الأستاذ سعيد يقطين من الكتّاب النادرين الذين أصبحت تؤرقهم أسئلة الأدب (وصفه وتاريخه ونظرياته ونقده) في السنين الأخيرة. إنه يعكس بذلك منعطفا في تصور ماهية/مضمون/موضوع/لغة الأدب، يناظر منعطف الثمانينات الماضية الذي استأثر فيه الشكل والبنية على الدراسات الأدبية. نشر الأستاذ يقطين تدوينة بصفحته على الفايسبوك اليوم (9 ديسمبر 2020) بعنوان "لماذا لا نكتب للقارئ الأجنبي؟"، وتفاعل معه بشكل متكامل كاتب آخر يطرح منذ سنوات نفس القبيل من الأسئلة هو الأستاذ حسن الطالب. وهاهي الفقرة الأولى من تدوينة سعيد يقطين:
[["لماذا لا نكتب للقارئ الأجنبي؟"
سؤال لا نطرحه على أنفسنا ونحن نكتب إبداعاتنا ودراساتنا الأدبية والفكرية.. فما دمنا نكتب باللغة العربية فنحن نتوجه إلى قارئ يعرف العربية، وتوجهنا إلى هذا القارئ بعينه يدل على أننا نخاطب لديه ما هو مشترك بيننا من قضايا ومشاكل، عاملين بذلك إما على إقناعه بصحة ما نرمي إليه، أو تقديم معلومات نتصور أنه لا يملكها، أو الارتقاء بوعيه إلى مستوى يفوق ما هو عليه.
إن ما دفعني إلى طرح هذا السؤال، يتصل بي بصورة مباشرة. فأنا لا أفكر في قارئ غير العربي، لأن همومنا الثقافية والاجتماعية واحدة. لكنني عندما كتبت دراسة حول تاريخ السرديات وجدتني أنخرط من خلالها في مناقشة القارئ الأجنبي، والمقصود به كل المنشغلين بالدراسات السردية على المستوى العالمي. وبدا لي أن توجيهها إلى القارئ العربي هو من باب «الإخبار» بما يجري في هذا الاختصاص، لذلك فكرت في ترجمتها إلى الإنكليزية للتعبير عن رأي عربي في ما يناقش عالميا. وكان أن بدأ هذا السؤال يراودني: إلى متى سنظل نكتب للقارئ العــــربي، ولا ننخــــرط في ما يجـــري عالميا، من خـــلال التوجه إلى القارئ الأجنبي، في أي اختصاص، أو مجال علمي، أو سياسي، أو ثقافي؟ (...). وقد يعترض آخر بالقول: وهل عندنا في العربية ما يستأهل أن ينقل إلى القارئ الأجنبي؟ ويعلل ذلك بقوله: إننا في مختلف القضايا الفكرية والأدبية عالة على ما ينتج عالميا. وإذا ما اطلع القارئ الأجنبي على ما نكتب سيقول في أحسن الأحوال: بضاعتنا ردت إلينا، وفي الحالة الأسوأ: بضاعتنا ردت، ولكن بطريقة مشوهة؟]].
الأمر الذي هما عنه تساءلان، كما فهمت ذلك، هو نوعية وموضوع ولغة المادة الأدبية، وكذلك المخاطَب باعتبار اللغة الواصفة. هذه الأسئلة التي تمّ طرحها، خصوصا باعتبار المخاطب، على مستوى دائرة "القارئ العربي" تصبح مركّبة متراكبة مرتين حينما يتمّ طرحها بالتزويم على دائرة الأدب والقارئ المغربيين؛ إذ تظل "تابعة"/متلازمة "بضاعتنا ردت إلينا" تلاحق الأدب العربي المغاربي عموما، إبداعا ودارسة، منذ أن أصدر ذلك الحكمَ مَن أصدره أول مرة في شأن كتاب "العقد الفريد" لابن عبد ربّه، حيث ظل طموح الأدب المغربي، في لغته ومواضيعه وفنّياته، منحصرا في الحصول على اعتراف المشرق.
