ليس آت ببعيد
بل قريب ما سيأتي
(عبدالله بن عبد الأعلى)
منذ أن جاورته، على المقعد الّذي أكلته أسنان مَنْ سبقنا في المدرسة الابتدائيّة، لا أعرفه إلّا بهذا اللقب - السلطعون. أمّا هو فكان يدّعي أنّه حمله معه من قريته. وأمّا أهله فقالوا إنّه عاد به من المدينة. والحقيقة هي أنّ ألقاب ولدنتنا، مثل النكتة، لا يُعرف مصدرها، ولكنّها تلتصق. وهمّي فيها أكبر من همّه، فكنت ألاحق هذه القضيّة. فلاحظت، فيما بعد، أنّ أمّ الولد كثيرًا ما تكون البادئة بإطلاقه على ولدها، فألقابنا تُشفّ على طبائعنا، وأمّهاتنا أدرى بنا.
وكنت أحسب أنّ لقب سرطان البحر علق به على مظهره الخارجيّ، فإنّ مشيته غريبة - الكتف اليمين مندفعة إلى أمام، والقدمان منفرجتان مثل البركان المفتوح، اليمين تؤشّر على اليمين والشمال على الشمال في إصرار البوصلة، وإذا أضفت إلى ذلك قامته الطويلة النحيلة وعنقه الممطوط، لا تحتاج إلى معرفة سابقة بهذا اللقب حتّى تبادره به.
ولكنّني كنت مخطئًا، فلمّا أغرمت بصيد السمك، وتعرّفت على طبائع سرطان البحر، وعرفت صديقي المرحوم حريز اليقظان كما يعرف السرّ كاتمه الأمين، أدركت أنّ الألقاب تتناول ما هو أعمق من المظهر الخارجيّ وتعرّينا. كان المرحوم، في طيبة قلبه وفي سذاجته، أشبه بسرطان البحر في سذاجته الّتي لا نظير لها. ولو كان العرب أهل شواطئ لاستعاضوا به عن النعامة في أمثالهم - يكون يجري مندفعًا، فما أن يرى ظلًّا غريبًا في طريقه حتّى ينقلب على ظهره وينصب فكّيه استعدادًا للقتال، فيؤسر على أهون سبيل، ولو ظلّ يجري لنجا. رحمهما الله، صاحبي وسرطان البحر، ورحم كلّ أصحاب القلوب الطيّبة المحاربين المنقلبين على ظهورهم، الّذين يزيد عددهم عن عدد رمل البحر!
وفكّرت مليًّا في العنوان الملائم لهذه المرثيّة، الّتي طلبتها منّي في الأربعين على وفاة المرحوم حريز اليقظان، صديق العمر، حتّى عُدت إليّ وأنت تقول إنّك تريد منّي فيها، بالإضافة إلى تعداد مناقبه، أن أفسّر لأصدقائه الكثيرين كيف كنت أبتسم بل، كما اتّهمتموني، كنت أضحك، من دون المشيّعين جميعًا، وأنا أسير معكم وراء جثمانه.
أمّا والله ما ضحكت يا أخي، وشرّ البليّة لا يُضحك. ولكنّني ابتسمت لأنّني وجدت على حين غرّة الجواب على السؤال الّذي أقضّه طوال حياته، ولو كنت وجدت هذا الجواب وهو على قيد الحياة، وأخبرته به لابتسم معي، وفطنت إلى طيبة سرطان البحر، فجعلته عنوانًا، وستبتسم أنت أيضًا، حبًّا وحسرة، حين تعلم عنه ما علمت.
ما هي النهاية؟ هذا هو السؤال الّذي ألحّ عليه طوال الوقت. أنتم لا تعرفونه إلّا “أبا فلان”. وكان لهذا الاسم هيبة في زمن الانتداب، ومن الأسماء ما له هيبة. وبقيتم وقتًا طويلًا ترجعون صدى صوته الذي انقطع. فقد أذهلته النكبة الأولى وانطوى على نفسه، ولم يبرأ كليًّا من هذا الذهول حتّى ساعته الأخيرة، وأعجب ما في أمره أنّ صدمة حزيران قد ردّت إليه بعض أنفاسه، مثلما تفعل الصدمة الكهربائيّة بمرضى الأعصاب.
