(4)
غادرت المنزل وأنا لا أدري إن كنت غاضبا أو مبتئسا أو فرحا. والأرجح أنّ فرحا خفيّا بالخلاص من مشقّة الطبخ قد نبت في أعماقي ولكنّ التفكير في البديل قد أعياني. هل أعود لأجرّب من جديد؟ لا تعد. دع الأمر الآن والتحق برفاق المقهى فهم في انتظارك. في المقهى دارت أحاديث شتّى في مواضيع شتّى. لاحظ الرفاق إضرابي عن مشاركتهم الحديث فسألوني: ما بك؟ لا شيء يا رفاق سوى أنّي حاولت إعداد الغداء فلم أفلح، ورويت لهم القصّة فأغرقوا في الضحك. قال أحدهم: لا ترهق نفسك. السوق أقرب وطعامه أطيب. أنسيت المقامة البغدادية؟ نعم هذا هو الحلّ. السوق أقرب وطعامه أطيب. عليّ بالسيد محسن، مطعمه قريب جدّا من مقرّ عملي وأكلاته الشعبيّة يتهافت عليها الشباب والكهول. شباب كثيرون من طلبتي رأيتهم بأم عيني يقفون أمام مطعمه ينتظرون دورهم للفوز بوجبة من وجباته، وأساتذة يعملون معي، وفتيان المدرسة الابتدائية بحي الدير كذلك، وأقوام آخرون من عابري السبيل. سأمرّ عليه. أحسنت يا محسن، لقد خلّصتني من ورطة ما كنت أحسب خلاصا منها البتة. ومضيت إلى محسن. سألته فأخبرني بقائمة الأطعمة، واتفقنا على موعد. بدءا من منتصف النهار يكون كل شيء جاهزا. لأعد إلى المقهى إذن. وكيف أعود؟ والبيت تركته بلا ترتيب، وربته المستقيلة تحتاج إلى رعاية. قد تستحق قدح ماء أو تقريب دواء أو حتّى كلمة من هذا القائم بأعمالها تذهب عنها الشعور بالوحدة. لقد كانت من قبل تمضي وقتها في عملها مع تلامذتها وزملائها وتعود من المدرسة الإعدادية مثقلة لتروي لي الكثير من نوادرها وها هي اليوم وحيدة بلا حديث. ما أصعب أن يكفّ المرء عن الحديث إذا كان عمله يقتضي الحديث. لابدّ أنها قد وجدت في الهاتف الذكي مخرجا. فبهذا الهاتف تتواصل مع الناس وتتابع أخبارهم ويتابعون أخبارها. عدت إلى البيت فرتبته كما ينبغي له الترتيب. طويت الملابس دون كيّها طبعا واجتهدت في إزالة آثار الكسكسي المنثور ثم جلست إليها. حدّثتني عن تلامذتها الذين افتقدوها، بعضهم جاء يعودها وبعضهم اكتفى بمخاطبتها والسؤال عن حالها عبر الهاتف والبعض الآخر شكا لها الأستاذ المعوّض. قالت: يقولون إنّه لا يدرّسهم سوى مادة شرح النص، وأهمل دروس اللغة والتدريب على الكتابة. رأيتها مستاءة فقلت أواسيها: اعتني الآن بنفسك. للتلامذة أستاذ يدرّسهم ولست مسؤولة عما يكون قد اقترفه من مخالفات بيداغوجية. عطلة المرض حقّ من حقوقك وستعودين إليهم وتستأنفين الدروس معهم. أما الآن فانظري إلى حالك. دعي كلّ شيء عدا هذا الكسر الذي أصابك. حتّى هو بإمكانك أن تتناسيه. إذا أدمت التفكير فيه سيكون لك عائقا. تتنهّد تنهيدة عميقة وتهمّ بالبكاء. يؤسفني حالها، ولكني للأسف الشديد لا أحسن المواساة. هيّا حاولي المشي، أم تراك استحسنت المكوث في الفراش. تعالي لتري كيف رتّبت البيت. تجتهد في الوقوف ثم في المشي. تصل إلى المطبخ. تكتشف الأمر. لا عليك سيأتيك طعامك جاهزا. السوق أقرب وطعامه أطيب. هكذا قال عيسى بن هشام وأنا أصدّقه. أنت أيضا تصدّقينه. سنرى.
