة متزوج وله ثلاثة أبناء، لا يحب في حياته إلا أسرته، يحبهم لكن على طريقته، يتوجه بعد ساعات إلى القاهرة لمقابلة صاحبة شركة سياحة أمريكية في زيارة لمصر، طلبت منه الزواج لكنه رفض مرارًا رغم كل إغراءاتها، تقترن رؤية صوره على الفيس بوك بفكرة أنه أسعد زوج في العالم.
صلاح أسامة ... مهندس يهوى كتابة الشعر، أتمَّ الأربعين من عمره، متزوج وله ولدان، لا يتخيل حياته لو لم تكن فيها تلك المرأة التي تلهمه كتابة أشعاره، وقد حضَّر نفسه للسفر إلى الإسكندرية مساء الليلة لمقابلتها بعد سفر زوجها إلى لبنان لحضور مؤتمر طبي، تقترن رؤية المقاطع المصورة التي يبثها على صفحته بفكرة أنه، هو الآخر، أكثر أزواج العالم ابتهاجًا.
زكي أيمن ... أيضًا مهندس أرمل يتم الخمسين الشهر المقبل ماتت زوجته قبل عشر سنوات ولم يحب إلا مؤخرًا، لكنه اكتشف قبل ساعات بالمصادفة أن حبيبته مريضة بالسرطان، تقترن قراءة منشوراته بفكرة أنه غارق في بحر الحب الذي لا يدانيه وصف، ولا يمنعه عنه مستحيل غير أنه ضرب معها موعدًا؛ ينوي وأد العلاقة في مهدها!
ثلاثة أصدقاء غلبتني الحيرة في التعامل معهم؛ طلبوا مني النصيحة حين جمعتنا صدفة غريبة في اليوم الأخير لتقديم الإقرار الضريبي في مكتب الضرائب العقارية؛ إذ توافدوا واحدًا تلو الآخر، وبعد أن حكى كل منهم ما يؤرقه تشابهت نهاية كلامهم بنفس السؤال: ماذا تفعل لو كنت مكاني؟!
جلسنا أمام مكتب المدير، لعله أصغر مكان في المديرية كلها، يقف فيه عشرات الأشخاص، وتشغل جانبيه بضعة مقاعد حديدية غير مريحة. يقدم كل منا في البداية أوراقه للفحص، والمرفقات المكونة من صورة عقد التمليك، وصورة بطاقة الرقم القومي، ونموذج الإقرار الضريبي بعد كتابة البيانات المطلوبة وتوقيعه.
رغم ضيق المكان وازدحامه، أصر بعض الشيوخ من ذوي المعاشات على التدخين، وبدلًا من إبداء ضيقنا واعتراضنا، واحترامًا لسنهم الكبيرة، خرجنا نتجاذب أطراف الحديث أمام المبنى بعدما أدركنا صعوبة الانتهاء من هذا الأمر سريعًا.
فكرت في أمر صلاح وعادل باهتمام فاق تخيلي، وبالمنطق وجدت أن زكي أسهل حالة من وجهة نظري.
في البداية، رفضت حب الثاني لامرأة متزوجة مهما كانت المبررات؛ فلا يحق له مجرد التفكير فيها، جلست قلقًا أهز ساقي بحركة لا إرادية، ثم واجهته مستفسرًا:
- هل ينتهي بك المطاف في بث مباشر لصفحة جريدة الوطن على الفيس بوك عنوانه: "لحظة الحكم على الزوج المتهم بإنهاء حياة زوجته وعشيقها؟!"
غير أن الأول يختلف عنه؛ فرغبة تلك الأمريكية في الزواج به رغبة مشروعة حتى وإن أحدث زواجه هزة عنيفة زلزلت حياته التي تبدو للناس مترعة بالسعادة.
أما زكي.. فالحب الذي يحمله لتلك الفتاة ونراه على صفحته في الفضاء الأزرق -كل حين- يستحق أن يتوج بالنهاية السعيدة، ولو لأشهر قليلة؛ لأنه الإنسان الوحيد الذي يتحملها دون شكوى، لكن فكرة حزنه من إخفائها أمر مرضها تنفرني!
نظرت إلى عادل وتنهدت في حيرة؛ فهو متزوج وبالطبع زوجته سوف ترفض زواجه بأخرى؛ فهي تغار من كل فتاة تراها عيناه، برغم جمالها؛ فلها عينان واسعتان وأنف في حجم حبة الفراولة الصغيرة وشفتان ورديتان، زواجه بأخرى سيكون شديد الوطأة عليها.