وكنت اتردّد عليه في بيته، فلم أقطع ما تعوّدنا عليه، في زمن الانتداب، من تبادل الرأي والمسارة. فجلسنا ننظر حوالينا إلى شعب، بقضّه وقضيضه، وقد هام على وجهه في ليلة غبراء، حدّثته عن البيوت الّتي دخلناها في حيفا فوجدنا القهوة مصبوبة في أكوابها وما وجد أصحابها وقتًا لشربها قبل الرحيل. فحدّثني كيف رحل جيرانه، كأنّما وباء خبيث انتشر في حارته. بدأ بالجار فانتقل إلى جاره، خلا بيت فأخلى ما حوله، وخرجت سيّارة محمّلة بمتاع دار، فاكترى الآخرون دواب، وآخرون استبدلوا أرجلهم، وبادرني بالسؤال: ما هي النهاية؟
وأذكر يومًا حين عاد من زفاف أحد أقربائه في قرية بيت صفافا، في ضواحي القدس، الّتي شقّتها اتّفاقيّة رودوس، بالأسلاك الشائكة، إلى شقّين، إسرائيليّ وأردنيّ. عاد وقت استبدّ به هذا السؤال. قال إنّهم شرّفوه بأن اختاروه ليتأبّط ذراع العريس، “فلا تزال في هيبة هذا الاسم بقيّة”. وكانوا يزفّون العريس في شارع القرية الوحيد، وعلى يسارهم الأسلاك الشائكة الّتي تحزّ القرية إلى قسمين، وسار العريس وحوله أقرباؤه وأصحابه في القسم الإسرائيليّ، بينما سار بقيّة أقربائه وأصحابه، يهزجون ويزفّونه، إلى جانب من وراء الأسلاك الشائكة في القسم الأردنيّ، وقد حافظ كلّ فريق على مقتضيات الامتناع الكلّيّ عن تبادل الحديث فيما بينهما لما في ذلك اتّصال ممنوع بالعدوّ، هذه القريب بعدوّه القريب، وذاك القريب بعدوّه القريب، سوى الزغاريد الّتي تشقّ كلّ ما خلقه الله من أسلاك شائكة، ولا يفهمها الرقيب على القريب. فصاح: ما هي النهاية؟
في يوم آخر، حين استيقظنا على الخبر الداهم عن اعتقال عائلة الإبراهيميّ المعروفة، بجميع رجالها ونسائها، وهم جيرانه. فأخبرني همسًا بأنّ ابنهم اللاجئ في الأردنّ عاد متسلّلًا، واختبأ في الدغل، وأرسل في طلب أخيه، فجاءه. ثمّ جاء والده. ثمّ جاءته أمّه وعلى رأسها طبق محمّل بالدجاج المحمّر. ثمّ جاء أخوته وأخواته، وأبناء عمّه، وأخواله، فاعتقلوا جميعًا. لقد أتمّ سرد الحماية همسًا، ثمّ صاح: ما هي النهاية. ومطّ عنقه الممطوط: أريد أن أعيش حتّى أرى كيف تكون النهاية.
والواقع أنّ سؤاله الدوام هذا كان يهزّ خواطري. فانبسط أمامه رؤيانا السياسة عن المستقبل الممكن في الوقوع، حيث تزول أسباب الكراهية والريبة بين الشعبين، فلا تبقى قضيّة إقليميّة أو قوميّة إلّا وتنفرج عقدتها. ولا شكّ في أنّني كنت أردّد على مسامعه حقيقة الفارق ما بين مسلكه ومسلكنا. فبينما هو يريد أن يعيش حتّى يرى كيف تكون النهاية، نحن نريد أن نعمل من أجلها.