هذا، وإن الأمر المباشر الذي دفعني إلى مشاركة الزميلين في طرح تلك التساؤلات، عن طريق التزويم على دائرة المغرب، هو أنني توصلت في نفس اليوم بدراسة باللغة العبرية، عبر إشعار بالإيميل من موقع /موريشيت موروكو/ ("التراث المغربي")، دراسة تتناول ما يعرف في قصيدة الزجل/الملحون بمنافرات "الكًحار" أو "الدقّ" أو الشحط" حسب الجهات. يتعلق الأمر بغرض من أغراض شعر الزجل المغربي بصفة عامة يناظر ما عُرف في شعر العربية الفصحى بـ"النقائض" أو بـ"أنعيبار" في الشعر الأمازيغي؛ مع فارقِ كون الطرفين في غرض "النقائض"ّ يتمثل في شاعرين عينيين يتنافران، بينما يتمثل "الكًحار" في إجراء تلك المنافرة على لسان شاعر واحد يروي ما يسنده من قول إلى طرفين. ومن أشهر قصائد الملحون في ذلك الباب قصيدة "الزْمْنية والعْصْرية" (الفتاة التقليدية والفتاة العصرية) من نظم الشيخ حسن اليعقوبي (أداؤها من طرف المرحوم حسين التولالي، هــــــنـــــــا). وقد يكون الطرفان عبارة عن أشياء وأغراض الحياة اليومية كما يراها شاعر الملحون بعين مجتمع عصره؛ ومن ذلك قصيدة الكًحار بين"المْجْمْر و بوطاكًاز" (أنصت إليها هــــــنــــــــا). وزيادة على القيمة الفنية لمثل تلك القصائد، فإنها تكون حافلة بمعلومات نادرة وبتفاصيل وقيم أنثروبو-ثقافية ذات دلالات جوهرية مهمّة، شأنها في ذلك شأن قصائد أخرى وصفية تتناول أوجه الحياة والمرافق، مثل قصائد "الزردة" المشهورة، و"مول الفران"، و"قصة حمُّـان" وغير ذلك كثير.
وإذ كنت أعلم شخصيا أن لكثير من أغراض وقصائد الملحون - سواء أتعلق الأمر بالأذكار (مثل قصيدة "الدار" لسيدي قدّور العلمي) أم بالزمانيات (مثل "الزردة" التي تناظرها قصيدة "السخينة" بالعربية المهوّدة) - نظائرَ بالدارجة المغربية المهوّدة (judéo-arabe) مدوّنةً بالحرف العبراني. وقد جمع من ذلك الأستاذ عبد العزيز شهبر مجموعة متنوعة معتبرة ("نماذج من شعر الملحون المغربي بالعربية – اليهودية"؛ منشورات جامعة عبد المالك السعدي)، وبقي الكثير من ذلك مجهولا لدى القارئ المغربي بالعربية، أقول: إذ كنت أعلم ذلك عن طريق قنوات لغوية خاصة (وأحيانا مجرد مسألة حرف تدوين، عبراني أو لاتيني)، فإن ما بلغ إلى علمي من خلال الإشعار المذكور عن طريق الإميل من طرف موقع /موريشيت موروكو/ ("التراث المغربي") هو أن غرض منافرات "الكًحار" معروف كذلك في القصيدة المغربية بالعربية الدارجة المهوّدة، وليس فقط بالنسبة لطرفين نمطيين من أنماط المجتمع أو أنماط أغراض الحياة اليومية المحسوسة، ولكن بين ماهيتين تجريديتين. يتعلق الأمر، في ما علمته اليوم في هذا الباب، بإجراء شاعر زجلي مغربي يهودي لمنافرة من نوع "الكًحار" (لكن بأسلوب حكائي style indirecte) بين عيدين دينيين يهوديين: عيد "الحانوكة" (نوع من "عيد الشموع" عند المسلمين في بعض مدن المغرب(انظر هــــنــــــا) يتم عند اليهود ما بين شهري نوفمبر وديسمبر حسب التقويم القمري اليهودي المعدّل؛ انظر هــــنــــــــا) وعيد "البوريم" (عيد كرنفالي بمشاهد تنكّرية وأنماط خاصة من الحوار قريب في شكله من احتفالات عاشورا/يمعشار/با-مغار/بُّا-الشيخ عند المسلمين، انظر هــــنــــــــــا؛ ويتمّ عند اليهود ما بين فبراير ومارس حسب نفس التقويم؛ انظر هـــنــــــــا).
