منصف سلطاني - ذكريات ومشاغل ...

استوقفني سائل يطلب فضلة من متاع الدّنيا، و شيئا ممّا يرجى من العباد ..تردّدت برهة لاختلاط الأمر عليّ..فنحن في زمن اختلط فيه السّائل بالمسؤول.. ثمّ انزلقت يدي إلى جيبي تستدرّه بعضا ممّا أبقاه أمسي .. و ما إن هممت بيدي أخرجها بما حصّلت ، حتّى وثب المتسوّل يستبقيها في جيبي .. ثمّ وقف مقابلا حيرتي .. يسدّ عليّ طريقي..و ينظر في عينيّ كأنّما يستثير أمرا ساكنا فيهما...
فقلت له : يا هذا ،إذا كنت عازفا عما أعطيك ،فتنحّ عن سبيلي ..فإنّ ورائي من مشاغل يومي ما يوجب الإسراع..
فقال ،و ابتسم : دونك السّبيل ، أو تسمع قصّتي.. فأجبته ،جواب المجامل المتعجّل : هاتها ،و إن كانت طويلة أوجز..
قال : هي قصّة الحيرة ،و إليك فحواها...
لمّا أبت ليلا مع الآيبين ،و استقرّ لديّ الأمر على طلب النّوم و القرار ،هيّأت له من أسبابه ما جعله يسارع إلى عينيّ مسارعة الفاقدة الولد فوجدته..و لكنّي ما إن غفوت حتى تنامى إلى مسمعي طرق خفيف على الباب ، كأنّما هو في خفّته خجل على وجنتي حسناء..فقلت : من الطارق ؟ و قد أوصدنا الأبواب ، وودّعنا الطّرق و الطّرّاق ،فما عهدنا ببابنا طارقا مند زمن .. و سكتّ برهة أنتظر الجواب..لكنّ الجواب لم يأت..و القرع على الباب قد عاود ، و علت وتيرته كالنّداء يتعالى الحاحا على حضور المنادى..فلم أجد بدّا من القيام ..و هممت به ، أمسح وجهي لأتطهّر من نواقض النّعاس..و اتلمّس سترتي أستر بها عورة نومي..و عند الباب سألت :أفصح ،يا هذا ، فنحن في زمن الطّرّاق و السّرّاق..و الاّ دونك الباب ، و عد من حيث أتيت فلست مقصدك..و عاودت انتظار الجواب الذي لم يأت..و تعاود الطّرق و السؤال..وغياب الجواب مرّات... ثمّ خيّم الصّمت برهة، فأصخت بأذني إلى الباب أتوقّع الطّارق ..فأسمع وقع خطو يتباعد كأنّه في عذوبته ،لحن ناي ..يضعف ..فيتلاشى ..فيموت..
استجمعت شتات الجلد ، و فتحت الباب أستكشف..فإذا الفضاء ظلام و وحشة ..تفوح فيه بقايا طيب وعطر..فصحت بأعلى صوتي : حسبك يا هذا ، أضفت إلى شارد نومي ، لظى حيرتي ، وذهبت بيقيني و قراري..فأيّ قدر بعث بك إليّ ؟...
فيتناهى إلى مسمعي صوت ما تناهى إلى أذني مثله شهوة و صفاء : خسرت يا هذا ، يا ساكن القرار والنّوم ،حيث حرصت على الرّبح..إنّما أنت تستهلك عمرك قبل أوانه...و إنّي لأطرق بابك ، و أبواب أمثالك ، فلا أجد عليها غير غبارالتّسليم والقرار..و استعجال النّهايات قبل حلولها..فلا أطيل طرقا .. و لا أنا أعيده مرّتين.. عد يا هذا إلى وثير استقرارك..ودعني لمن يطلبني فيستحثّ حضوري ..و إنّي به و بأمثاله لحفيّ....
ثمّ غاب الصّوت ودخل اللّيل..و تركني مصعوقا كالطّالب إجابة على أسئلة لم تطرح، أوأعجزته حلاّ...
ومن يومها أخذت على نفسي أن أمتهن التسوّل و السّؤال..و ها أنت تقطع عليّ طريقي ..فأجد فيك طالبا وقد حسبتك مطلوبا، مطموعا في ما عنده... عليك بنفسك ياهذا فلن تزيدني دراهمك..و لعلّك تستزيد من قصّتي...قال هذا، و ابتسم و أفسح لي السّبيل متراجعا..ثمّ استدار ،غائرا في زحام المتسوّقين.
................................................................ و أمّا أنا ، فقد طال مكثي ،واقفا..و قد ضاع بعيني كلّ اتّجاه...ثمّ دفعت قدميّ دون وجهة او هدف..وتقاذفتني من يومها ، الأزقّة و الطّرقات..أسأل ـ كالمتسوّل ـ عن أمر هذا السائل و قصّته..فأظفر من احدهم بجواب..ومن غيره بتفسير..و تأويل..و تحليل ..أرتاح له برهة..ثم ما تلبث أن تعصف براحتي الحيرة ..و يعاودني الجوس ..فأطوي ماأتسوّل ، وأودعه جيبي ..و أمضي في طريقي أبحث عمّا يشفي الغليل...ولعلّي ماأكتب الآن إلاّ طالبا هذا الشّفاء.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...