سألت عادل، هذا السؤال المفاجئ، والحق أنه لم يفكر في السؤال حتى سمعه مني:
- هل توافق زوجتك المهمَلة المكلومة على ما تنوي الإقدام عليه ؟
فقال نافيًا:
- بالطبع لا؛ فهي تحبني، وكلما تراني يتهلل وجهها، وتنساب السعادة في أوردتها.
سألته في دهشة:
- هل تحبها؟؟
تحيرت في أمري حين قال:
- تقسم لي إنها تحبني.
- ما المشكلة إذن؟!
- لا يوجد هدف مشترك بيننا يجعلنا نتجاوز أي خلاف!
تفهمت ما يقصده وقلت:
- ولهذا ترغب في الزواج بأخرى؟!
تحدث صراحة عن السر الذي ينغص عليه حياته:
- حلمي أن أرتبط بمن تجعلني أهم أولويات حياتها، لكني أخشى هدم بيتي وخسارة أولادي!
قلت له بنبرة مأساوية:
- من يتزوج الثانية عليه أن يتوقع كل العشق والبغض، الارتياح والقلق، السباحة في فضاء اللذة والمعاناة من ألم النكد، وربما ينتهي بك المطاف في بث مباشر لصفحة جريدة الوطن على الفيس بوك عنوانه: "الزواج الثاني ينتهي بصاحب شركة سياحة في ساحات المحاكم"، مستعد يا عادل؟
فيرد وهو يقطب حاجبيه متبرمًا:
- أتزوج الثانية كي أستريح من عناء التجاهل وعدم الاهتمام، لكني بهذا الشكل أورط نفسي و أنزلق في الجحيم فأصبح مثل الكرة تقاذفها النساء مثل أنثى القنفذ!
تعجبت في ذهول وقلت:
- لماذا أنثى القنفذ تحديدًا ؟
منتشيًا باستعراض معلوماته كعادته أيام شبابه، قال:
- عندما يتزوَّج القنفذ بأنثى غيرها، تقوم بحفر بيت لهما بمناسبة زواجه كهدية له، حتى إذا دخل بزوجته الجديدة، جلست على البيت لمدة ساعة لتضمن وفاتهما!!
نظرت في عجب وسألته:
- كيف حصلت على تلك المعلومة التي لا تقدر بثمن؟!
أسند ظهره إلى سيارة وقال:
- لا أتوقف عن الاطلاع على صفحات الطبيعة والحياة البرية على الفيس بوك.
فوجئ بي أضحك بصوت لفت انتباه المارة حد الاستغراب، ثم قلت:
- تستقي المعرفة من الفيس بوك ؟! كيف يموت القنفذ بسبب احتجازه تحت الأرض لمدة ساعة إن كان يعيش حياته كلها في أنفاق؟!
مرت سنوات ظننت كل أصدقائي فعلًا سعداء كما يظهرون على مواقع التواصل الاجتماعي بضحكاتهم التي تملأ وجوههم، حرصت على التواصل معهم في كل مناسبة إلى أن حُذفت جميع جهات الاتصال من هاتفي المحمول بسبب خطأ تقنيّ، ولدهشتي، لم أتلق أية اتصالات من جانبهم كأني لم أحرص على مودة أحدهم يومًا!
التقيت بثلاثة منهم مصادفة، ظهرت شعيرات بيضاء في مقدمة رأس أحدهم، وتجاعيد خفيفة حول عيني آخر، أما الثالث فقد احتفظ بقدر معقول من وسامته، ورغم زواجهم بثلاث زوجات لكل واحدة منهن سحرها الخاص في أعين الناس، وبهن قدر كبير من الثقافة والجاذبية كما يقولون، لكنني بعد غياب طويل اقتربت منهم، ولمست بنفسي واقعهم الواقع وفهمت حقيقة ابتساماتهم المصطنعة!
ارتفعت نبرة صوتي حين سألت في حيرة:
- هل سأل أحدكم نفسه إن كانت زوجته ترضى عنه أم لا؟!
تعجب عادل وقال باستغراب:
- زوجاتنا ترضى عنا؟!
أكملت استفساراتي لعلهم يفهمون ما أقصده:
- هل تشعر زوجة كل منكم بالأمن في بيته أم أنها تائهة غريبة تصطنع النوم أحيانًا كيلا تتحدث إليه أو تستمع إلى كلامه الممل المتكرر الذي تحفظه عن ظهر قلب؟! هل هو من كانت تحلم بالارتباط به أم تشبه أيام حياتها معه أيام السجن، وتحتاج علاقتها به إلى عَمْرة؟!