ذلك ما ورد في دراسة وصفية للباحث المحقّق، ابن مدينة تارودانت طفولة قبل أن تهاجر أسرته إلى إسرائيل، يوسف شطريت Joseph Chetrit، في مقال له بعنوان /גברת חנוכה ואדון פורים מתקוטטים/ ("خصام بين السيدة حانوكة والسيد بوريم") يتناول فيه بالعرض والتحليل قصيدة بالعربية المغربية المهوّدة من نوع "الكًحار" (שיר ויכוח) بين هذين العيدين، مدوّنةً بالحرف العبراني، وذلك، كما قال بمناسبة حلول عيد حانوكة هذه الأيام. قدّم الباحث لمقاله ببيان مصدر هذه الوثيقة المكتوبة التي تعود حسب تقديره إلى القرن-19 الميلادي، وبيان ترقيمها في الخزانة الوطنية بالقدس. وبقطع النظر هنا عن التحليلات التي قام بها الباحث، في ما يلي مقتطفات من تلك القصيدة.
في قلبنا لتدوين هذه المقتطفات إلى الحرف العربي، سنمثل أحرف الصفير، من شين، وجيم بالكيفية التي تنطق بها اليوم لدى عامة المغاربة. تتخلل النص بعض الألفاظ العبرية مثل /مكًيلة/ أي "صحيفة" والمقصود بها "صحيفة إستير" الشهيرة في سيفر البطلة اليهودية "إستير"، التي أنقذت قومَها، يهود المنفى من مكائد الوزير الأعظم "هــامـــان (بن هامْـداتا)"، الرجل القوي في بلاط ملك الفرس، أحشيروش (راجع الرابط السابق حول "البوريم")، تلك الصحيفة التي عليها تأسس عيد البوريم.، زيادة على كثير من أسماء الأعلام التوراتية والمصطلحات العبادية التي ليس هنا مكان إخراج هوامش لشرحها لكي تتّضح الخلفيات الثقافية اليهودية التي يلمّح إليها نص مقتطفات القصيدة؛ إذ المقصود هنا هو مجرد إعطاء فكرة عن غرض منافرة "الكًحار" بين عيدين يهوديين على لسان الشاعر الزجال. كما أن هناك معلومات حول لهجة المجموعة التي ينتمي إليها الزجال يمكن استنتاجها من مجرد صوتيات نصّ القصيدة، من قبيل نطق القاف بلفظ /g/ (/يلكًى/ بدل /يلقى/ "يَجِدُ"؛ /يكًابلو/ بدل /يقابلو/ "يرقبون")؛ ولكن حيز هذا التعريف لا يتّسع لذلك.
المقتطفات
1- أجيو نعاود ليكوم يا الجماعة المباركة * قصة جرات بين بّوريم وحانوكة
تّخاصمو عملو حركة...
القنادل مغسولين والخوابي د-الشراب وماحيا محلولين؛
والناس كاملة محتالين باش يشعلو حانوكة يا خواني.
5- بحرا بدات حانوكة تشعل الفتيلة * وخلط عليها بّوريم بو-المكًيلة
دغيا صلح ليها القنديل، وبقات غير ظلماني.
حنات حانوكة راسها، ولا كلّماتو * وعلى عنايتو خلّاتو؛
حتّى ترى اش فراسو * حابّ يخاصمها بالعاني.
10- خرجات لبرّا بالفكًـعة * راتو، واقفة بالفزعة،
وعمودو على كتفو موضوعة * هربات ودخلات عند جيراني.
قالت: دحيوْ عليّا هاذ شماتة * واش انا رجعت لو "هامان بن هامداتا"؟
ظلمة تنزل عليه ساخطة * من السما نتهنّى هاني.
سمعو لواحد المسكين فليلتو [فليلة بّوريم] * مشى يشري طـْـويّر لــمْـكًـيـلتو؛
صابو غالية قيمتو * وبات بلا عشياني.
1- أجي نعاود ليكوم يا الجماعة المباركة * قصة جرات بين بّوريم وحانوكة
15- فنهارو [نهار عيد بوريم] ما صابو فيه الناس راحة * من دي صبح الصباح حتّى لمنوحة
ما ياكلو بركوكش حتّى تكتر الفضيحة * من قلّة حوايج الفخراني
كبار وصغار يكًلسو فالصلاة * ما يقومو حتّى يسمعو المكًيلة
ومنين يذكرو هامان، يضربوه * أو يسحقوه بالحجراني
اليشّاشرا يطرقوه * وعلى الحجار يسحقوه.