حتّى ارتطمنا بحرب حزيران، وما بعدها. وعاد من زيارته الأولى إلى مدينة نابلس وهو أشدّ اقتناعًا بحيرته - ما هي النهاية؟
قال: حتّى أصحابك هناك تحت رؤيتهم السياسة ما حدث. فهل حسبتهم أنتم له أيّ حساب؟ لقد ناموا على حُكْم واستيقظوا على حُكم آخر، فما هي النهاية؟
وحين عُدت من زيارة رام الله للمرّة الأولى بعد حزيران والتقيت أقربائي هُناك. هتف: هل دخلتها بسيّارتك الإسرائيليّة؟ قلت: نعم. فصاح في سنة ١٩٤٨ اضطررت إلى ترك بيتك في رام الله والمجيء إلينا، فهل تصوّرت، حتّى في أضغاث أحلامك، هذه العودة إلى بيتك في رام الله؟ ما هي النهاية، ما هي النهاية؟
لم أشأ أن أخبره بأنّني وجدت البيت الذي سكنته في رام الله مهجورًا منذ أن أخليته. وبأنّني لففت حوله، وطلعت على عتبته. ونظرت من إحدى النوافذ فرأيت عنكبوتًا قد نسج خيوطًا احتوت السقف كلّه، فتأمّلت أن يكون من بقايانا. فسألته: هل تذكرني؟ فظلّ ينسج خيوطه.
وقلت لصاحبي مواسيًا: أتدري؟ نحن لا نتساءل عن النهاية منذ سنة ١٩٤٨ فقط، بل منذ بدأنا نشترك في المظاهرات والإضرابات.
فقال: ما أبعد ما قطعنا، ولا نزال نسير، فتتلوّى الطريق أمامنا، وفي كلّ عطفة مفاجئة، وفي كلّ مفاجئة عثار، فما هي النهاية؟
ومنذ ذلك اليوم، في أواخر سنة ١٩٤٨، حين اقتادوه مع الألوف من رجال بلده إلى الساحة العامّة، مستنطقينهم عن السلاح المخبوء، ولتعريب الرجال غير المرغوب فيهم، ومرّ مع غيره أمام رجال غطّوا رؤوسهم بأكياس خيش مثقوبة للرؤية، فأشار رجال الخيش عليه وعلى المكان الّذي خبّأ فيه البندقيّة، وكان يحسب أنّ أحدًا سواه لا يعرف مكانها، وسجنوه، وهو يرفض الاشتراك في أيّ عمل جماهيريّ. وكان يقول لي، حين كنت أجيئه مستحثًّا: لا يصلح العمل المجدي إلّا ما ناس تأتمنهن. الحذر ضرورة، والثقة طيش. حزبك على العين والرأس، ولكنّه مفتوح، فلا أستطيع أن أبذر حياتي فيه هباءً.
الآن جاء الدور على تعداد مناقب الفقيد. لقد كانت منقبته الوحيدة أنّه رفض أن يكون علينا حين تهاوى الرجال مثل ذباب على جيفة، ينهشون لحومنا الطريّة وهم يعتذرون: نريد أن نعيش! لقد أحجم عن العمل معنا، ولكنّه رفض التفريق بما كان لاسمه من هيبة، فعاش محترسًا - هذه هي منقبة المرحوم حريز اليقظان الّتي دفعت إلى السير وراء جثمانه مئات عارفي فضّته، حاملينه إلى مثواه الأخير.
وبمرور الأيّام، أثقلت اليقظة على صاحبنا المرحوم حريز اليقظان. وحين تبيّن لنا أنّ واحدًا من جماعتنا، إنّما هو عميل مأجور زُرِعَ في صفوفنا، وجئته لأخفّف وقع الانكشاف عليه، بادرني مهتاجًا: أرأيت؟ قلت: ففي أيّ مكان رأيت غير هذا، وهل استطاع المزروعون في يوم من الأيّام، أن يحرقوا ما زرعه الشعب بأكفّه؟
ثمّ جاء ذلك اليوم الحاسم، حين زرته فلم يلقّني بقهقهته المسموعة، الّتي لم يبق مسموعًا عنه سواها. كان متجهّمًا ويحدّثني بتحفّظ، وكان ساخطًا ومتأفّفًا. وما أن بادرته بحديثنا العاديّ، عن السياسة وما إليها، حتّى أطلق جهاز الراديو على عقيرته، وقارب أذني هامسًا أنّهم استدعوه أمس، وحقّقوا معه في حديث جرى بيني وبينه في بيته، وأنّ ما نقلوه عنه صحيح، وأنّه متأكّد من أنّهم زرعوا، في هذه الغرفة من بيته، آلة التقاط للصوت، فلا يصلح الكلام هُنا. قلت: ولا في أيّ مكان آخر؟ قال: وفي في أيّ مكان آخر. قلت: بل يصلح الكلام الصحيح في كلّ مكان. قال: الحذر الحذر.
