(2- 3)
آلت إليّ إذن مقاليد البيت كلّها فتوليت شؤون الطبخ وغسل الأواني وترتيب الغرف وطي ما تبعثر من الملابس والأغطية الشتوية الثقيلة. وكان أعسر عمل على نفسي هو الوقوف طويلا في المطبخ لإعداد الفطور والغداء والعشاء. أنا في العادة أنهض بمزاج متعكر جدا حتى أني لا أقوى على رد تحية الصباح فأكتفي بإيماءة بالحاجبين. قد يكون ذلك من أثر الإفراط في التدخين ليلا كما كانت تقول دادة نوارة رحمها الله أو من أثر السهر الطويل أمام شاشة التلفزيون ثم أمام شاشة الحاسوب بعد ذلك كما تقول زوجتي. كنت إذن أصحو من النوم وأنا في غاية القلق والانزعاج وإذا بي أجد نفسي مجبرا على النهوض باكرا وعلى إظهار البشاشة والمرح دفعا لموجات المرض والحزن والخوف التي تسربت إلى البيت. هذا البيت أنا ربه الآن وعلي أن أشيع فيه كل المعاني الإيجابية التي كانت تصنعها زوجتي قبل مرضها هذا. أقفز من السرير هاشا باشا وأبادر إلى فيروز فأجعل صوتها يغمر أرجاء البيت. فيروز هذه كانت من قبل ملكة كل صباح ولا أدري كيف نسيناها بعد أن تخلّينا تماما عن الراديو وهجرنا الإذاعات وعوضناها بالهواتف الذكية. لقد حملني هذا التكليف الطارئ على استعادة فيروز كما حملني على استعادة بعض مهاراتي في الطبخ التي كدت أنساها. مهارات قديمة تعود إلى أيام العزوبية تعلمت فيها إعداد أكلات عديدة ذهب ريحها وصارت نسيا منسيّا. أنا في الحقيقة لم أكن أحسن غير إعداد الكسكسي والمقرونة ومرق البطاطا. أما المشويات والسلطات فلا أعتبر إعدادها في الأصل مهارة إذ يقدر عليها كل من هبّ ودبّ والدليل على ذلك أني صنعت في ليلة الكسر الأولى لحما مشويا جلب إلينا قطط الحيّ كلّها وبعض كلابها أيضا.
3.
فطور الصباح سهل جدا ومريح ولا يأخذ منك سوى بضع دقائق. شيء من الحليب والقهوة وإن شئت التوسع فبعض الزيت في صحن صغير وشيء من التمر إن شئت وإلا فزيت الزيتون كاف. ومع ذلك كان إعداد هذا النوع من الفطور ثقيلا عليّ. فكان يجب أن أترك فراش النوم قبل ساعة من موعد الخروج إلى العمل لأرى إن كان في المطبخ خبز. فإن كان فعليّ أن أضعه في الفرن الكهربائي ليستعيد مذاقه ونكهته. فخبز هذه الأيام سريع الجفاف سريع الانقباض، وإن لم يكن فعليّ الخروج إلى مخبزة الحي لأجلب خبزا طازجا. لم يكن فطور الصباح إذن مرهقا مع كل ما في الاستعداد له من بعض المشقة. أما الغداء والعشاء فكان أمرهما أشد. وتبدأ الشدة عادة في اختيار الوجبة المطلوبة. وهذا يقتضي استشارة عائلية موسعة ونقاشات طويلة لست مستعدا للخوض فيها. لقد كانت زوجتي قبل مرضها تستشيرنا فيعرض عليها الأبناء مقترحاتهم ويتم الاتفاق على وجبة بعينها فإذا اجتمعنا إلى مائدة الغداء أو العشاء وجدنا أكلة أخرى غير التي اتفقنا عليها. وكنت في أغلب الأحيان أقاطع هذه الاستشارة لا رفضا لها في ذاتها ولكن لأنها كانت تطرح عليّ في وقت محرج جدا. فأنا كما قلت من قبل أنهض معكر المزاج ولا أقوى على الكلام فضلا عن الدخول في نقاش. ثم إن الحديث عن الطعام في أول النهار يوحي إليّ بالغثيان. وعليه فقد ألغيت الاستشارة العائلية رغم ما فيها من مظاهر الديمقراطية المباشرة وقررت أن أحتفظ لنفسي بسلطة القرار. يسألونني عن الغداء ما هو فأقول : دعوا ذلك حتى يحين موعد الغداء. والأمر نفسه مع العشاء. وهكذا رضيت العائلة كلها بهذا التمشي خصوصا بعد