أصابع رهيفة على حجر صلد أو السخرية الناعمة بلباس الميدان
تنتمي تجربة أحمد بلبداوي الشعرية إلى زمنية غير واضحة السمات وإن كان لها صلة بالمناخ السبعيني من حيث مهيمناته اللغوية والمعرفية والجمالية، وأحلامه وخيباته. ما يعني أنها تنتمي إلى نفسها، وهذه إحدى مميزاتها وحسناتها، وإحدى مياسم تفردها وخصوصيتها. هي، بتعبير آخر، تجربة شعرية لها التوقيع الشخصي علامة مسجلة، واللغة الخاصة دال بصري يذهب إلى أقصى ما في الخط والتخطيط، والحبر من روح، وحرارة وموسيقى وتشكيل. تجربة كتبت في زمكان، خصته بالبوح الرمزي المضفور، واخترقته إلى أفق يجيء، وجذر يحفر بعيدا في العروق والتربة، والتاريخ. ينتمي أحمد بلبداوي إلى جيل موتور، وزمن رمادي، وإلى أحلام وكوابيس أرخت للفترة السبعينية كما أرخت لها الفترة. ولكنه في الآن ذاته، لا ينتمي إلى الفترة إياها متى ما تعاملنا مع الشعر بوصفه سيد الكلام، وروح المغامرة اللغوية، وتوقيعا شخصيا لصاحبه، وتغريدا فريدا وإن وسط السرب.
وإذا كان شعراء السبعينات البارزون لجأوا إلى الشعر السابق، والمنجز الفائت الثقافي والإبداعي، يقلبون فيه النظر، ويضعونه على المحك التحولي حتى يتسنى لهم قول ما ينبغي أن يقولوه، ورسم ما يريدون رسمه، وبصم ما ينشدونه من إبدال على جلد الفترة التاريخية، بتوسيم الشعر بهيا كأقاويل، وصوغ المرحلة بأفراحها وأعطابها، سجلا لغويا يصون “الحقيقة”، فيما هو يبني باللغة نفسها تخييلا تصويريا حقق المنشود، وشارف على المطمح والمرغوب، فإن أحمد بلبداوي، اختار طريقا أخرى، وسمطا تعبيريا آخر، وذلك بإتيانه العجيب والغريب واستنباطه اللامألوف من المألوف ، والمألوف من اللامألوف. ومن ثم،كتب ولا يزال، نصا له سمة الاختلاف، نصا بديعا من حيث اللغة والبناء والتركيب. ليس بديعا بمعنى تأثيثه بالمحسنات البديعية، بل بديعا بتحقيقه الإشباع الجمالي للغة، والإشباع الرمزي لحركة المعنى، والبعثرة الدلالية بنفث الصور السوريالية أحيانا في المتن، تلك الصورالتي يجتافها البعد البارودي : ..parodique.، وتسبح في ماء الأليغوريا.
منذ ديوانه الغريب : “سبحانك يا بلدي” والغريب حبيب على كل حال، اختط بلبداوي لشعره الطريق الانفرادي، واستن سنة لا يزال يتبعها، ووضع كوى لألأة لا يني يتقفاها، ويسير إليها من دون أن يعيا بصره وقدمه، ومن دون أن يشكو وعثاء السفر، وشوك الإهمال والتهميش. بل دأب بصمت وعناد الصابرين على شق مسلكه وسط حشد المسالك الفضية والصدئة، وممره الشجير والعاري أحيانا ضمن الدغل الكثيف، والأرجل الغزيرة المتهافتة على السباق، والفوز بقصب السبق. وأي قصب وأي نصب؟ إن هي إلا أوهام تسمت، بل سماها هم وآباؤهم، أولئك الشعراء الذين غمز من قناتهم بلبداوي وهو يرتبهم إلى صيرفي وصيدلاني .. إلخ .. :
-هم ليسوا إلا أسماء، أسماء ربطت من
ضحكتها حتى أجهشت الأبواب
وابتليت إجهاشتها
بمزامير مدبرة
من يوم استغفل
كلب فطن راعيه
وتسلل قبل طلوع
الفجر ليبحث في البرية
عن عظم خبأه صيفا
خلف نبات الصبار.
هذا العظم هو ما يشحذ عليه مثل هؤلاء أسنانهم وأنيابهم، وأضراسهم، والنتيجة المتحصلة من ذلك: الهرهشة والخشخشة والعجيج والضجيج، واللعاب السائل، والجوعة المستمرة. لكن الشاطر فيما يقول الشاعر بلبداوي هو :
-والشاطر من يملك قلي
العجة
حصريا وفقط بثلاثة
أرباع الحجة
أفق تجربة أحمد بلبداوي، أفق شخصي، وأفق موصول ببناة وأسلاف كبار عبدوا الطريق، وألهموا الوارثين سر التعبيد والتعميد، وكيفية العلو على الطين، وعلى ما به سارت الأشياء على سمت معين، ونمط مركوز، وصفة ثابتة، وسبيل مطروقة، وحجب منتهكة. إنه أفق ينطلق من المحسوس والملموس والمتعين، ليهدم التصور العام الذي تستكين إليه الجموع، وتتعاوره الأقلام حين الوصف، والأفهام حين الكلام، والتعبير عما يجري وعما يسري وعما يمور ويثور. إنه الأفق الأليغوري، معصوب العين الجماعية، منشرح القلب والرؤية الداخلية التي بها يرى إلى العالم والعلائق والكائنات، والتي بها يصف و يعبر، ويصوغ موقفا، ويشبح تصويرا على مائدة السماء، أقصد، حجر الفلاسفة، وحقيقة الأشياء المتخفية المستترة التي لا يطولها النظر الأعمش، والبصر الأغبش، والقلب المريض. وحين تجتمع السخرية السوداء مع الأليغوريا، والباروديا بما هي هزل وفكاهة، وكوميديا، في كتاب، وليكن كتابا أحمد بلبداوي: “تفاعيل كانت تسهر تحت الخنصر” و”حتى يورق ظل أظافره”، فنحن على موعد ثر، سامي التوقيت، مع تجربة شعرية، وخبرة كتابية مورقة بما لا يقاس.
إيراق هذه التجربة، وخصوبتها، والخبرة التي تسندها وتحركها، والأفق الذي بنته طيفا طيفا، تجعلنا نقول بكل اطمئنان، بأننا في حضرة كلام أمير، وسرد- شعري أثير وأثيل، يغزو الفؤاد والعقل، كما يغزو الموقد بردا في ليالي الشتاء المقرورة، بردا يصك العظام.
وقد تأتى للتجربة الشعرية “البلبداوية” ما به سمت وعلت وحققت الرهان، رهانها أولا، ورهان الشعرية المغربية المعاصرة التي استلفت لسانا شعريا مغايرا، وبصمة إبداعية مختلفة، بل تأتى لهذه الشعرية أن تجمع بين ضفتين لا سبيل إلى الجمع بينهما ما لم يؤت الشاعر قوة العريكة الشعرية، وصبر المؤسس والباني، والخلفية الثقافية التي لابد منها لهذا البناء والتشييد، والتخييل المخضرم الجديد. أما الضفتان الإبداعيتان الفاتنتان فهما: النثر والشعر، أو بتعبير أكثر دقة: المحكي المسرود البارع، والشعر الممدود والملولب الماتع. زد على ذلك طبيعة اللغة الشعرية التي صهرت الضفتين باقتدار، والتي هي من طبيعة تراثية – حداثية. فيها من عبق العتاقة الماضية ما لا يخفى، ومن نباهة النسج ضمنها ما لا يتخطى، ولطافة الجديد القشيب، والتصوير الحاذق الغريب ما يشد ويبهج.