ومنذ ذلك اليوم لم يعد حديثه معي سوى همهمة. فإذا سألته رأيه في أمر أطلق من فمه حشرجة، تارة مبحوحة وتارة خشنة، على حسب المدلول الذي يريده لهذه الحشرجة. فإذا ألححت عليه رفع حاجبيه تارة وأغمض عينيه أو فتحهما تارة أخرى، وكان عليّ أن أفهم من هذه الحركات والهمهمات والحشرجات رأيه في الأمر.
وفي إحدى هذه الجلسات نسيت أنّني حيوان ناطق فجاريته في لغة السرّ العميق الّتي اختارها إمعانًا في الاحتراس. فصرت أُهَمْهِمُ ردًّا على همهمته، وأرفع حاجبي فيخفض حاجبيه، فأخرج الحشرجة من فمي فيردّ عليّ بأحسن منها، وبقينا على هذه الحال حتّى أديرت القهوة، فانصرفت.
وما ناديته، بيني وبينه، مرّة إلّا بلقب الطفولة - السلطعون. وكان يناديني، هو أيضًا بلقبي، ولن أطلعك عليه لأنّ هذا الأمر هو مهمّة مَنْ سيكتب في رثائي، إذا ما وُجِد، غير أنّني، في زياراتي الأخيرة له، أصبحت أناديه برهين المحبسين، بيته وصدره، فكان يجيبني بكحّة مصدورة تستغرض أكثر من الوقت الّذي أقضيه معه.
فالمرحوم، حريز اليقظان، في أيّامة الأخيرة، استعان بالخمرة على احتمال الكتمان، حتّى أدمن عليها، وكان لا يخرج من بيته إلّا لقضاء هذه الحاجة أو ليحملها معه إلى بيته محترسًا.
حتّى كان ذلك اليوم المشؤوم حين فاجأنا بحضور الاجتماع الانتخابيّ الأخير الّذي عقدناه، وتصدّر القاعة وقد نصب عنقه استعدادًا للقتال، وكان واضحًا أنّ صاحبنا قد أثمل.
وبينما كان خطيبنا في عنفوان خطابه، والتصفيق له يتبع التصفيق، وأمل الحياة يدفع إلى العمل، إذا بصوت يعلو على صوت الأكفّ، وعلى صوت الهتافات، يقطع كلّ نامة ويذهب الحضور. كان صاحبنا المرحوم حريز اليقظان يهتف، بأعلى ما في حنجرته الّتي حبسها دهرًا، بهتافات قوميّة متطرّفة.
تجمّعنا حوله، وأخذناه بأقصى ما استطعنا من هدوء خارج القاعة. وذهبت معه إلى بيته حيث وضعته في الفراش وقد غاب عن وعيه، وكان يردّد دونما رابط سؤاله المقيم: ما هي النهاية، ما هي النهاية؟ ولم أتركه حتّى سمعت شخيره.
ولكنّهم لم يتركوه. وتعرف كيف اعتقل في الليلة نفسها، وخرج بعد أسبوع وقد ضُرِبَ وأُهين، فوقع في الفراش. ولم يخرج من بيته بعدها إلّا محمولًا على الخشبة.
وحين سِرْتُ مع أصحابه الكثيرين وراء جثمانه، وتطلّعت إلى فوق حيث كان محمولًا على الأكفّ، سقطت على رأسي تفّاحة نيوتن، فوجدت الجواب على السؤال الّذي أقضه طوال عمره: ما هي النهاية؟ فتبسّمت.
هذه هي النهاية، يا صحبي، نهاية الّذي لا يتلفّت حوله بل يتلفّت إلى داخله، فلا يرى حوله سوى الظلال الغريبة، فينقلب على ظهره وينصب فكّيه للقتال. أيّهما تقاتل: نفسك أم ظلالك؟
وبعد أن وارينا جثمانه في مثواه الأخير، وترحّمنا على نفسه الطاهرة، عُدْنا إلى أعمالنا نجمع الرجال مع الرجال لنوسّع في الظلال الّتي يتفيّأ بها حاثّو الخطو نحو ما سيأتي.
المصدر: «مجلّة الجديد».
إميل حبيبي.
النشر: 1 نيسان (أبريل) 1970.
