“ادخل البيوت أعمى واخرج منها أبكماً”. تلك كانت الوصية التي ألزمني أبي اتباعها مذ كنت طفلاً طريّ العود. لا أعرف كيف أطعت والدي على الرغم من حشريّة الصغار التي كانت لديّ حين كنت ما أزال أتلمّس طريقي في الحياة.
حدث في إحدى المرّات أن قصصْت على إخوتي ما شاهدْته في منزل أحد أصدقائي الذي كنت ألعب عنده. حدّثتُهم عن الآنية القديمة والجدار المشروخ وجهاز التلفاز القديم الذي لا يشتغل جيداً إلا عند صفعه على جانبه. وحين صودف وجود والدي بالقرب من الحديث نهرني بشدّة، ثمّ أردف بغضبٍ أشدّ:
-ادخل البيوت أعمى واخرج منها أبكماً. ألم تستوعب ذلك بعد؟
ومنذ ذلك الحين صرت أنفّذ الوصية بكل حذافيرها. أعصب عيناي بقماشةٍ افتراضية عند دخول المنازل، وأضع أقفالاً محكمةً على شفتيّ لدى الخروج منها. كلمات أبي تُقرع في قناتي السمعية “ادخل البيوت أعمى واخرج منها أبكماً”.
أدخل عبر الأبواب وقد عَقَدْت ميثاقاً غليظاً مع لساني بأن لا يبوح بأي شيءٍ مما شوهد بالداخل. أخرج من بيوت الجيران، والأصدقاء، والأقارب كالهواء الذي ينساب من بيتٍ لآخر دون أن يحدّث يوماً عمّا قد رأى أو سمع داخل جدرانٍ أربعة. وصلت إلى مرحلةٍ متقدمة من الصمت بِتّ معها أعجز من أن أحدّث حتى نفسي عمّا رأيت في زيارتي الأخيرة.
المرحلة الأصعب كانت جلسات الاستجواب التي كانت أمي تعقدها عقب عودتي من إحدى المنازل. “ماذا أَعدّت أم فايز لزوجها على الغداء؟”، “هل جاء خطيب سارة لرؤيتها أثناء مكوثك عند أخيها الصغير؟”، ” ما لون الأثاث الجديد الذي ابتاعته أم صديقك أسعد؟”.
أسئلةٌ عديدة أتلقاها بصدرٍ عار كل جلسة ولا سبيل لصد ذلك السيل الجارف من الهجمات سوى عبارتي “لا أدري” و “لا أعلم”. عباراتٌ قد تجلب بعض التأنيب من طرف أمي، ولكن ذلك أهون عليّ من سخط أبي في حال الخروج عن الخط المرسوم بدقة في وصيته.
حين قُصِفًت حارتنا من الجو، كان منزلنا من المنازل التي حالفها الحظ وأخطأها مسار الصواريخ على عكس البيوت المجاورة التي انهارت على رؤوس ساكنيها. بقينا في البيت لأكثر من نصف ساعةٍ نترقّب غارةً أخرى تحيلنا إلى أشلاء دون شك هذه المرة. كنا لا نملك وسيلةً لردعها سوى الصلاة والتسبيح والتضرّع للمولى لكي ينحرف اتجاه القصف عنّا كما حصل من قبل وهو ما حدث بالفعل حين صمت أزيز الطائرات وعاد الهدوء إلى الأجواء وقام أبي من مخبئه وخرج إلى الحيّ يعاين الأضرار التي خلّفها القصف.
كانت البيوت منكوبة والجدران قد فارقتها حجارتها فانهارت بشدةٍ غير آبهةٍ بما تحتها من أرواح. التفت أبي إليّ، وطلب مني الذهاب بسرعة لمنزل جيراننا المتهالك ريثما يتفقّد هو منزلاً آخراً لعلنا نتمكّن من إنقاذ ما يمكن إنقاذه. حين دخلت البيت المهدّم، صعقني هول ما رأيت من جثث مدمّاة وأطراف متناثرة هنا وهناك. كان المنظر أكبر من قدرة أفصح الألسنة على الوصف. أحسست بنوعٍ من الوخز بلساني وبدأت أفقد السلطة العصبية عليه شيئاً فشيئاً، وما هي لحظات حتى بدا وكأنه تحرّر مني إلى الأبد.