يعرف المتلقي المغربي والعربي، علاقة أحمد بلبداوي بالقلم والحبر والمداد، علاقة غرام وهيام، تبلورت منذ أن كتب أول نص، واستمرت متبلورة في جميع أعماله الشعرية. هي علاقة جرب من خلالها القول الجديد، والصحبة الروحية والوجودية مع الشعر، فأثمرت ما أثمرت وتحصل منها خير كثير، وفضل كبير على الشعر المغربي المعاصر. ولا يحاجج في هذا الأمر إلا ملتاث أو مُدَّعٍ أو حاسد أو مكابر. سميت تجربة أحمد بلبداوي إلى جانب تجارب صاحبيه : محمد بنيس وعبد الله راجع، بالتجربة الكتابية الخطية، التجربة الكاليغرافية، التي حرصت على الاحتفاء بالعين، وخشخشة البياض والصمت، بعيدا عن الصوت. أو قل إنها تجربة وجدت مرتعها في ما يبهج البصر ويشرح القلب والنظر، ويعيد الاعتبار للخط المغربي والأندلسي وأحيانا الكوفي. فكأنها تقول بلسان الحال إن الخصوصية تقوم على الهوية من دون انغلاق، وتقوم على التركة والموروث التاريخي للأسلاف، ولشعر الأسلاف في الأندلس وفي المغرب الذين عنوا بالتجميل والزخرفة والزركشة والتفويف، والتعشيق والتشجير، والتنجيم.. إلخ. إننا نعي اللحظة التاريخية التي أعلت من معنى قيام التجربة، وأوسعت لها الصدور والعقول والصفحات مبشرة ومثنية، ومادحة وقادحة أحيانا بل وطاعنة في العمل والصنيع إياه. إذ كانت لحظة بحث وتأسيس، وتفتيش عن وجه قمين بوجهنا المغربي، جدير بانتسابنا إلى هذه الأرض العظيمة، وتاريخها الجليل، وتراثها الأثيل والمجيد. هو ذا هاجس الانتساب، وحرقة الارتباط بالزمن والمكان المغربيين، ما كان وراء ذلك “الاندفاع” الجمالي، الذي نظر له طويلا ا لشاعر محمد بنيس، والذي أخلص له العهد، كما لم يخلص أحد الشاعر أحمد بلبداوي. حيث تبدى أن بلبداوي لم يركب الموجة رغبة في الركوب ليس إلا، وطمعا في الشهرة لا غير، وانتصارا للزملاء فقط. بل ركبها بعدما أعد الركاب جيدا، واستعد للمضمار كما يوجب الاستعداد. وأسرج فرسه المنجردة ليهمز الأوابد والعوائد، ويسبح بها بين الأرض والسماء، معلنا انحيازه الكامل والواعي والمفكر فيه، إلى الخط.. خط يده تحديدا، وخطه المغربي كخوذة أسطورية تحمي هامة كتابته :
“حينما أكتب القصيدة بخط يدي، فإنني لا أنقل إلى القاريء معاناتي فحسب بل أنقل إليه حتى حركة جسدي، أنقل إليه نبضي مباشرة، وأدعو عينيه للاحتفال بحركة جسدي على الورق يصبح المداد الذي يرتعش على البياض كما لو أنه ينبع من أصابعي مباشرة لا من القلم…”.
فنقل النبض إلى النص، ونقل حركة الجسد إليه من خلال رعشات القلم بَلْهَ الأصابع إلى النص، دعوة للعين إلى الابتهاج، والبؤبؤ إلى الإشراق والإيماض، ودعوة إلى الجسد ليتحد بالجسد في انصهار عشقي، وتوحد صوفي وجداني، دعوة تعني، الحلول والتماهي، والانقذاف في صميم لعبة الكتابة، وأقاصي الحلم والرمز، ودم الحبر العابق والتسري برذاذ الألوان الخام، والألوان الطيفية، والحبر الخفاق المرتعش، كصفحة ماء يحركها جناح خطاف، أو منقار عندليب. هناك، في دغل النص اليهي الكثيف، يسرقك السرد الشعري من نفسك، ويختطفك الشعر المسرود في رحلة قيامية ذهابا وإيابا.
صعودا وهبوطا إلى الدهاليز المعتمة، والصلصال الحار، والحمإ المسنون، أو إلى العتمات والأغساق في شجر المعرفة الباسقة المسدلة على السحنات والعصور.
نص ينكتب إثر نص، حبل مشدود، وخيط ناظم ممدود من الغلاف إلى الغلاف، واحذر السهو، فإن أنت لحظة – سهوت- تقاذفك العي والعسر وعقدة الكلام، ونُبُوّ المقام، وغامت الأجواء، وانبهمت السبل، فأين وجهتك؟ ، وأنَّى تُوفَكُ ؟.
في رسالة موجزة رهيفة كرهافة شعره، نبهني أحمد بلبداوي، إلى ضرورة أخذ الكتاب، كتابه بقوة من السطر إلى السطر، اي من البدء إلى الختام، من الغلاف إلى الغلاف، إذ لاَعَنْونة للكتاب إلا ما كان جملة أو عبارة داخل نص يحيل ويحال عليه. وهي رسالة وضعها طي عمله الشعري اللافت : “تفاعيل كانت تسهر تحت الخنصر”، وردت علي بتاريخ 18-04-2001، يقول فيها : “هذه المجموعة عنوانها نص كامل ينبغي أن يقرأ انطلاقا من الدائرة الأولى غير المكتملة مرورا بالوسط فالدائرة الثانية غير المكتملة، وهو إن شئت التبسيط كالآتي :
-“ولما استوى تماما على خازوق مفتول غير متقن التشحيم تحت شمس خفيفة، ضم شفتيه على مبسم الخازوق وطفق ينفخ فيه كناي رضيع آناء يومه تفاعيل كانت تسهر تحت الخنصر مقرفصة على بهاء شديد اللهجة، وقبل أن يوعز إلى المشيئة بالسعال، أوْصَى بظل أصابعه وما يرتله الخنصر وديعة لدى أحمد بلبداوي”.
وعلى غلاف الظهر نص آخر هو عبارة تكملة لما في الداخل بين دفتي الغلافين. المجموعة، إذن، تقرأ من الغلاف إلى الغلاف”.
هذا التنبيه كان ضروريا حتى يتضح المرام من النص كاملا، من النص يبنى ويتبنين من الغلاف إلى الغلاف. وآية ذلك ان القفز على الغلاف أو إسقاط لدلالة الخازوق المخترقة للنص من ألفه إلى يائه، وما بعد يائه أي إلى عمله الشعري: “حتى يورق ظل أظافره”. تصحب الخازوق معاني الصراخ والعويل والإغماءة فالموت إذا ما اخترق الجسم، أو اخترق الدُّبر وراح يعبث في الأمعاء إلى حد الموت.