بل قريب ما سيأتي
(عبدالله بن عبد الأعلى)
منذ أن جاورته، على المقعد الّذي أكلته أسنان مَنْ سبقنا في المدرسة الابتدائيّة، لا أعرفه إلّا بهذا اللقب - السلطعون. أمّا هو فكان يدّعي أنّه حمله معه من قريته. وأمّا أهله فقالوا إنّه عاد به من المدينة. والحقيقة هي أنّ ألقاب ولدنتنا، مثل النكتة، لا يُعرف مصدرها، ولكنّها تلتصق. وهمّي فيها أكبر من همّه، فكنت ألاحق هذه القضيّة. فلاحظت، فيما بعد، أنّ أمّ الولد كثيرًا ما تكون البادئة بإطلاقه على ولدها، فألقابنا تُشفّ على طبائعنا، وأمّهاتنا أدرى بنا.
وكنت أحسب أنّ لقب سرطان البحر علق به على مظهره الخارجيّ، فإنّ مشيته غريبة - الكتف اليمين مندفعة إلى أمام، والقدمان منفرجتان مثل البركان المفتوح، اليمين تؤشّر على اليمين والشمال على الشمال في إصرار البوصلة، وإذا أضفت إلى ذلك قامته الطويلة النحيلة وعنقه الممطوط، لا تحتاج إلى معرفة سابقة بهذا اللقب حتّى تبادره به.
ولكنّني كنت مخطئًا، فلمّا أغرمت بصيد السمك، وتعرّفت على طبائع سرطان البحر، وعرفت صديقي المرحوم حريز اليقظان كما يعرف السرّ كاتمه الأمين، أدركت أنّ الألقاب تتناول ما هو أعمق من المظهر الخارجيّ وتعرّينا. كان المرحوم، في طيبة قلبه وفي سذاجته، أشبه بسرطان البحر في سذاجته الّتي لا نظير لها. ولو كان العرب أهل شواطئ لاستعاضوا به عن النعامة في أمثالهم - يكون يجري مندفعًا، فما أن يرى ظلًّا غريبًا في طريقه حتّى ينقلب على ظهره وينصب فكّيه استعدادًا للقتال، فيؤسر على أهون سبيل، ولو ظلّ يجري لنجا. رحمهما الله، صاحبي وسرطان البحر، ورحم كلّ أصحاب القلوب الطيّبة المحاربين المنقلبين على ظهورهم، الّذين يزيد عددهم عن عدد رمل البحر!
وفكّرت مليًّا في العنوان الملائم لهذه المرثيّة، الّتي طلبتها منّي في الأربعين على وفاة المرحوم حريز اليقظان، صديق العمر، حتّى عُدت إليّ وأنت تقول إنّك تريد منّي فيها، بالإضافة إلى تعداد مناقبه، أن أفسّر لأصدقائه الكثيرين كيف كنت أبتسم بل، كما اتّهمتموني، كنت أضحك، من دون المشيّعين جميعًا، وأنا أسير معكم وراء جثمانه.
أمّا والله ما ضحكت يا أخي، وشرّ البليّة لا يُضحك. ولكنّني ابتسمت لأنّني وجدت على حين غرّة الجواب على السؤال الّذي أقضّه طوال حياته، ولو كنت وجدت هذا الجواب وهو على قيد الحياة، وأخبرته به لابتسم معي، وفطنت إلى طيبة سرطان البحر، فجعلته عنوانًا، وستبتسم أنت أيضًا، حبًّا وحسرة، حين تعلم عنه ما علمت.
ما هي النهاية؟ هذا هو السؤال الّذي ألحّ عليه طوال الوقت. أنتم لا تعرفونه إلّا “أبا فلان”. وكان لهذا الاسم هيبة في زمن الانتداب، ومن الأسماء ما له هيبة. وبقيتم وقتًا طويلًا ترجعون صدى صوته الذي انقطع. فقد أذهلته النكبة الأولى وانطوى على نفسه، ولم يبرأ كليًّا من هذا الذهول حتّى ساعته الأخيرة، وأعجب ما في أمره أنّ صدمة حزيران قد ردّت إليه بعض أنفاسه، مثلما تفعل الصدمة الكهربائيّة بمرضى الأعصاب.