غادرت المنزل وأنا لا أدري إن كنت غاضبا أو مبتئسا أو فرحا. والأرجح أنّ فرحا خفيّا بالخلاص من مشقّة الطبخ قد نبت في أعماقي ولكنّ التفكير في البديل قد أعياني. هل أعود لأجرّب من جديد؟ لا تعد. دع الأمر الآن والتحق برفاق المقهى فهم في انتظارك. في المقهى دارت أحاديث شتّى في مواضيع شتّى. لاحظ الرفاق إضرابي عن مشاركتهم الحديث فسألوني: ما بك؟ لا شيء يا رفاق سوى أنّي حاولت إعداد الغداء فلم أفلح، ورويت لهم القصّة فأغرقوا في الضحك. قال أحدهم: لا ترهق نفسك. السوق أقرب وطعامه أطيب. أنسيت المقامة البغدادية؟ نعم هذا هو الحلّ. السوق أقرب وطعامه أطيب. عليّ بالسيد محسن، مطعمه قريب جدّا من مقرّ عملي وأكلاته الشعبيّة يتهافت عليها الشباب والكهول. شباب كثيرون من طلبتي رأيتهم بأم عيني يقفون أمام مطعمه ينتظرون دورهم للفوز بوجبة من وجباته، وأساتذة يعملون معي، وفتيان المدرسة الابتدائية بحي الدير كذلك، وأقوام آخرون من عابري السبيل. سأمرّ عليه. أحسنت يا محسن، لقد خلّصتني من ورطة ما كنت أحسب خلاصا منها البتة. ومضيت إلى محسن. سألته فأخبرني بقائمة الأطعمة، واتفقنا على موعد. بدءا من منتصف النهار يكون كل شيء جاهزا. لأعد إلى المقهى إذن. وكيف أعود؟ والبيت تركته بلا ترتيب، وربته المستقيلة تحتاج إلى رعاية. قد تستحق قدح ماء أو تقريب دواء أو حتّى كلمة من هذا القائم بأعمالها تذهب عنها الشعور بالوحدة. لقد كانت من قبل تمضي وقتها في عملها مع تلامذتها وزملائها وتعود من المدرسة الإعدادية مثقلة لتروي لي الكثير من نوادرها وها هي اليوم وحيدة بلا حديث. ما أصعب أن يكفّ المرء عن الحديث إذا كان عمله يقتضي الحديث. لابدّ أنها قد وجدت في الهاتف الذكي مخرجا. فبهذا الهاتف تتواصل مع الناس وتتابع أخبارهم ويتابعون أخبارها. عدت إلى البيت فرتبته كما ينبغي له الترتيب. طويت الملابس دون كيّها طبعا واجتهدت في إزالة آثار الكسكسي المنثور ثم جلست إليها. حدّثتني عن تلامذتها الذين افتقدوها، بعضهم جاء يعودها وبعضهم اكتفى بمخاطبتها والسؤال عن حالها عبر الهاتف والبعض الآخر شكا لها الأستاذ المعوّض. قالت: يقولون إنّه لا يدرّسهم سوى مادة شرح النص، وأهمل دروس اللغة والتدريب على الكتابة. رأيتها مستاءة فقلت أواسيها: اعتني الآن بنفسك. للتلامذة أستاذ يدرّسهم ولست مسؤولة عما يكون قد اقترفه من مخالفات بيداغوجية. عطلة المرض حقّ من حقوقك وستعودين إليهم وتستأنفين الدروس معهم. أما الآن فانظري إلى حالك. دعي كلّ شيء عدا هذا الكسر الذي أصابك. حتّى هو بإمكانك أن تتناسيه. إذا أدمت التفكير فيه سيكون لك عائقا. تتنهّد تنهيدة عميقة وتهمّ بالبكاء. يؤسفني حالها، ولكني للأسف الشديد لا أحسن المواساة. هيّا حاولي المشي، أم تراك استحسنت المكوث في الفراش. تعالي لتري كيف رتّبت البيت. تجتهد في الوقوف ثم في المشي. تصل إلى المطبخ. تكتشف الأمر. لا عليك سيأتيك طعامك جاهزا. السوق أقرب وطعامه أطيب. هكذا قال عيسى بن هشام وأنا أصدّقه. أنت أيضا تصدّقينه. سنرى.