وللخازوق ذاكرة سوداء مخيفة ومميتة، كما تصحبه دلالة أخرى تثير المزاح والتهديد والوعيد، وتثير الضحك المبكي، والبكاء المضحك، وفي كل الأحوال، فإن الخازوق عنوان سرقة موصوفة ومدججة، وعنوان ديكتاتورية وشر. لكن لاحظ أن الشاعر يضفي عليه ما ينسي معناه وأثره المترتب عن معناه، ومفهومه، اثره الدامي الماحق. فالسارد الشاعر يستوي من تلقاء نفسه، أو هم من وضعوه ليستوي عليه، وهو خازوق لم يشحم كفاية ليساعد الجالس على الاختراق، بل إن المستوي يضع فمه على مبسم الخازوق، ويشرع في النفخ والتسلي.
ففي هذا الحكي الغرائبي ما يفضي إلى القول بامتشاق السخرية سوطا يجلد به بلبداوي حكيه الشعري، وسرده العجيب، واستعاراته البعيدة المفارقة التي تنغمس أحيانا في علبة الصور السوريالية، كما سنرى لاحقا. فالضحك ينبثق من هذه المفارقة، من خازوق لم يشحم بما يكفي ليقوم بالمهمة على أحسن وجه، وبأحد حديه الذي صار مبسما ضاحكا من تضاحك الأضداد، بل وصار ثقب ناي، ولثغ صبي، ينتظر الهدهدة والتنويم، ليغمض جفنيه على رائعات الأحلام، وطيب الأمنيات. هكذا يتحول الخازوق لعبة وألْعُبانا.
تبدأ الأليغوريا في نسج دثاراتها، وتوشيح الكتابة الشعرية بهذه الدثارات الساحرة، كما رأينا- منذ الغلاف الأول، فاسحة للتخييل الطريق الوسيع، وللصور المركبة والمضفورة من ذاك التخييل فضاء للنص الشعري وهو يتمدد وينكتب، مرة مكوكبا، ومرة مُكِبَّا على وجهه، وتارة دائريا غير مكتمل، ومقوسا عاليا وجاثيا، وأحيانا أفقيا وعموديا وشاقوليا، في دوارة متعبة، ودوامة مدوخة كأنها تقول بلسان الشاعر: تقلبْ يا قارئي في مركبة العذاب، وتشقلبْ رأسا وعقبا، وترَامَ في كل اتجاه لتفوز بالمعنى الذي لن تفوز به أبدا، أو الذي إما فزت به لن يستقر في راحتك أكثر من توقيت نقل عرش بلقيس على جناح الهدهد إلى سليمان الملك.
وقد عُدت الأليغوريا من المجازات، وأدرجها “فونتاني” ضمن صور التعبير بالتخييل. كما عرفها “هنري مورييه كالتالي : “الأليغوريا حكاية ذات طابع رمزي أو تلميحي وهي باعتبارها سردا تقوم على تسلسل أعمال، وتعرض شخصيات: (كائنات بشرية أو حيوانية أو تجريدات مشخصة تكون لصفاتها وأزيائها ولأعمالها وحركاتها قيمة العلامات، وتتحرك هذه الشخصيات في مكان وزمان لهما بدورهما طابع رمزي، وتضم الأليغوريا دائما مظهرين : مظهرا مباشرا حرفيا، ومظهرا ثانيا يتمثل في الدلالة الأخلاقية أو النفسية أو الدينية
Henri Morier : Dictionnaire de poétique et de rhétorique 1981 ” عن فتحي النصري : شعرية المتخيل ” .
فالأليغوريا التي تميز كتابة أحمد بلبداوي الشعرية، هي تعالق السرد بالشعر، وهي بناء الشعر بناء حكائيا، أو بناء السرد بناء شعريا. يذهب الشاعر إلى الأشياء والعالم والكائنات في الواقع والخيال، فيحكي سيرهم، ويسرد رغائبهم ومكبوتاتهم، أحلامهم وقهرهم في إهاب شعري له الفانطستيك دلالة غالبة والمجاز المرسل صياغة لغوية تصويرية تشي بالتناقضات، والمفارقات الساخرة، وتعكس الجوانب الهزلية فيما يقولون ويأتون، مضفية على اللغة جديدا، وعلى القصة الشعرية طلاوة ونداوة وغرائبية في جل أوصالها، وأكثر مناطقها ونقاطها.
إنها بتعبير آخر، كناية رمزية عريضة لعلنا نجد أمشاجا منها، أو كاملة في ما وصلنا من موروث شعري مسرحي ضمن قالب ساخر وفكاهي، تنُووِل فيها المجتمع والناس، تناولا “كاريكاتوريا” ساعد على بقائهم مشعين عبر الأزمنة، موئلا للاعتبار، ومصدرا للدروس التي صور بها الأدباء والشعراء أداء المجتمع. وفي هذا الصدد، يمكن ذكر الشاعر اليوناني أرسطو فانيس (أرستوفان)، المؤلف المسرحي الكوميدي الذي يعتبر من رواد المسرح الساخر في اليونان القديمة. ففي المسرح، ثم تشريح “الحقيقة” البشرية التي لطالما تتحدث وتعمل من خلف قناع، من خلال المبالغات والنقد السياسي اللاذع لابسا ثوب الصياغة الهزلية. وملهاة : “الضفادع”، تسعف القاريء، كما أسعفت التلقيات القديمة والمختلفة في الوقوف على جدتها وبكارتها والبعد الهزلي الضاحك الكامن والبين في معانيها ومغازيها. ولن نعدم كتابات أليغورية عبر التواريخ والأحقاب، إذ –عربيا- يمكن الإشارة إلى الحطيئة الهجاء.
ومعلوم أن الهجاء أحد روافد السخرية، بل هو ساحتها، وفضاء الأليغوريا والقص. يقول الحطيئة :
-هلُّوا قِرَاهُ وهرَّتهم كلابهم / وجرحوه بأنياب وأضراس
دع المكارم لا ترحل لبغيتها / واقعد فأنت الطاعم الكاسي
وفي موضع آخر يقول :
-أبَتْ شفتاي اليوم إلا تكلما / بسوء فما أدري لمن أنا قائله
أرى لي وجها قبح الله خلقه / فقبح من وجه وقبح حامله
وفي العصور اللاحقة، استشرى التعبير الساخر، وانتشر الهزل والدعابة تقية، ورقابة ذاتية خوفا من سوط الجلاد. فقد لجأ بعض الكتاب إلى الصوغ الأليغوري سردا وشعرا اتقاء لشر الحاكم إذ أن شر الحاكم وشر معاونيه، هما من كانا موضوع كتابته، ومحبرة قلمه. مثال ذلك كتابات عبد الله بن المقفع :”كليلة ودمنة”، و”الأدب الصغير”، و”الأدب الكبير” و”رسالة في الصحابة”، وهي الرسالة التي كشفت أمره، وفكك رمزها، والمعني بالإشارات فيها فكانت سببا – فيما يروي بعض المؤرخين – في قتله والتمثيل به. أما الشعر: نوع منه على الخصوص، فأعمل استعاراته ومجازاته لتصوير أدواء المجتمع، وأكاذيبه ونفاقه وأقنعته، ضممن قالب إضحاكي ساخر، وضمن باروديا لازالت صورها تلتمع في ليل الظلم والرهبوت.