وكنت اتردّد عليه في بيته، فلم أقطع ما تعوّدنا عليه، في زمن الانتداب، من تبادل الرأي والمسارة. فجلسنا ننظر حوالينا إلى شعب، بقضّه وقضيضه، وقد هام على وجهه في ليلة غبراء، حدّثته عن البيوت الّتي دخلناها في حيفا فوجدنا القهوة مصبوبة في أكوابها وما وجد أصحابها وقتًا لشربها قبل الرحيل. فحدّثني كيف رحل جيرانه، كأنّما وباء خبيث انتشر في حارته. بدأ بالجار فانتقل إلى جاره، خلا بيت فأخلى ما حوله، وخرجت سيّارة محمّلة بمتاع دار، فاكترى الآخرون دواب، وآخرون استبدلوا أرجلهم، وبادرني بالسؤال: ما هي النهاية؟
وأذكر يومًا حين عاد من زفاف أحد أقربائه في قرية بيت صفافا، في ضواحي القدس، الّتي شقّتها اتّفاقيّة رودوس، بالأسلاك الشائكة، إلى شقّين، إسرائيليّ وأردنيّ. عاد وقت استبدّ به هذا السؤال. قال إنّهم شرّفوه بأن اختاروه ليتأبّط ذراع العريس، “فلا تزال في هيبة هذا الاسم بقيّة”. وكانوا يزفّون العريس في شارع القرية الوحيد، وعلى يسارهم الأسلاك الشائكة الّتي تحزّ القرية إلى قسمين، وسار العريس وحوله أقرباؤه وأصحابه في القسم الإسرائيليّ، بينما سار بقيّة أقربائه وأصحابه، يهزجون ويزفّونه، إلى جانب من وراء الأسلاك الشائكة في القسم الأردنيّ، وقد حافظ كلّ فريق على مقتضيات الامتناع الكلّيّ عن تبادل الحديث فيما بينهما لما في ذلك اتّصال ممنوع بالعدوّ، هذه القريب بعدوّه القريب، وذاك القريب بعدوّه القريب، سوى الزغاريد الّتي تشقّ كلّ ما خلقه الله من أسلاك شائكة، ولا يفهمها الرقيب على القريب. فصاح: ما هي النهاية؟
في يوم آخر، حين استيقظنا على الخبر الداهم عن اعتقال عائلة الإبراهيميّ المعروفة، بجميع رجالها ونسائها، وهم جيرانه. فأخبرني همسًا بأنّ ابنهم اللاجئ في الأردنّ عاد متسلّلًا، واختبأ في الدغل، وأرسل في طلب أخيه، فجاءه. ثمّ جاء والده. ثمّ جاءته أمّه وعلى رأسها طبق محمّل بالدجاج المحمّر. ثمّ جاء أخوته وأخواته، وأبناء عمّه، وأخواله، فاعتقلوا جميعًا. لقد أتمّ سرد الحماية همسًا، ثمّ صاح: ما هي النهاية. ومطّ عنقه الممطوط: أريد أن أعيش حتّى أرى كيف تكون النهاية.
والواقع أنّ سؤاله الدوام هذا كان يهزّ خواطري. فانبسط أمامه رؤيانا السياسة عن المستقبل الممكن في الوقوع، حيث تزول أسباب الكراهية والريبة بين الشعبين، فلا تبقى قضيّة إقليميّة أو قوميّة إلّا وتنفرج عقدتها. ولا شكّ في أنّني كنت أردّد على مسامعه حقيقة الفارق ما بين مسلكه ومسلكنا. فبينما هو يريد أن يعيش حتّى يرى كيف تكون النهاية، نحن نريد أن نعمل من أجلها.