20- و يدا يصوّرو صورتو يعلّقوه * فالقصبة ياو فالحيطاني
داك يلكًى لاخور يقول دوز * را المراة عمّرات البوز
يشربو ماحيا ويقولو [للواحد] * لا تطيح لي [سكران] في داري
واحد يسكر ويضرب في المراة * وواحد يطيح فحال قنطرة
والمسكين ما يجبر قلية عنكًرة * باش يعمل سعودة يا خواني.
25- يصبحو نهار شوشان غير يخمّــمو * كلّ واحد يقرا همّو
باش يكًابلو بّـيساح بن عمّو * وتقول ما داز بّوريم يا خواني.
بّوريم، يا خواني سمع معايرتو * ودغيا قفز ولوى عليها مكًيلتو [أي على حانوكة].
قال لها: اجي، يا مسوّداتو * واش انا رجعت ليك نصراني؟
ما سمّاوك الناس حانوكة * حتّى [كنتي] عريانة ومسوّكة.
30- ما فيك غير الكلام ولا فكّة * ونتي ما تسواي حتّى فلساني
وتنفخي يدين الناس بفتيل الفتيلة * تجي القطة تاكلهوم في مرّة
لـغدّا تصيبها تبدّق فالضليّلة * باش تعمل أُخرين، يا جيراني
تصيبها ديما فحال ساعية فُـمّ البيت * ياو يعلّقوها فالحيط
وتكسر ناس في زيوت * بلا فايدة ياحضراني
35- ضوّها ما يكونو يقراو بيه * ونفيع ما يستنفعو بيه
ونارها ما يصيبو يشعلو بيه * لا كبار ولا صغار ولا نسواني
سير، يا قليلة الصواب والاداب * ما نتين غير صيم العداب
لوكان ما "نحشون بن عمينداب" * ما تسواي حتّى فلساني
كلّ ليلة كا تزيد فتيلة * فحال شي مراة حايرة ودليلة.
40- وفمّ البيوت كًالسة فحال شي هجّالة * ما تا يسيـويها حتّى وحداني... الخ. (انظر نص مقال يوسف شطريت هـــــنــــا)
هذا نموذج جزئي لما يمكن التساؤل عن مدى اندراجه في المادة الأدبية، لغةً وموضوعا قبل التساؤل عن منهج دراسته وعن نوعية الأسئلة المعرفية التي تتناسب مع تلك الدراسة. ومثل ذلك النموذج كثير كثير في كلايدوسكوب الثقافة المغربية التي صوّت المغاربة على دستور أعاد تصوّرها بشكل لم يواكبه بعد الوسط الأكاديمي بشكل مؤسسي مهيكل.
----------------------------------------
محمد المدلاوي
[["لماذا لا نكتب للقارئ الأجنبي؟"
سؤال لا نطرحه على أنفسنا ونحن نكتب إبداعاتنا ودراساتنا الأدبية والفكرية.. فما دمنا نكتب باللغة العربية فنحن نتوجه إلى قارئ يعرف العربية، وتوجهنا إلى هذا القارئ بعينه يدل على أننا نخاطب لديه ما هو مشترك بيننا من قضايا ومشاكل، عاملين بذلك إما على إقناعه بصحة ما نرمي إليه، أو تقديم معلومات نتصور أنه لا يملكها، أو الارتقاء بوعيه إلى مستوى يفوق ما هو عليه.
إن ما دفعني إلى طرح هذا السؤال، يتصل بي بصورة مباشرة. فأنا لا أفكر في قارئ غير العربي، لأن همومنا الثقافية والاجتماعية واحدة. لكنني عندما كتبت دراسة حول تاريخ السرديات وجدتني أنخرط من خلالها في مناقشة القارئ الأجنبي، والمقصود به كل المنشغلين بالدراسات السردية على المستوى العالمي. وبدا لي أن توجيهها إلى القارئ العربي هو من باب «الإخبار» بما يجري في هذا الاختصاص، لذلك فكرت في ترجمتها إلى الإنكليزية للتعبير عن رأي عربي في ما يناقش عالميا. وكان أن بدأ هذا السؤال يراودني: إلى متى سنظل نكتب للقارئ العــــربي، ولا ننخــــرط في ما يجـــري عالميا، من خـــلال التوجه إلى القارئ الأجنبي، في أي اختصاص، أو مجال علمي، أو سياسي، أو ثقافي؟ (...). وقد يعترض آخر بالقول: وهل عندنا في العربية ما يستأهل أن ينقل إلى القارئ الأجنبي؟ ويعلل ذلك بقوله: إننا في مختلف القضايا الفكرية والأدبية عالة على ما ينتج عالميا. وإذا ما اطلع القارئ الأجنبي على ما نكتب سيقول في أحسن الأحوال: بضاعتنا ردت إلينا، وفي الحالة الأسوأ: بضاعتنا ردت، ولكن بطريقة مشوهة؟]].