[HR][/HR]
حين قابلني أبي في الخارج وراح يسألني عن ناجين محتملين من المجزرة، اكتفيت بإيمائةٍ سريعة من يدي تُنبئه بأني قد نفّذت وصيّته حرفياً هذه المرّة…لقد دخلت المنزل وخرجت منها أبكماً بالفعل.
حدث في إحدى المرّات أن قصصْت على إخوتي ما شاهدْته في منزل أحد أصدقائي الذي كنت ألعب عنده. حدّثتُهم عن الآنية القديمة والجدار المشروخ وجهاز التلفاز القديم الذي لا يشتغل جيداً إلا عند صفعه على جانبه. وحين صودف وجود والدي بالقرب من الحديث نهرني بشدّة، ثمّ أردف بغضبٍ أشدّ:
-ادخل البيوت أعمى واخرج منها أبكماً. ألم تستوعب ذلك بعد؟
ومنذ ذلك الحين صرت أنفّذ الوصية بكل حذافيرها. أعصب عيناي بقماشةٍ افتراضية عند دخول المنازل، وأضع أقفالاً محكمةً على شفتيّ لدى الخروج منها. كلمات أبي تُقرع في قناتي السمعية “ادخل البيوت أعمى واخرج منها أبكماً”.
أدخل عبر الأبواب وقد عَقَدْت ميثاقاً غليظاً مع لساني بأن لا يبوح بأي شيءٍ مما شوهد بالداخل. أخرج من بيوت الجيران، والأصدقاء، والأقارب كالهواء الذي ينساب من بيتٍ لآخر دون أن يحدّث يوماً عمّا قد رأى أو سمع داخل جدرانٍ أربعة. وصلت إلى مرحلةٍ متقدمة من الصمت بِتّ معها أعجز من أن أحدّث حتى نفسي عمّا رأيت في زيارتي الأخيرة.
المرحلة الأصعب كانت جلسات الاستجواب التي كانت أمي تعقدها عقب عودتي من إحدى المنازل. “ماذا أَعدّت أم فايز لزوجها على الغداء؟”، “هل جاء خطيب سارة لرؤيتها أثناء مكوثك عند أخيها الصغير؟”، ” ما لون الأثاث الجديد الذي ابتاعته أم صديقك أسعد؟”.
أسئلةٌ عديدة أتلقاها بصدرٍ عار كل جلسة ولا سبيل لصد ذلك السيل الجارف من الهجمات سوى عبارتي “لا أدري” و “لا أعلم”. عباراتٌ قد تجلب بعض التأنيب من طرف أمي، ولكن ذلك أهون عليّ من سخط أبي في حال الخروج عن الخط المرسوم بدقة في وصيته.
حين قُصِفًت حارتنا من الجو، كان منزلنا من المنازل التي حالفها الحظ وأخطأها مسار الصواريخ على عكس البيوت المجاورة التي انهارت على رؤوس ساكنيها. بقينا في البيت لأكثر من نصف ساعةٍ نترقّب غارةً أخرى تحيلنا إلى أشلاء دون شك هذه المرة. كنا لا نملك وسيلةً لردعها سوى الصلاة والتسبيح والتضرّع للمولى لكي ينحرف اتجاه القصف عنّا كما حصل من قبل وهو ما حدث بالفعل حين صمت أزيز الطائرات وعاد الهدوء إلى الأجواء وقام أبي من مخبئه وخرج إلى الحيّ يعاين الأضرار التي خلّفها القصف.
كانت البيوت منكوبة والجدران قد فارقتها حجارتها فانهارت بشدةٍ غير آبهةٍ بما تحتها من أرواح. التفت أبي إليّ، وطلب مني الذهاب بسرعة لمنزل جيراننا المتهالك ريثما يتفقّد هو منزلاً آخراً لعلنا نتمكّن من إنقاذ ما يمكن إنقاذه. حين دخلت البيت المهدّم، صعقني هول ما رأيت من جثث مدمّاة وأطراف متناثرة هنا وهناك. كان المنظر أكبر من قدرة أفصح الألسنة على الوصف. أحسست بنوعٍ من الوخز بلساني وبدأت أفقد السلطة العصبية عليه شيئاً فشيئاً، وما هي لحظات حتى بدا وكأنه تحرّر مني إلى الأبد.
[HR][/HR]
حين قابلني أبي في الخارج وراح يسألني عن ناجين محتملين من المجزرة، اكتفيت بإيمائةٍ سريعة من يدي تُنبئه بأني قد نفّذت وصيّته حرفياً هذه المرّة…لقد دخلت المنزل وخرجت منها أبكماً بالفعل.