حتّى ارتطمنا بحرب حزيران، وما بعدها. وعاد من زيارته الأولى إلى مدينة نابلس وهو أشدّ اقتناعًا بحيرته - ما هي النهاية؟
قال: حتّى أصحابك هناك تحت رؤيتهم السياسة ما حدث. فهل حسبتهم أنتم له أيّ حساب؟ لقد ناموا على حُكْم واستيقظوا على حُكم آخر، فما هي النهاية؟
وحين عُدت من زيارة رام الله للمرّة الأولى بعد حزيران والتقيت أقربائي هُناك. هتف: هل دخلتها بسيّارتك الإسرائيليّة؟ قلت: نعم. فصاح في سنة ١٩٤٨ اضطررت إلى ترك بيتك في رام الله والمجيء إلينا، فهل تصوّرت، حتّى في أضغاث أحلامك، هذه العودة إلى بيتك في رام الله؟ ما هي النهاية، ما هي النهاية؟
لم أشأ أن أخبره بأنّني وجدت البيت الذي سكنته في رام الله مهجورًا منذ أن أخليته. وبأنّني لففت حوله، وطلعت على عتبته. ونظرت من إحدى النوافذ فرأيت عنكبوتًا قد نسج خيوطًا احتوت السقف كلّه، فتأمّلت أن يكون من بقايانا. فسألته: هل تذكرني؟ فظلّ ينسج خيوطه.
وقلت لصاحبي مواسيًا: أتدري؟ نحن لا نتساءل عن النهاية منذ سنة ١٩٤٨ فقط، بل منذ بدأنا نشترك في المظاهرات والإضرابات.
فقال: ما أبعد ما قطعنا، ولا نزال نسير، فتتلوّى الطريق أمامنا، وفي كلّ عطفة مفاجئة، وفي كلّ مفاجئة عثار، فما هي النهاية؟
ومنذ ذلك اليوم، في أواخر سنة ١٩٤٨، حين اقتادوه مع الألوف من رجال بلده إلى الساحة العامّة، مستنطقينهم عن السلاح المخبوء، ولتعريب الرجال غير المرغوب فيهم، ومرّ مع غيره أمام رجال غطّوا رؤوسهم بأكياس خيش مثقوبة للرؤية، فأشار رجال الخيش عليه وعلى المكان الّذي خبّأ فيه البندقيّة، وكان يحسب أنّ أحدًا سواه لا يعرف مكانها، وسجنوه، وهو يرفض الاشتراك في أيّ عمل جماهيريّ. وكان يقول لي، حين كنت أجيئه مستحثًّا: لا يصلح العمل المجدي إلّا ما ناس تأتمنهن. الحذر ضرورة، والثقة طيش. حزبك على العين والرأس، ولكنّه مفتوح، فلا أستطيع أن أبذر حياتي فيه هباءً.
الآن جاء الدور على تعداد مناقب الفقيد. لقد كانت منقبته الوحيدة أنّه رفض أن يكون علينا حين تهاوى الرجال مثل ذباب على جيفة، ينهشون لحومنا الطريّة وهم يعتذرون: نريد أن نعيش! لقد أحجم عن العمل معنا، ولكنّه رفض التفريق بما كان لاسمه من هيبة، فعاش محترسًا - هذه هي منقبة المرحوم حريز اليقظان الّتي دفعت إلى السير وراء جثمانه مئات عارفي فضّته، حاملينه إلى مثواه الأخير.
وبمرور الأيّام، أثقلت اليقظة على صاحبنا المرحوم حريز اليقظان. وحين تبيّن لنا أنّ واحدًا من جماعتنا، إنّما هو عميل مأجور زُرِعَ في صفوفنا، وجئته لأخفّف وقع الانكشاف عليه، بادرني مهتاجًا: أرأيت؟ قلت: ففي أيّ مكان رأيت غير هذا، وهل استطاع المزروعون في يوم من الأيّام، أن يحرقوا ما زرعه الشعب بأكفّه؟
ثمّ جاء ذلك اليوم الحاسم، حين زرته فلم يلقّني بقهقهته المسموعة، الّتي لم يبق مسموعًا عنه سواها. كان متجهّمًا ويحدّثني بتحفّظ، وكان ساخطًا ومتأفّفًا. وما أن بادرته بحديثنا العاديّ، عن السياسة وما إليها، حتّى أطلق جهاز الراديو على عقيرته، وقارب أذني هامسًا أنّهم استدعوه أمس، وحقّقوا معه في حديث جرى بيني وبينه في بيته، وأنّ ما نقلوه عنه صحيح، وأنّه متأكّد من أنّهم زرعوا، في هذه الغرفة من بيته، آلة التقاط للصوت، فلا يصلح الكلام هُنا. قلت: ولا في أيّ مكان آخر؟ قال: وفي في أيّ مكان آخر. قلت: بل يصلح الكلام الصحيح في كلّ مكان. قال: الحذر الحذر.