الأمر الذي هما عنه تساءلان، كما فهمت ذلك، هو نوعية وموضوع ولغة المادة الأدبية، وكذلك المخاطَب باعتبار اللغة الواصفة. هذه الأسئلة التي تمّ طرحها، خصوصا باعتبار المخاطب، على مستوى دائرة "القارئ العربي" تصبح مركّبة متراكبة مرتين حينما يتمّ طرحها بالتزويم على دائرة الأدب والقارئ المغربيين؛ إذ تظل "تابعة"/متلازمة "بضاعتنا ردت إلينا" تلاحق الأدب العربي المغاربي عموما، إبداعا ودارسة، منذ أن أصدر ذلك الحكمَ مَن أصدره أول مرة في شأن كتاب "العقد الفريد" لابن عبد ربّه، حيث ظل طموح الأدب المغربي، في لغته ومواضيعه وفنّياته، منحصرا في الحصول على اعتراف المشرق.
هذا، وإن الأمر المباشر الذي دفعني إلى مشاركة الزميلين في طرح تلك التساؤلات، عن طريق التزويم على دائرة المغرب، هو أنني توصلت في نفس اليوم بدراسة باللغة العبرية، عبر إشعار بالإيميل من موقع /موريشيت موروكو/ ("التراث المغربي")، دراسة تتناول ما يعرف في قصيدة الزجل/الملحون بمنافرات "الكًحار" أو "الدقّ" أو الشحط" حسب الجهات. يتعلق الأمر بغرض من أغراض شعر الزجل المغربي بصفة عامة يناظر ما عُرف في شعر العربية الفصحى بـ"النقائض" أو بـ"أنعيبار" في الشعر الأمازيغي؛ مع فارقِ كون الطرفين في غرض "النقائض"ّ يتمثل في شاعرين عينيين يتنافران، بينما يتمثل "الكًحار" في إجراء تلك المنافرة على لسان شاعر واحد يروي ما يسنده من قول إلى طرفين. ومن أشهر قصائد الملحون في ذلك الباب قصيدة "الزْمْنية والعْصْرية" (الفتاة التقليدية والفتاة العصرية) من نظم الشيخ حسن اليعقوبي (أداؤها من طرف المرحوم حسين التولالي، هــــــنـــــــا). وقد يكون الطرفان عبارة عن أشياء وأغراض الحياة اليومية كما يراها شاعر الملحون بعين مجتمع عصره؛ ومن ذلك قصيدة الكًحار بين"المْجْمْر و بوطاكًاز" (أنصت إليها هــــــنــــــــا). وزيادة على القيمة الفنية لمثل تلك القصائد، فإنها تكون حافلة بمعلومات نادرة وبتفاصيل وقيم أنثروبو-ثقافية ذات دلالات جوهرية مهمّة، شأنها في ذلك شأن قصائد أخرى وصفية تتناول أوجه الحياة والمرافق، مثل قصائد "الزردة" المشهورة، و"مول الفران"، و"قصة حمُّـان" وغير ذلك كثير.