ولنا أن نذكر “المهرج” أبا دلامة، شاعر السفاح والمنصور والمهدي، و”أبا حكيمة” صاحب “الأيريات”، أو راثي أيره الذي صار إلى ارتخاء وضمور وموت بعد عمر من المجد و”الغزوات الباهرة”، “وأبن الحجاج” الذي قال فيه “الذهبي” : شاعر العصر، وسفيه الأدب وأمير الفحش، كان أمة وحده في نظم القبائح، وخفة الروح”، فإذا نحن حططنا الرحال بالعصر الحديث، عنَّ لنا القليل من هذا النوع الشعري ذي البعد الساخر، والبناء الأليغوري، لظروف المجتمع، ويد التطورات فيه، التي سارت بالشعر والسرد إلى “الجدية”، وإسباغ الصدقية على الأقاويل المختلفة سواء أنبعت من ذات مكلومة مجروحة، أم نبعت من واقع يعج بالأوصاب والأعطاب، ما يفيد بأن التعبير الساخر، البارودي الذي يتخفى وراء المجاز المرسل، والكناية الرمزية، والتورية البديعة، قلَّ، بل واعتبر طارقوه، أدباء من صنف خاص، صنف كتابي طبعا، لكن لا يصل مستوى الكتاب “الجادين”.
غير أن القراءة المنصفة، السابرة لأغوار الأليغوريات العربية في القرن العشرين، وما بعده، تكشف عن جمالها، ولطافة مغازيها، ونجاح بنائها، وإصابة أهدافها وغاياتها، حيث زاوجت بين شعرية المكتوب، وفكاهة المطلوب، و”حقيقة” الواقع المصور الذي غطاه طلاء “الأدب” الكاذب، والصوغ الفني المزور. ومن أبرز خاصيات هذا الضرب من الكتابة، ابتعاده عن الأسلبة المزوقة والمنمقة، والوجوه البلاغية المعتادة في إنتاج الصورة وجنوحه إلى المجاز المرسل، والكناية، إذ هما الوجهان “البلاغيان” الأكثرملاءمة واستجابة للكتابة الأليغورية، والبعد البارودي الساخر فيها. لنقل بوضوح : إن أهم خاصية لهذا الضرب، هي التعبير المداور، التعبير اللامباشر. وقد تألق فيه صلاح عبد الصبور ومحمد الماغوط، وسعدي يوسف والتونسي فتحي النصري، من دون أن نشير إلى شعراء العامية المصريين والمغاربة، وعرب الأقطار الأخرى.
وفي حالة أحمد بلبداوي فإن الأمر يبعث على الدهشة والإعجاب، فهو جمع إلى بهاء الكتابة باليد النابضة، والمداد الحي، فن الشعر السردي، وجمال القص القصائدي حيث السارد رَاءٍ ومرئي، جارح ومجروح، والمجتمع مرآة وقاع، فتنة وقَردية، وشخوص تحكي فيما هي تَضْحَك وتُضْحِك. تضحك من واقع الحال والمآل، وتُضْحِك ربات الحداد البواكيا على رأي المتنبي :
وتعجبني رجلاك في النعل إنني // رأيتك ذا نعل إذا كنت حافيا
ومثلك يؤتي من بلاد بعيدة // ليضحك ربات الحداد البواكيا
لم يحقق شاعر آخر – في ظني- هذه المعادلة الصعبة والبارعة، معادلة الجمع بين الفنين: فن الشعر وفن الكتابة ما خلا بلبداوي، ومن ثم فهو نسيج، وحده، كما هو “شيخ” الشعراء المغاربة محمد السرغيني، حيث الفكاهة والكوميديا السوداء سيدتا الموقف في شعره وشعريته. لكن بلبداوي ينماز باليد كاتبة ومبدعة، باكية وضاحكة، يد تخط وتُحَبِّر، يد تدبر، لها الخطوط الأفقية والعمودية، والحلزونيات واللولبيات والشاقوليات، والهابطات الصاعدات الدائرات، عوالم فنية زخرفية وروحية، ومساكن تتنزلها العين الحاضنة، والوجدان الرؤوم وهو يرتقي أبراجها، ويقيم في سلالمها ومغناطيتها، سحرها وجاذبيتها. إنه الجسد في عنفوانه وحمحمته، وفي تصهاله وشطحه وردحه، يرمز ويشير، يهذي ويهتف ويصوغ القول الجواني ببرانية المدح بما يشبه الذم، والذم بما يشبه المدح. ويعري المشاعر الملفوفة في مناديل “السَّاتان”، والأفكار المحبوسة في “محارم” الورق، ورفوف الفضاءات العطنة : فهو “المخزوق” المخترق ساردا يضحك في قمة ألمه، وشاعرا ينتشي في ذروة دمه وعسله :
-(يوم آخر مر كيعسوب مجروح في ركبته، في حي ّالطلعة” بالقرب من الصبر صاحت بي أرملة : “يا متنبي يا متنبي ماذا ستخط يمينك بعد يُها الـ.. يشويني فيك وفي شغلك، قلت لنفسي لا تنخدعن فأسماء المتنبي أضيق من أن تسع اثنين :
أطاعن مفردا ضرب الزمان مواعيد الأخس وخلق يَخَّانِ
وتساءل هل حقا أوصى سيف الدولة مبعوثيه إلى حاضرة الروم بتحطيم الأرقام إذا الروم تواصوا بكراء الأرحام؟ .)
يأخذك القص من يدك مبتهجا فإذا أنت فجأة في شأن آخر، شأن كنائي عجيب، وتهجين يمد الفصحى بنسغ لذيذ، يشد أزرها، ويتشعبط بلحيتها. وهو التهجين الذي تحسه مندمغا بالحكي، وتراه منصهرا في مادة السرد لا نابٍ ولا قَلِق، مكانه موفور، وسمته مسرور إذ يسري، ويملأ القلب بالضحك، يملؤه بالفكاهة والفاكهة بعد شبع وبَطْر لغويين.
وكما في ديوانه “حتى يورق ظل أظافره” فديوان: “تفاعيل كانت تسهر تحت الخنصر”، يبني فضاءه وعالمه على أسس من مشدات دلالية موجهة، تغمس الجديد اللغوي في التليد اللغوي، أي تضع منسوب العتاقة الجليلة في إناء الكريسطال البهي. وهي المشدات التي نسميها نقديا ب “الجهاز العنواني”، إذ تفتح الشهية على مصراعيها لمساءلة مشرب / مشارب الشاعر ومصادره، وآباره قريبة – بعيدة القعر التي امتاح منها. كما تفتح عنونات أخرى الشهية الفضولية في تعقب العلائق التناصية المتكئة على القرآن الكريم، والمثل الشعبي السائر، والأسطورة ، والتراث الثقافي ماضيا وحاضرا.