أن استحسنوا المفاجآت وفرحوا بها. لا تذهبوا بعيدا. لقد جربت في اليومين الأولين إعداد وجبتي الغداء والعشاء ولكن التجربة كانت مخجلة. ومن حسن حظي أنه لم يتفطن أحد إلى ما أعددت لأني رميت كل ما صنعته يداي في المزبلة إما لأنه مالح فوق الطاقة أو لأنه احترق في غفلة مني، أو لأنّه بدا لي بلا طعم ولا رائحة. ولعلّ ما أوقعني في ذلك ثقتي العالية في مهاراتي المطبخية. لقد كنت أعتقد أنّي مازلت أحسن إعداد الكسكسي فحزمت نفسي وأعددت له لوازمه، شيئا من لحم الخرفان وبعض الخضراوات الشتوية المعروفة، ثم توكّلت على الله. رششت الكسكسي بماء دافئ في قصعة واسعة حتى بدا لي أنه قد أخذ حظّه ثم التفتت إلى المرق أعدّه، ثلاث لحمات وبصل ومعجون طماطم وملح وزيت وبهارات أخرى ونار موقدة وكوب ماء وانتظار لبعض الوقت ثم أردفت الكسكاس على الطنجرة وربطت القفيلة. لقد نسيت أن أضيف إلى المرق ماء يكون منه البخار. وما هي إلاّ دقائق حتّى تسرّبت إلى أنفي رائحة المرق المحترق. سارعت إلى الكسكاس أرفعه ثم أضعه، ومن أثر الارتباك انزلق الكسكاس من بين يديّ وهوى على أرض المطبخ فتبعثر الكسكسي وعلا في الجوّ ضجيج الكسكاس يقع على الأرض. زوجتي في فراشها تناديني: ما هذا يا محمّد؟ فأقول: لا شيء لقد وقع منّي طست الماء، لا تقلقي سأعالج الأمر. ماذا سأعالج يا ترى؟ وكلّ شيء ذهب أدراج الرياح. عدت إلى المرق في الطنجرة أتفقده فإذا هو إلى الرماد أقرب. أطفأت النار وأشعلت سيجارة ومضيت أتأمّل صورة المطبخ وأفكّر في حلّ. من أين يأتي الحلّ يا ترى؟ ثم خطر لي خاطر. أعد ترتيب المطبخ يا محمّد وغادر المنزل فورا..
آلت إليّ إذن مقاليد البيت كلّها فتوليت شؤون الطبخ وغسل الأواني وترتيب الغرف وطي ما تبعثر من الملابس والأغطية الشتوية الثقيلة. وكان أعسر عمل على نفسي هو الوقوف طويلا في المطبخ لإعداد الفطور والغداء والعشاء. أنا في العادة أنهض بمزاج متعكر جدا حتى أني لا أقوى على رد تحية الصباح فأكتفي بإيماءة بالحاجبين. قد يكون ذلك من أثر الإفراط في التدخين ليلا كما كانت تقول دادة نوارة رحمها الله أو من أثر السهر الطويل أمام شاشة التلفزيون ثم أمام شاشة الحاسوب بعد ذلك كما تقول زوجتي. كنت إذن أصحو من النوم وأنا في غاية القلق والانزعاج وإذا بي أجد نفسي مجبرا على النهوض باكرا وعلى إظهار البشاشة والمرح دفعا لموجات المرض والحزن والخوف التي تسربت إلى البيت. هذا البيت أنا ربه الآن وعلي أن أشيع فيه كل المعاني الإيجابية التي كانت تصنعها زوجتي قبل مرضها هذا. أقفز من السرير هاشا باشا وأبادر إلى فيروز فأجعل صوتها يغمر أرجاء البيت. فيروز هذه كانت من قبل ملكة كل صباح ولا أدري كيف نسيناها بعد أن تخلّينا تماما عن الراديو وهجرنا الإذاعات وعوضناها بالهواتف الذكية. لقد حملني هذا التكليف الطارئ على استعادة فيروز كما حملني على استعادة بعض مهاراتي في الطبخ التي كدت أنساها. مهارات قديمة تعود إلى أيام العزوبية تعلمت فيها إعداد أكلات عديدة ذهب ريحها وصارت نسيا منسيّا. أنا في الحقيقة لم أكن أحسن غير إعداد الكسكسي والمقرونة ومرق البطاطا. أما المشويات والسلطات فلا أعتبر إعدادها في الأصل مهارة إذ يقدر عليها كل من هبّ ودبّ والدليل على ذلك أني صنعت في ليلة الكسر الأولى لحما مشويا جلب إلينا قطط الحيّ كلّها وبعض كلابها أيضا.
3.