أجاب عادل في ضيق:
- لا نتشارك إلا في اللقمة، ومكان النوم كأنه بنسيون أو نُزل فندقي أما الاهتمامات فلا يهمها ما يهمني، وبالتالي لا أهتم بما يهمها!
داهمت عبارة زكي أذني حين قال:
- لم نتزوج بعد، فقط أحبها ولكنه الحب المستحيل!
سألته في ذهول:
- هل تعرف الحب؟!
أجاب واجمًا:
- الحب هو تلك القوة الغاشمة التي تلتهم الأخضر واليابس، ولا تسمح للعقل أو الإدراك بوزن الأمور أو الأحوال، إنه الألم المبهج الذي لا أعلم كيف تبخرت روحي بسببه وتغيرت إلى هذا الحد!
ذرف الدموع؛ فابتسمت ابتسامة باهتة في تعجب:
- عجبًا لأمرك .. تحبها حد البكاء وتراها أجمل النساء حتى وإن هاجمها السرطان، لكن كل ما يعنيك ويؤلمك هو إخفاء مرضها عنك!
تفهمت سبب كلماته بعد حديثه معي؛ فالخديعة تجعل الرجل كمن لدغه ثعبان فيخشى من أي حبل، ويتقلب قلبه متفكرًا في أمر محبوبته، مترددًا بين النقص والكمال، يحبها حين يراها كاملة الأوصاف وإن فوجئ بما يصدمه تقلب حاله، وبخاصة إن عاش في كذبة كبيرة لسنين طوال مثل زوجة زكي الأولى التي أخفت عنه خبر أنها عقيم بل وقدمت له فحوصات طبية مزيفة.
لذا حين اعتقدت أن "زكي" أيسرهم أمرًا، فإنه باغتني ومط شفتيه متحسرًا وقال:
- أعتذر؛ ليس في استطاعتي مواصلة هذه العلاقة الفاشلة.
سألته متعجبًا:
- لماذا؟!
صدمني برفضه وقال:
- لا أريد تكرار مأساتي مع زوجتي الأولى مجددًا!
حاولت إقناعه بتغيير رأيه:
- ربما يكون الأمر مختلفًا هذه المرة.
أصر على موقفه الرافض لهذا الحب وقال:
هل تنتظر سماع قصتي في بث مباشر لصفحة جريدة الوطن على الفيس بوك عنوانه: "مريضة بالسرطان تستغيث من مطلِّقها؟!"
شعرت بالحزن يهزني حين رفض الاقتناع بصحة موقفها؛ حاولت إقناعه مجددًا:
- لعلها أخفت مرضها حبًّا فيك.
اتخذ بالفعل قراره بعدم التفكير في الارتباط مرة ثانية ليثير بداخلي عاصفة من التساؤلات عن منشورات الحب التي كان يكتبها، على صفحته منذ التقى بها، كل ساعة تقريبًا حتى صباح اليوم؛ فتساءلت أناجي روحي:
"هل أحبها بإخلاص؟! فلماذا يشتهي سماع صوتها ويكره وصلها في نفس الوقت؟ وهل من السهل أن يتقلب الحبيب وينسى محبوبته؟! هل يتعافى قلبه من قسوته أو يتقلب فيعود إليها؟!"
عاد الثلاثة أدراجهم إلى بيوتهم بينما جلست أتعجب من أمر تلك المقابلة؛ علت فيها الضحكات الصاخبة النابعة من القلب، انقضت بعدها لحظات التجرد، عاد الأصدقاء كل إلى قناعه، وعدت أنا إلى سجني، هاتفي المحمول؛ فأبحرت في صفحاتهم الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي، تلك الحسابات التي ترتفع فيها أمواج السعادة كالجبال، وتخفي خلفها حقيقة مؤلمة ونارًا لا يخبو سعيرها، أتساءل في حديث لا ينقطع بداخلي:
"هل تستمر سعادة التعساء، تزينها الصور والمنشورات، كلما تجمعوا حول وجبة أو دخلوا مكانًا فخمًا مع زوجاتهم وذويهم، مخفية خلف جدار وهمي، أم يتجه كل منهم لمقابلة عشيقته الليلة كما يرغبون؛ فينتهي بهم المطاف في بث مباشر عنوانه: "العثور على جثث ثلاثة أصدقاء كانوا مفقودين منذ بضعة أيام ؟!"

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...