تنتمي تجربة أحمد بلبداوي الشعرية إلى زمنية غير واضحة السمات وإن كان لها صلة بالمناخ السبعيني من حيث مهيمناته اللغوية والمعرفية والجمالية، وأحلامه وخيباته. ما يعني أنها تنتمي إلى نفسها، وهذه إحدى مميزاتها وحسناتها، وإحدى مياسم تفردها وخصوصيتها. هي، بتعبير آخر، تجربة شعرية لها التوقيع الشخصي علامة مسجلة، واللغة الخاصة دال بصري يذهب إلى أقصى ما في الخط والتخطيط، والحبر من روح، وحرارة وموسيقى وتشكيل. تجربة كتبت في زمكان، خصته بالبوح الرمزي المضفور، واخترقته إلى أفق يجيء، وجذر يحفر بعيدا في العروق والتربة، والتاريخ. ينتمي أحمد بلبداوي إلى جيل موتور، وزمن رمادي، وإلى أحلام وكوابيس أرخت للفترة السبعينية كما أرخت لها الفترة. ولكنه في الآن ذاته، لا ينتمي إلى الفترة إياها متى ما تعاملنا مع الشعر بوصفه سيد الكلام، وروح المغامرة اللغوية، وتوقيعا شخصيا لصاحبه، وتغريدا فريدا وإن وسط السرب.
وإذا كان شعراء السبعينات البارزون لجأوا إلى الشعر السابق، والمنجز الفائت الثقافي والإبداعي، يقلبون فيه النظر، ويضعونه على المحك التحولي حتى يتسنى لهم قول ما ينبغي أن يقولوه، ورسم ما يريدون رسمه، وبصم ما ينشدونه من إبدال على جلد الفترة التاريخية، بتوسيم الشعر بهيا كأقاويل، وصوغ المرحلة بأفراحها وأعطابها، سجلا لغويا يصون “الحقيقة”، فيما هو يبني باللغة نفسها تخييلا تصويريا حقق المنشود، وشارف على المطمح والمرغوب، فإن أحمد بلبداوي، اختار طريقا أخرى، وسمطا تعبيريا آخر، وذلك بإتيانه العجيب والغريب واستنباطه اللامألوف من المألوف ، والمألوف من اللامألوف. ومن ثم،كتب ولا يزال، نصا له سمة الاختلاف، نصا بديعا من حيث اللغة والبناء والتركيب. ليس بديعا بمعنى تأثيثه بالمحسنات البديعية، بل بديعا بتحقيقه الإشباع الجمالي للغة، والإشباع الرمزي لحركة المعنى، والبعثرة الدلالية بنفث الصور السوريالية أحيانا في المتن، تلك الصورالتي يجتافها البعد البارودي : ..parodique.، وتسبح في ماء الأليغوريا.
منذ ديوانه الغريب : “سبحانك يا بلدي” والغريب حبيب على كل حال، اختط بلبداوي لشعره الطريق الانفرادي، واستن سنة لا يزال يتبعها، ووضع كوى لألأة لا يني يتقفاها، ويسير إليها من دون أن يعيا بصره وقدمه، ومن دون أن يشكو وعثاء السفر، وشوك الإهمال والتهميش. بل دأب بصمت وعناد الصابرين على شق مسلكه وسط حشد المسالك الفضية والصدئة، وممره الشجير والعاري أحيانا ضمن الدغل الكثيف، والأرجل الغزيرة المتهافتة على السباق، والفوز بقصب السبق. وأي قصب وأي نصب؟ إن هي إلا أوهام تسمت، بل سماها هم وآباؤهم، أولئك الشعراء الذين غمز من قناتهم بلبداوي وهو يرتبهم إلى صيرفي وصيدلاني .. إلخ .. :
-هم ليسوا إلا أسماء، أسماء ربطت من
ضحكتها حتى أجهشت الأبواب
وابتليت إجهاشتها
بمزامير مدبرة
من يوم استغفل
كلب فطن راعيه
وتسلل قبل طلوع
الفجر ليبحث في البرية
عن عظم خبأه صيفا
خلف نبات الصبار.
هذا العظم هو ما يشحذ عليه مثل هؤلاء أسنانهم وأنيابهم، وأضراسهم، والنتيجة المتحصلة من ذلك: الهرهشة والخشخشة والعجيج والضجيج، واللعاب السائل، والجوعة المستمرة. لكن الشاطر فيما يقول الشاعر بلبداوي هو :
-والشاطر من يملك قلي
العجة
حصريا وفقط بثلاثة
أرباع الحجة
أفق تجربة أحمد بلبداوي، أفق شخصي، وأفق موصول ببناة وأسلاف كبار عبدوا الطريق، وألهموا الوارثين سر التعبيد والتعميد، وكيفية العلو على الطين، وعلى ما به سارت الأشياء على سمت معين، ونمط مركوز، وصفة ثابتة، وسبيل مطروقة، وحجب منتهكة. إنه أفق ينطلق من المحسوس والملموس والمتعين، ليهدم التصور العام الذي تستكين إليه الجموع، وتتعاوره الأقلام حين الوصف، والأفهام حين الكلام، والتعبير عما يجري وعما يسري وعما يمور ويثور. إنه الأفق الأليغوري، معصوب العين الجماعية، منشرح القلب والرؤية الداخلية التي بها يرى إلى العالم والعلائق والكائنات، والتي بها يصف و يعبر، ويصوغ موقفا، ويشبح تصويرا على مائدة السماء، أقصد، حجر الفلاسفة، وحقيقة الأشياء المتخفية المستترة التي لا يطولها النظر الأعمش، والبصر الأغبش، والقلب المريض. وحين تجتمع السخرية السوداء مع الأليغوريا، والباروديا بما هي هزل وفكاهة، وكوميديا، في كتاب، وليكن كتابا أحمد بلبداوي: “تفاعيل كانت تسهر تحت الخنصر” و”حتى يورق ظل أظافره”، فنحن على موعد ثر، سامي التوقيت، مع تجربة شعرية، وخبرة كتابية مورقة بما لا يقاس.
إيراق هذه التجربة، وخصوبتها، والخبرة التي تسندها وتحركها، والأفق الذي بنته طيفا طيفا، تجعلنا نقول بكل اطمئنان، بأننا في حضرة كلام أمير، وسرد- شعري أثير وأثيل، يغزو الفؤاد والعقل، كما يغزو الموقد بردا في ليالي الشتاء المقرورة، بردا يصك العظام.
وقد تأتى للتجربة الشعرية “البلبداوية” ما به سمت وعلت وحققت الرهان، رهانها أولا، ورهان الشعرية المغربية المعاصرة التي استلفت لسانا شعريا مغايرا، وبصمة إبداعية مختلفة، بل تأتى لهذه الشعرية أن تجمع بين ضفتين لا سبيل إلى الجمع بينهما ما لم يؤت الشاعر قوة العريكة الشعرية، وصبر المؤسس والباني، والخلفية الثقافية التي لابد منها لهذا البناء والتشييد، والتخييل المخضرم الجديد. أما الضفتان الإبداعيتان الفاتنتان فهما: النثر والشعر، أو بتعبير أكثر دقة: المحكي المسرود البارع، والشعر الممدود والملولب الماتع. زد على ذلك طبيعة اللغة الشعرية التي صهرت الضفتين باقتدار، والتي هي من طبيعة تراثية – حداثية. فيها من عبق العتاقة الماضية ما لا يخفى، ومن نباهة النسج ضمنها ما لا يتخطى، ولطافة الجديد القشيب، والتصوير الحاذق الغريب ما يشد ويبهج.