وإذ كنت أعلم شخصيا أن لكثير من أغراض وقصائد الملحون - سواء أتعلق الأمر بالأذكار (مثل قصيدة "الدار" لسيدي قدّور العلمي) أم بالزمانيات (مثل "الزردة" التي تناظرها قصيدة "السخينة" بالعربية المهوّدة) - نظائرَ بالدارجة المغربية المهوّدة (judéo-arabe) مدوّنةً بالحرف العبراني. وقد جمع من ذلك الأستاذ عبد العزيز شهبر مجموعة متنوعة معتبرة ("نماذج من شعر الملحون المغربي بالعربية – اليهودية"؛ منشورات جامعة عبد المالك السعدي)، وبقي الكثير من ذلك مجهولا لدى القارئ المغربي بالعربية، أقول: إذ كنت أعلم ذلك عن طريق قنوات لغوية خاصة (وأحيانا مجرد مسألة حرف تدوين، عبراني أو لاتيني)، فإن ما بلغ إلى علمي من خلال الإشعار المذكور عن طريق الإميل من طرف موقع /موريشيت موروكو/ ("التراث المغربي") هو أن غرض منافرات "الكًحار" معروف كذلك في القصيدة المغربية بالعربية الدارجة المهوّدة، وليس فقط بالنسبة لطرفين نمطيين من أنماط المجتمع أو أنماط أغراض الحياة اليومية المحسوسة، ولكن بين ماهيتين تجريديتين. يتعلق الأمر، في ما علمته اليوم في هذا الباب، بإجراء شاعر زجلي مغربي يهودي لمنافرة من نوع "الكًحار" (لكن بأسلوب حكائي style indirecte) بين عيدين دينيين يهوديين: عيد "الحانوكة" (نوع من "عيد الشموع" عند المسلمين في بعض مدن المغرب(انظر هــــنــــــا) يتم عند اليهود ما بين شهري نوفمبر وديسمبر حسب التقويم القمري اليهودي المعدّل؛ انظر هــــنــــــــا) وعيد "البوريم" (عيد كرنفالي بمشاهد تنكّرية وأنماط خاصة من الحوار قريب في شكله من احتفالات عاشورا/يمعشار/با-مغار/بُّا-الشيخ عند المسلمين، انظر هــــنــــــــــا؛ ويتمّ عند اليهود ما بين فبراير ومارس حسب نفس التقويم؛ انظر هـــنــــــــا).
ذلك ما ورد في دراسة وصفية للباحث المحقّق، ابن مدينة تارودانت طفولة قبل أن تهاجر أسرته إلى إسرائيل، يوسف شطريت Joseph Chetrit، في مقال له بعنوان /גברת חנוכה ואדון פורים מתקוטטים/ ("خصام بين السيدة حانوكة والسيد بوريم") يتناول فيه بالعرض والتحليل قصيدة بالعربية المغربية المهوّدة من نوع "الكًحار" (שיר ויכוח) بين هذين العيدين، مدوّنةً بالحرف العبراني، وذلك، كما قال بمناسبة حلول عيد حانوكة هذه الأيام. قدّم الباحث لمقاله ببيان مصدر هذه الوثيقة المكتوبة التي تعود حسب تقديره إلى القرن-19 الميلادي، وبيان ترقيمها في الخزانة الوطنية بالقدس. وبقطع النظر هنا عن التحليلات التي قام بها الباحث، في ما يلي مقتطفات من تلك القصيدة.
في قلبنا لتدوين هذه المقتطفات إلى الحرف العربي، سنمثل أحرف الصفير، من شين، وجيم بالكيفية التي تنطق بها اليوم لدى عامة المغاربة. تتخلل النص بعض الألفاظ العبرية مثل /مكًيلة/ أي "صحيفة" والمقصود بها "صحيفة إستير" الشهيرة في سيفر البطلة اليهودية "إستير"، التي أنقذت قومَها، يهود المنفى من مكائد الوزير الأعظم "هــامـــان (بن هامْـداتا)"، الرجل القوي في بلاط ملك الفرس، أحشيروش (راجع الرابط السابق حول "البوريم")، تلك الصحيفة التي عليها تأسس عيد البوريم.، زيادة على كثير من أسماء الأعلام التوراتية والمصطلحات العبادية التي ليس هنا مكان إخراج هوامش لشرحها لكي تتّضح الخلفيات الثقافية اليهودية التي يلمّح إليها نص مقتطفات القصيدة؛ إذ المقصود هنا هو مجرد إعطاء فكرة عن غرض منافرة "الكًحار" بين عيدين يهوديين على لسان الشاعر الزجال. كما أن هناك معلومات حول لهجة المجموعة التي ينتمي إليها الزجال يمكن استنتاجها من مجرد صوتيات نصّ القصيدة، من قبيل نطق القاف بلفظ /g/ (/يلكًى/ بدل /يلقى/ "يَجِدُ"؛ /يكًابلو/ بدل /يقابلو/ "يرقبون")؛ ولكن حيز هذا التعريف لا يتّسع لذلك.
المقتطفات
1- أجيو نعاود ليكوم يا الجماعة المباركة * قصة جرات بين بّوريم وحانوكة
تّخاصمو عملو حركة...