ومنذ ذلك اليوم لم يعد حديثه معي سوى همهمة. فإذا سألته رأيه في أمر أطلق من فمه حشرجة، تارة مبحوحة وتارة خشنة، على حسب المدلول الذي يريده لهذه الحشرجة. فإذا ألححت عليه رفع حاجبيه تارة وأغمض عينيه أو فتحهما تارة أخرى، وكان عليّ أن أفهم من هذه الحركات والهمهمات والحشرجات رأيه في الأمر.
وفي إحدى هذه الجلسات نسيت أنّني حيوان ناطق فجاريته في لغة السرّ العميق الّتي اختارها إمعانًا في الاحتراس. فصرت أُهَمْهِمُ ردًّا على همهمته، وأرفع حاجبي فيخفض حاجبيه، فأخرج الحشرجة من فمي فيردّ عليّ بأحسن منها، وبقينا على هذه الحال حتّى أديرت القهوة، فانصرفت.
وما ناديته، بيني وبينه، مرّة إلّا بلقب الطفولة - السلطعون. وكان يناديني، هو أيضًا بلقبي، ولن أطلعك عليه لأنّ هذا الأمر هو مهمّة مَنْ سيكتب في رثائي، إذا ما وُجِد، غير أنّني، في زياراتي الأخيرة له، أصبحت أناديه برهين المحبسين، بيته وصدره، فكان يجيبني بكحّة مصدورة تستغرض أكثر من الوقت الّذي أقضيه معه.
فالمرحوم، حريز اليقظان، في أيّامة الأخيرة، استعان بالخمرة على احتمال الكتمان، حتّى أدمن عليها، وكان لا يخرج من بيته إلّا لقضاء هذه الحاجة أو ليحملها معه إلى بيته محترسًا.
حتّى كان ذلك اليوم المشؤوم حين فاجأنا بحضور الاجتماع الانتخابيّ الأخير الّذي عقدناه، وتصدّر القاعة وقد نصب عنقه استعدادًا للقتال، وكان واضحًا أنّ صاحبنا قد أثمل.
وبينما كان خطيبنا في عنفوان خطابه، والتصفيق له يتبع التصفيق، وأمل الحياة يدفع إلى العمل، إذا بصوت يعلو على صوت الأكفّ، وعلى صوت الهتافات، يقطع كلّ نامة ويذهب الحضور. كان صاحبنا المرحوم حريز اليقظان يهتف، بأعلى ما في حنجرته الّتي حبسها دهرًا، بهتافات قوميّة متطرّفة.
تجمّعنا حوله، وأخذناه بأقصى ما استطعنا من هدوء خارج القاعة. وذهبت معه إلى بيته حيث وضعته في الفراش وقد غاب عن وعيه، وكان يردّد دونما رابط سؤاله المقيم: ما هي النهاية، ما هي النهاية؟ ولم أتركه حتّى سمعت شخيره.
ولكنّهم لم يتركوه. وتعرف كيف اعتقل في الليلة نفسها، وخرج بعد أسبوع وقد ضُرِبَ وأُهين، فوقع في الفراش. ولم يخرج من بيته بعدها إلّا محمولًا على الخشبة.
وحين سِرْتُ مع أصحابه الكثيرين وراء جثمانه، وتطلّعت إلى فوق حيث كان محمولًا على الأكفّ، سقطت على رأسي تفّاحة نيوتن، فوجدت الجواب على السؤال الّذي أقضه طوال عمره: ما هي النهاية؟ فتبسّمت.
هذه هي النهاية، يا صحبي، نهاية الّذي لا يتلفّت حوله بل يتلفّت إلى داخله، فلا يرى حوله سوى الظلال الغريبة، فينقلب على ظهره وينصب فكّيه للقتال. أيّهما تقاتل: نفسك أم ظلالك؟
وبعد أن وارينا جثمانه في مثواه الأخير، وترحّمنا على نفسه الطاهرة، عُدْنا إلى أعمالنا نجمع الرجال مع الرجال لنوسّع في الظلال الّتي يتفيّأ بها حاثّو الخطو نحو ما سيأتي.
المصدر: «مجلّة الجديد».
إميل حبيبي.
النشر: 1 نيسان (أبريل) 1970.