يعرف المتلقي المغربي والعربي، علاقة أحمد بلبداوي بالقلم والحبر والمداد، علاقة غرام وهيام، تبلورت منذ أن كتب أول نص، واستمرت متبلورة في جميع أعماله الشعرية. هي علاقة جرب من خلالها القول الجديد، والصحبة الروحية والوجودية مع الشعر، فأثمرت ما أثمرت وتحصل منها خير كثير، وفضل كبير على الشعر المغربي المعاصر. ولا يحاجج في هذا الأمر إلا ملتاث أو مُدَّعٍ أو حاسد أو مكابر. سميت تجربة أحمد بلبداوي إلى جانب تجارب صاحبيه : محمد بنيس وعبد الله راجع، بالتجربة الكتابية الخطية، التجربة الكاليغرافية، التي حرصت على الاحتفاء بالعين، وخشخشة البياض والصمت، بعيدا عن الصوت. أو قل إنها تجربة وجدت مرتعها في ما يبهج البصر ويشرح القلب والنظر، ويعيد الاعتبار للخط المغربي والأندلسي وأحيانا الكوفي. فكأنها تقول بلسان الحال إن الخصوصية تقوم على الهوية من دون انغلاق، وتقوم على التركة والموروث التاريخي للأسلاف، ولشعر الأسلاف في الأندلس وفي المغرب الذين عنوا بالتجميل والزخرفة والزركشة والتفويف، والتعشيق والتشجير، والتنجيم.. إلخ. إننا نعي اللحظة التاريخية التي أعلت من معنى قيام التجربة، وأوسعت لها الصدور والعقول والصفحات مبشرة ومثنية، ومادحة وقادحة أحيانا بل وطاعنة في العمل والصنيع إياه. إذ كانت لحظة بحث وتأسيس، وتفتيش عن وجه قمين بوجهنا المغربي، جدير بانتسابنا إلى هذه الأرض العظيمة، وتاريخها الجليل، وتراثها الأثيل والمجيد. هو ذا هاجس الانتساب، وحرقة الارتباط بالزمن والمكان المغربيين، ما كان وراء ذلك “الاندفاع” الجمالي، الذي نظر له طويلا ا لشاعر محمد بنيس، والذي أخلص له العهد، كما لم يخلص أحد الشاعر أحمد بلبداوي. حيث تبدى أن بلبداوي لم يركب الموجة رغبة في الركوب ليس إلا، وطمعا في الشهرة لا غير، وانتصارا للزملاء فقط. بل ركبها بعدما أعد الركاب جيدا، واستعد للمضمار كما يوجب الاستعداد. وأسرج فرسه المنجردة ليهمز الأوابد والعوائد، ويسبح بها بين الأرض والسماء، معلنا انحيازه الكامل والواعي والمفكر فيه، إلى الخط.. خط يده تحديدا، وخطه المغربي كخوذة أسطورية تحمي هامة كتابته :
“حينما أكتب القصيدة بخط يدي، فإنني لا أنقل إلى القاريء معاناتي فحسب بل أنقل إليه حتى حركة جسدي، أنقل إليه نبضي مباشرة، وأدعو عينيه للاحتفال بحركة جسدي على الورق يصبح المداد الذي يرتعش على البياض كما لو أنه ينبع من أصابعي مباشرة لا من القلم…”.
فنقل النبض إلى النص، ونقل حركة الجسد إليه من خلال رعشات القلم بَلْهَ الأصابع إلى النص، دعوة للعين إلى الابتهاج، والبؤبؤ إلى الإشراق والإيماض، ودعوة إلى الجسد ليتحد بالجسد في انصهار عشقي، وتوحد صوفي وجداني، دعوة تعني، الحلول والتماهي، والانقذاف في صميم لعبة الكتابة، وأقاصي الحلم والرمز، ودم الحبر العابق والتسري برذاذ الألوان الخام، والألوان الطيفية، والحبر الخفاق المرتعش، كصفحة ماء يحركها جناح خطاف، أو منقار عندليب. هناك، في دغل النص اليهي الكثيف، يسرقك السرد الشعري من نفسك، ويختطفك الشعر المسرود في رحلة قيامية ذهابا وإيابا.
صعودا وهبوطا إلى الدهاليز المعتمة، والصلصال الحار، والحمإ المسنون، أو إلى العتمات والأغساق في شجر المعرفة الباسقة المسدلة على السحنات والعصور.
نص ينكتب إثر نص، حبل مشدود، وخيط ناظم ممدود من الغلاف إلى الغلاف، واحذر السهو، فإن أنت لحظة – سهوت- تقاذفك العي والعسر وعقدة الكلام، ونُبُوّ المقام، وغامت الأجواء، وانبهمت السبل، فأين وجهتك؟ ، وأنَّى تُوفَكُ ؟.
في رسالة موجزة رهيفة كرهافة شعره، نبهني أحمد بلبداوي، إلى ضرورة أخذ الكتاب، كتابه بقوة من السطر إلى السطر، اي من البدء إلى الختام، من الغلاف إلى الغلاف، إذ لاَعَنْونة للكتاب إلا ما كان جملة أو عبارة داخل نص يحيل ويحال عليه. وهي رسالة وضعها طي عمله الشعري اللافت : “تفاعيل كانت تسهر تحت الخنصر”، وردت علي بتاريخ 18-04-2001، يقول فيها : “هذه المجموعة عنوانها نص كامل ينبغي أن يقرأ انطلاقا من الدائرة الأولى غير المكتملة مرورا بالوسط فالدائرة الثانية غير المكتملة، وهو إن شئت التبسيط كالآتي :
-“ولما استوى تماما على خازوق مفتول غير متقن التشحيم تحت شمس خفيفة، ضم شفتيه على مبسم الخازوق وطفق ينفخ فيه كناي رضيع آناء يومه تفاعيل كانت تسهر تحت الخنصر مقرفصة على بهاء شديد اللهجة، وقبل أن يوعز إلى المشيئة بالسعال، أوْصَى بظل أصابعه وما يرتله الخنصر وديعة لدى أحمد بلبداوي”.
وعلى غلاف الظهر نص آخر هو عبارة تكملة لما في الداخل بين دفتي الغلافين. المجموعة، إذن، تقرأ من الغلاف إلى الغلاف”.
هذا التنبيه كان ضروريا حتى يتضح المرام من النص كاملا، من النص يبنى ويتبنين من الغلاف إلى الغلاف. وآية ذلك ان القفز على الغلاف أو إسقاط لدلالة الخازوق المخترقة للنص من ألفه إلى يائه، وما بعد يائه أي إلى عمله الشعري: “حتى يورق ظل أظافره”. تصحب الخازوق معاني الصراخ والعويل والإغماءة فالموت إذا ما اخترق الجسم، أو اخترق الدُّبر وراح يعبث في الأمعاء إلى حد الموت.