القنادل مغسولين والخوابي د-الشراب وماحيا محلولين؛
والناس كاملة محتالين باش يشعلو حانوكة يا خواني.
5- بحرا بدات حانوكة تشعل الفتيلة * وخلط عليها بّوريم بو-المكًيلة
دغيا صلح ليها القنديل، وبقات غير ظلماني.
حنات حانوكة راسها، ولا كلّماتو * وعلى عنايتو خلّاتو؛
حتّى ترى اش فراسو * حابّ يخاصمها بالعاني.
10- خرجات لبرّا بالفكًـعة * راتو، واقفة بالفزعة،
وعمودو على كتفو موضوعة * هربات ودخلات عند جيراني.
قالت: دحيوْ عليّا هاذ شماتة * واش انا رجعت لو "هامان بن هامداتا"؟
ظلمة تنزل عليه ساخطة * من السما نتهنّى هاني.
سمعو لواحد المسكين فليلتو [فليلة بّوريم] * مشى يشري طـْـويّر لــمْـكًـيـلتو؛
صابو غالية قيمتو * وبات بلا عشياني.
1- أجي نعاود ليكوم يا الجماعة المباركة * قصة جرات بين بّوريم وحانوكة
15- فنهارو [نهار عيد بوريم] ما صابو فيه الناس راحة * من دي صبح الصباح حتّى لمنوحة
ما ياكلو بركوكش حتّى تكتر الفضيحة * من قلّة حوايج الفخراني
كبار وصغار يكًلسو فالصلاة * ما يقومو حتّى يسمعو المكًيلة
ومنين يذكرو هامان، يضربوه * أو يسحقوه بالحجراني
اليشّاشرا يطرقوه * وعلى الحجار يسحقوه.
20- و يدا يصوّرو صورتو يعلّقوه * فالقصبة ياو فالحيطاني
داك يلكًى لاخور يقول دوز * را المراة عمّرات البوز
يشربو ماحيا ويقولو [للواحد] * لا تطيح لي [سكران] في داري
واحد يسكر ويضرب في المراة * وواحد يطيح فحال قنطرة
والمسكين ما يجبر قلية عنكًرة * باش يعمل سعودة يا خواني.
25- يصبحو نهار شوشان غير يخمّــمو * كلّ واحد يقرا همّو
باش يكًابلو بّـيساح بن عمّو * وتقول ما داز بّوريم يا خواني.
بّوريم، يا خواني سمع معايرتو * ودغيا قفز ولوى عليها مكًيلتو [أي على حانوكة].
قال لها: اجي، يا مسوّداتو * واش انا رجعت ليك نصراني؟
ما سمّاوك الناس حانوكة * حتّى [كنتي] عريانة ومسوّكة.
30- ما فيك غير الكلام ولا فكّة * ونتي ما تسواي حتّى فلساني
وتنفخي يدين الناس بفتيل الفتيلة * تجي القطة تاكلهوم في مرّة
لـغدّا تصيبها تبدّق فالضليّلة * باش تعمل أُخرين، يا جيراني
تصيبها ديما فحال ساعية فُـمّ البيت * ياو يعلّقوها فالحيط
وتكسر ناس في زيوت * بلا فايدة ياحضراني
35- ضوّها ما يكونو يقراو بيه * ونفيع ما يستنفعو بيه
ونارها ما يصيبو يشعلو بيه * لا كبار ولا صغار ولا نسواني
سير، يا قليلة الصواب والاداب * ما نتين غير صيم العداب
لوكان ما "نحشون بن عمينداب" * ما تسواي حتّى فلساني
كلّ ليلة كا تزيد فتيلة * فحال شي مراة حايرة ودليلة.
40- وفمّ البيوت كًالسة فحال شي هجّالة * ما تا يسيـويها حتّى وحداني... الخ. (انظر نص مقال يوسف شطريت هـــــنــــا)
هذا نموذج جزئي لما يمكن التساؤل عن مدى اندراجه في المادة الأدبية، لغةً وموضوعا قبل التساؤل عن منهج دراسته وعن نوعية الأسئلة المعرفية التي تتناسب مع تلك الدراسة. ومثل ذلك النموذج كثير كثير في كلايدوسكوب الثقافة المغربية التي صوّت المغاربة على دستور أعاد تصوّرها بشكل لم يواكبه بعد الوسط الأكاديمي بشكل مؤسسي مهيكل.
----------------------------------------
محمد المدلاوي