فطور الصباح سهل جدا ومريح ولا يأخذ منك سوى بضع دقائق. شيء من الحليب والقهوة وإن شئت التوسع فبعض الزيت في صحن صغير وشيء من التمر إن شئت وإلا فزيت الزيتون كاف. ومع ذلك كان إعداد هذا النوع من الفطور ثقيلا عليّ. فكان يجب أن أترك فراش النوم قبل ساعة من موعد الخروج إلى العمل لأرى إن كان في المطبخ خبز. فإن كان فعليّ أن أضعه في الفرن الكهربائي ليستعيد مذاقه ونكهته. فخبز هذه الأيام سريع الجفاف سريع الانقباض، وإن لم يكن فعليّ الخروج إلى مخبزة الحي لأجلب خبزا طازجا. لم يكن فطور الصباح إذن مرهقا مع كل ما في الاستعداد له من بعض المشقة. أما الغداء والعشاء فكان أمرهما أشد. وتبدأ الشدة عادة في اختيار الوجبة المطلوبة. وهذا يقتضي استشارة عائلية موسعة ونقاشات طويلة لست مستعدا للخوض فيها. لقد كانت زوجتي قبل مرضها تستشيرنا فيعرض عليها الأبناء مقترحاتهم ويتم الاتفاق على وجبة بعينها فإذا اجتمعنا إلى مائدة الغداء أو العشاء وجدنا أكلة أخرى غير التي اتفقنا عليها. وكنت في أغلب الأحيان أقاطع هذه الاستشارة لا رفضا لها في ذاتها ولكن لأنها كانت تطرح عليّ في وقت محرج جدا. فأنا كما قلت من قبل أنهض معكر المزاج ولا أقوى على الكلام فضلا عن الدخول في نقاش. ثم إن الحديث عن الطعام في أول النهار يوحي إليّ بالغثيان. وعليه فقد ألغيت الاستشارة العائلية رغم ما فيها من مظاهر الديمقراطية المباشرة وقررت أن أحتفظ لنفسي بسلطة القرار. يسألونني عن الغداء ما هو فأقول : دعوا ذلك حتى يحين موعد الغداء. والأمر نفسه مع العشاء. وهكذا رضيت العائلة كلها بهذا التمشي خصوصا بعد أن استحسنوا المفاجآت وفرحوا بها. لا تذهبوا بعيدا. لقد جربت في اليومين الأولين إعداد وجبتي الغداء والعشاء ولكن التجربة كانت مخجلة. ومن حسن حظي أنه لم يتفطن أحد إلى ما أعددت لأني رميت كل ما صنعته يداي في المزبلة إما لأنه مالح فوق الطاقة أو لأنه احترق في غفلة مني، أو لأنّه بدا لي بلا طعم ولا رائحة. ولعلّ ما أوقعني في ذلك ثقتي العالية في مهاراتي المطبخية. لقد كنت أعتقد أنّي مازلت أحسن إعداد الكسكسي فحزمت نفسي وأعددت له لوازمه، شيئا من لحم الخرفان وبعض الخضراوات الشتوية المعروفة، ثم توكّلت على الله. رششت الكسكسي بماء دافئ في قصعة واسعة حتى بدا لي أنه قد أخذ حظّه ثم التفتت إلى المرق أعدّه، ثلاث لحمات وبصل ومعجون طماطم وملح وزيت وبهارات أخرى ونار موقدة وكوب ماء وانتظار لبعض الوقت ثم أردفت الكسكاس على الطنجرة وربطت القفيلة. لقد نسيت أن أضيف إلى المرق ماء يكون منه البخار. وما هي إلاّ دقائق حتّى تسرّبت إلى أنفي رائحة المرق المحترق. سارعت إلى الكسكاس أرفعه ثم أضعه، ومن أثر الارتباك انزلق الكسكاس من بين يديّ وهوى على أرض المطبخ فتبعثر الكسكسي وعلا في الجوّ ضجيج الكسكاس يقع على الأرض. زوجتي في فراشها تناديني: ما هذا يا محمّد؟ فأقول: لا شيء لقد وقع منّي طست الماء، لا تقلقي سأعالج الأمر. ماذا سأعالج يا ترى؟ وكلّ شيء ذهب أدراج الرياح. عدت إلى المرق في الطنجرة أتفقده فإذا هو إلى الرماد أقرب. أطفأت النار وأشعلت سيجارة ومضيت أتأمّل صورة المطبخ وأفكّر في حلّ. من أين يأتي الحلّ يا ترى؟ ثم خطر لي خاطر. أعد ترتيب المطبخ يا محمّد وغادر المنزل فورا..