وللخازوق ذاكرة سوداء مخيفة ومميتة، كما تصحبه دلالة أخرى تثير المزاح والتهديد والوعيد، وتثير الضحك المبكي، والبكاء المضحك، وفي كل الأحوال، فإن الخازوق عنوان سرقة موصوفة ومدججة، وعنوان ديكتاتورية وشر. لكن لاحظ أن الشاعر يضفي عليه ما ينسي معناه وأثره المترتب عن معناه، ومفهومه، اثره الدامي الماحق. فالسارد الشاعر يستوي من تلقاء نفسه، أو هم من وضعوه ليستوي عليه، وهو خازوق لم يشحم كفاية ليساعد الجالس على الاختراق، بل إن المستوي يضع فمه على مبسم الخازوق، ويشرع في النفخ والتسلي.
ففي هذا الحكي الغرائبي ما يفضي إلى القول بامتشاق السخرية سوطا يجلد به بلبداوي حكيه الشعري، وسرده العجيب، واستعاراته البعيدة المفارقة التي تنغمس أحيانا في علبة الصور السوريالية، كما سنرى لاحقا. فالضحك ينبثق من هذه المفارقة، من خازوق لم يشحم بما يكفي ليقوم بالمهمة على أحسن وجه، وبأحد حديه الذي صار مبسما ضاحكا من تضاحك الأضداد، بل وصار ثقب ناي، ولثغ صبي، ينتظر الهدهدة والتنويم، ليغمض جفنيه على رائعات الأحلام، وطيب الأمنيات. هكذا يتحول الخازوق لعبة وألْعُبانا.
تبدأ الأليغوريا في نسج دثاراتها، وتوشيح الكتابة الشعرية بهذه الدثارات الساحرة، كما رأينا- منذ الغلاف الأول، فاسحة للتخييل الطريق الوسيع، وللصور المركبة والمضفورة من ذاك التخييل فضاء للنص الشعري وهو يتمدد وينكتب، مرة مكوكبا، ومرة مُكِبَّا على وجهه، وتارة دائريا غير مكتمل، ومقوسا عاليا وجاثيا، وأحيانا أفقيا وعموديا وشاقوليا، في دوارة متعبة، ودوامة مدوخة كأنها تقول بلسان الشاعر: تقلبْ يا قارئي في مركبة العذاب، وتشقلبْ رأسا وعقبا، وترَامَ في كل اتجاه لتفوز بالمعنى الذي لن تفوز به أبدا، أو الذي إما فزت به لن يستقر في راحتك أكثر من توقيت نقل عرش بلقيس على جناح الهدهد إلى سليمان الملك.
وقد عُدت الأليغوريا من المجازات، وأدرجها “فونتاني” ضمن صور التعبير بالتخييل. كما عرفها “هنري مورييه كالتالي : “الأليغوريا حكاية ذات طابع رمزي أو تلميحي وهي باعتبارها سردا تقوم على تسلسل أعمال، وتعرض شخصيات: (كائنات بشرية أو حيوانية أو تجريدات مشخصة تكون لصفاتها وأزيائها ولأعمالها وحركاتها قيمة العلامات، وتتحرك هذه الشخصيات في مكان وزمان لهما بدورهما طابع رمزي، وتضم الأليغوريا دائما مظهرين : مظهرا مباشرا حرفيا، ومظهرا ثانيا يتمثل في الدلالة الأخلاقية أو النفسية أو الدينية
Henri Morier : Dictionnaire de poétique et de rhétorique 1981 ” عن فتحي النصري : شعرية المتخيل ” .
فالأليغوريا التي تميز كتابة أحمد بلبداوي الشعرية، هي تعالق السرد بالشعر، وهي بناء الشعر بناء حكائيا، أو بناء السرد بناء شعريا. يذهب الشاعر إلى الأشياء والعالم والكائنات في الواقع والخيال، فيحكي سيرهم، ويسرد رغائبهم ومكبوتاتهم، أحلامهم وقهرهم في إهاب شعري له الفانطستيك دلالة غالبة والمجاز المرسل صياغة لغوية تصويرية تشي بالتناقضات، والمفارقات الساخرة، وتعكس الجوانب الهزلية فيما يقولون ويأتون، مضفية على اللغة جديدا، وعلى القصة الشعرية طلاوة ونداوة وغرائبية في جل أوصالها، وأكثر مناطقها ونقاطها.
إنها بتعبير آخر، كناية رمزية عريضة لعلنا نجد أمشاجا منها، أو كاملة في ما وصلنا من موروث شعري مسرحي ضمن قالب ساخر وفكاهي، تنُووِل فيها المجتمع والناس، تناولا “كاريكاتوريا” ساعد على بقائهم مشعين عبر الأزمنة، موئلا للاعتبار، ومصدرا للدروس التي صور بها الأدباء والشعراء أداء المجتمع. وفي هذا الصدد، يمكن ذكر الشاعر اليوناني أرسطو فانيس (أرستوفان)، المؤلف المسرحي الكوميدي الذي يعتبر من رواد المسرح الساخر في اليونان القديمة. ففي المسرح، ثم تشريح “الحقيقة” البشرية التي لطالما تتحدث وتعمل من خلف قناع، من خلال المبالغات والنقد السياسي اللاذع لابسا ثوب الصياغة الهزلية. وملهاة : “الضفادع”، تسعف القاريء، كما أسعفت التلقيات القديمة والمختلفة في الوقوف على جدتها وبكارتها والبعد الهزلي الضاحك الكامن والبين في معانيها ومغازيها. ولن نعدم كتابات أليغورية عبر التواريخ والأحقاب، إذ –عربيا- يمكن الإشارة إلى الحطيئة الهجاء.
ومعلوم أن الهجاء أحد روافد السخرية، بل هو ساحتها، وفضاء الأليغوريا والقص. يقول الحطيئة :
-هلُّوا قِرَاهُ وهرَّتهم كلابهم / وجرحوه بأنياب وأضراس
دع المكارم لا ترحل لبغيتها / واقعد فأنت الطاعم الكاسي
وفي موضع آخر يقول :
-أبَتْ شفتاي اليوم إلا تكلما / بسوء فما أدري لمن أنا قائله
أرى لي وجها قبح الله خلقه / فقبح من وجه وقبح حامله
وفي العصور اللاحقة، استشرى التعبير الساخر، وانتشر الهزل والدعابة تقية، ورقابة ذاتية خوفا من سوط الجلاد. فقد لجأ بعض الكتاب إلى الصوغ الأليغوري سردا وشعرا اتقاء لشر الحاكم إذ أن شر الحاكم وشر معاونيه، هما من كانا موضوع كتابته، ومحبرة قلمه. مثال ذلك كتابات عبد الله بن المقفع :”كليلة ودمنة”، و”الأدب الصغير”، و”الأدب الكبير” و”رسالة في الصحابة”، وهي الرسالة التي كشفت أمره، وفكك رمزها، والمعني بالإشارات فيها فكانت سببا – فيما يروي بعض المؤرخين – في قتله والتمثيل به. أما الشعر: نوع منه على الخصوص، فأعمل استعاراته ومجازاته لتصوير أدواء المجتمع، وأكاذيبه ونفاقه وأقنعته، ضممن قالب إضحاكي ساخر، وضمن باروديا لازالت صورها تلتمع في ليل الظلم والرهبوت.
