فوز حمزة - غمامة حب - قصة قصيرة -

كورت أطراف عباءتها قبل أن تهم بصعود الحافلة التي غطى هدير محركها على كل الأصوات. وهي تخطو بين المقاعد، فكرت بالجلوس قرب امرأة ترتدي زي المدينة، لكن يد والدتها دفعتها للسير نحو المقاعد الخلفية لتجلس قرب نافذة مغبرة مليئة من الخارج ببراز الطيور.
جسد والدتها البدين أجبرها على التزحزح نحو الداخل لتلتصق بزجاج النافذة حتى لم يعد باستطاعتها الحركة.
نظرت بطرف عينها لوالدتها التي لم تنطق بكلمة منذ أن حضرت لاستلامها من الشيخ سلمان الذي طلبت حمايته بعدما هربت مع الرجل الذي أحبته وتزوجت منه، العرف والتقاليد كانت أقوى من وعود الشيخ الذي سيكلفه الوفاء بها خوض معركة مع عشيرتها فسلمها بيده لقبضة الموت.
انطلقت الحافلة بركابها الصامتين،ربما كانوا يستمعون مثلها للمذياع وهو يبث أغنية قديمة يهمس فيها مطرب معروف .. ( يا حريمة .. انباكت الجلمات من فوك الشفايف ).
نظراتها الزائغة سببها الرعب الذي ولد من قلبها تلك اللحظة وهي تتخيل ما الذي ينتظرها، ربما ستدفن حية .. لا! لن يقتلوها إلا بعد أن يشفوا غليلهم منها بالضرب والركل ثم ستطعن في كل أنحاء جسدها لترمى بعدها للكلاب.
بدأ العرق يتصبب من مسامات جلدها التي يُشم منها رائحة الخوف. فتحتْ النافذة قليلًا. شغلتها الأشجار التي كانت تسير عكس الطريق، تساءلت: كيف تسير هذه الأشجار بينما أشجار مزرعتهم واقفة لا تتحرك؟ شجرة البرتقال التي زرعتها وهي في العاشرة من عمرها بمساعدة شقيقها الكبير محسن ما زالت في مكانها رغم مرور تسع سنوات.
من بين زحمة الأفكار لاحت لها صورة محسن وهو دون عقال منذ أن عرف بخبر هروبها، موتها سيكون الثمن لعودة ( العگال ) ثانية لرأسه، دمها سيعيد لهم الشرف الذي دنسته فعلتها، هذه أعراف العشيرة ولن يجرؤ أحد على مخالفتها.
ما زالت الأشجار تسير، هذه المرة بسرعة أكبر. لم تعد ترى سوى صورًا تمر كالبرق. تمنت لو أنها تغيب لحظات لتعود حياتها للخلف كما تفعل الأشجار.
ما الذي ستفعله لو عاد بها الزمن إلى الماضي؟ هل ستختار الحب أم البقاء إلى جانب البقرات والأغنام؟
شعرت بنكزة قوية في خصرها، إنه كوع والدتها الذي مدت لها بصمت قطعة خبز طرية. حدقت فيها قبل أن تهم بمضغها. كانت تعرف أنها آخر لقمة تأكلها. الجميع بانتظار وصولها ليجعلوا منها وليمة دسمة لممارسة ذبح الشرف على القِبلة أو ربما دون قِبلة.
فتحت النافذة لتزيل بعباءتها براز الطيور ليتسنى لها الرؤية بوضوح، تساءلت ثانية: إلى أين تمضي الأشجار؟ ربما إلى الموت كما هي الآن! اقشعر جسدها حين تخيلت ما ينتظرها.
وهي تمسح العرق عن جبينها تمنت لو أنهم يطلقون الرصاص دفعة واحدة، لا أن يسلموها للعذاب يلوك بها كما تلوك بقطعة الخبز.
نظرت ثانية عبر النافذة، لم تكن الأشجار وحدها ما يسير إلى الخلف، بل السماء بغيومها والبيوت ورمال الشارع والبشر، الحافلة فقط من كانت تتقدم للأمام. شعرت برأسها يدور وأطرافها ترتعش وقلبها يعتصر بينما أنفاسها تخرج بصعوبة.
لقد سمعت عن فتيات كثيرات قُتلنّ في حمام العار، لم يخطر ولو لمرة واحدة في بالها أنها ستكون واحدة منهن.
بدأت الشمس بالمغيب، هذه آخر شمس تشرق فوقها وتغيب عنها.
شعرت بقشعريرة برد ارتجف لها جسدها النحيل ليعلو وجهها إصفرار مخيف.
غابت لحظات لتجد نفسها قرب موقد الخشب ترتشف الشاي الذي تفضله بالهيل وتتبادل الحديث مع شقيقاتها كما كانت تفعل سابقًا. هنا لاحت منها نظرة نحو ذلك العشيق وهي تجلس قبالته في تناولهما آخر وجبة. كانت تعيش لحظة سعادة عمرها كله، لكنها سعادة ممزوجة بعلكة الخوف والترقب من المجهول .
مررت لسانها فوق شفاها المتشققة قبل أن تستفيق مذعورة .. لا تريد قضاء لحظات الحياة الأخيرة في النوم والكوابيس.
توقفتْ الحافلة لتهبط منها خلف والدتها التي أمسكت بمعصمها حتى كادت أن تكسره. وهي تجر نعالها فوق حصى الطريق، شعرت كأنها تدوس على قلبها الذي اقترف خطيئة الحب. شعرت بثقل الدموع في عينيها، لكن دون رغبة في البكاء. فجأة توقف كل شيء .. توقفت الأشجار عن السير و الشمس تهبط للمجهول، هي فقط ،كانت تعرف إلى أين تمضي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...