ولنا أن نذكر “المهرج” أبا دلامة، شاعر السفاح والمنصور والمهدي، و”أبا حكيمة” صاحب “الأيريات”، أو راثي أيره الذي صار إلى ارتخاء وضمور وموت بعد عمر من المجد و”الغزوات الباهرة”، “وأبن الحجاج” الذي قال فيه “الذهبي” : شاعر العصر، وسفيه الأدب وأمير الفحش، كان أمة وحده في نظم القبائح، وخفة الروح”، فإذا نحن حططنا الرحال بالعصر الحديث، عنَّ لنا القليل من هذا النوع الشعري ذي البعد الساخر، والبناء الأليغوري، لظروف المجتمع، ويد التطورات فيه، التي سارت بالشعر والسرد إلى “الجدية”، وإسباغ الصدقية على الأقاويل المختلفة سواء أنبعت من ذات مكلومة مجروحة، أم نبعت من واقع يعج بالأوصاب والأعطاب، ما يفيد بأن التعبير الساخر، البارودي الذي يتخفى وراء المجاز المرسل، والكناية الرمزية، والتورية البديعة، قلَّ، بل واعتبر طارقوه، أدباء من صنف خاص، صنف كتابي طبعا، لكن لا يصل مستوى الكتاب “الجادين”.
غير أن القراءة المنصفة، السابرة لأغوار الأليغوريات العربية في القرن العشرين، وما بعده، تكشف عن جمالها، ولطافة مغازيها، ونجاح بنائها، وإصابة أهدافها وغاياتها، حيث زاوجت بين شعرية المكتوب، وفكاهة المطلوب، و”حقيقة” الواقع المصور الذي غطاه طلاء “الأدب” الكاذب، والصوغ الفني المزور. ومن أبرز خاصيات هذا الضرب من الكتابة، ابتعاده عن الأسلبة المزوقة والمنمقة، والوجوه البلاغية المعتادة في إنتاج الصورة وجنوحه إلى المجاز المرسل، والكناية، إذ هما الوجهان “البلاغيان” الأكثرملاءمة واستجابة للكتابة الأليغورية، والبعد البارودي الساخر فيها. لنقل بوضوح : إن أهم خاصية لهذا الضرب، هي التعبير المداور، التعبير اللامباشر. وقد تألق فيه صلاح عبد الصبور ومحمد الماغوط، وسعدي يوسف والتونسي فتحي النصري، من دون أن نشير إلى شعراء العامية المصريين والمغاربة، وعرب الأقطار الأخرى.
وفي حالة أحمد بلبداوي فإن الأمر يبعث على الدهشة والإعجاب، فهو جمع إلى بهاء الكتابة باليد النابضة، والمداد الحي، فن الشعر السردي، وجمال القص القصائدي حيث السارد رَاءٍ ومرئي، جارح ومجروح، والمجتمع مرآة وقاع، فتنة وقَردية، وشخوص تحكي فيما هي تَضْحَك وتُضْحِك. تضحك من واقع الحال والمآل، وتُضْحِك ربات الحداد البواكيا على رأي المتنبي :
وتعجبني رجلاك في النعل إنني // رأيتك ذا نعل إذا كنت حافيا
ومثلك يؤتي من بلاد بعيدة // ليضحك ربات الحداد البواكيا
لم يحقق شاعر آخر – في ظني- هذه المعادلة الصعبة والبارعة، معادلة الجمع بين الفنين: فن الشعر وفن الكتابة ما خلا بلبداوي، ومن ثم فهو نسيج، وحده، كما هو “شيخ” الشعراء المغاربة محمد السرغيني، حيث الفكاهة والكوميديا السوداء سيدتا الموقف في شعره وشعريته. لكن بلبداوي ينماز باليد كاتبة ومبدعة، باكية وضاحكة، يد تخط وتُحَبِّر، يد تدبر، لها الخطوط الأفقية والعمودية، والحلزونيات واللولبيات والشاقوليات، والهابطات الصاعدات الدائرات، عوالم فنية زخرفية وروحية، ومساكن تتنزلها العين الحاضنة، والوجدان الرؤوم وهو يرتقي أبراجها، ويقيم في سلالمها ومغناطيتها، سحرها وجاذبيتها. إنه الجسد في عنفوانه وحمحمته، وفي تصهاله وشطحه وردحه، يرمز ويشير، يهذي ويهتف ويصوغ القول الجواني ببرانية المدح بما يشبه الذم، والذم بما يشبه المدح. ويعري المشاعر الملفوفة في مناديل “السَّاتان”، والأفكار المحبوسة في “محارم” الورق، ورفوف الفضاءات العطنة : فهو “المخزوق” المخترق ساردا يضحك في قمة ألمه، وشاعرا ينتشي في ذروة دمه وعسله :
-(يوم آخر مر كيعسوب مجروح في ركبته، في حي ّالطلعة” بالقرب من الصبر صاحت بي أرملة : “يا متنبي يا متنبي ماذا ستخط يمينك بعد يُها الـ.. يشويني فيك وفي شغلك، قلت لنفسي لا تنخدعن فأسماء المتنبي أضيق من أن تسع اثنين :
أطاعن مفردا ضرب الزمان مواعيد الأخس وخلق يَخَّانِ
وتساءل هل حقا أوصى سيف الدولة مبعوثيه إلى حاضرة الروم بتحطيم الأرقام إذا الروم تواصوا بكراء الأرحام؟ .)
يأخذك القص من يدك مبتهجا فإذا أنت فجأة في شأن آخر، شأن كنائي عجيب، وتهجين يمد الفصحى بنسغ لذيذ، يشد أزرها، ويتشعبط بلحيتها. وهو التهجين الذي تحسه مندمغا بالحكي، وتراه منصهرا في مادة السرد لا نابٍ ولا قَلِق، مكانه موفور، وسمته مسرور إذ يسري، ويملأ القلب بالضحك، يملؤه بالفكاهة والفاكهة بعد شبع وبَطْر لغويين.
وكما في ديوانه “حتى يورق ظل أظافره” فديوان: “تفاعيل كانت تسهر تحت الخنصر”، يبني فضاءه وعالمه على أسس من مشدات دلالية موجهة، تغمس الجديد اللغوي في التليد اللغوي، أي تضع منسوب العتاقة الجليلة في إناء الكريسطال البهي. وهي المشدات التي نسميها نقديا ب “الجهاز العنواني”، إذ تفتح الشهية على مصراعيها لمساءلة مشرب / مشارب الشاعر ومصادره، وآباره قريبة – بعيدة القعر التي امتاح منها. كما تفتح عنونات أخرى الشهية الفضولية في تعقب العلائق التناصية المتكئة على القرآن الكريم، والمثل الشعبي السائر، والأسطورة ، والتراث الثقافي ماضيا وحاضرا.