أنا “آمن تود”.. ابن الماء، سأقرأ لك ولن أكتب – واكتب أنت كلامي من بعد على مهل – فلا توجد أقلام ولا أوراق ولا حتى هنا “حجر المعسل” للأسف.. بداية “ادع – معي- على من حجب صوتي وحجب القمر عني” وأبلغهم ما في رسالتي إن استطعت يا أيها الذي يبحث عني.
.. قل لهم إبراهيم يود القول:
(ما أغويتهم ولا رجوت، وما اشتهيت سوى ما أردت، اشتهيت قلم رصاص وممحاة أهش بها على بحري من ذباب المدينة، اشتهيت أن أؤنس الحكي بقمري وببحري، فهل ذلك بكثير علىَّ؟ اشتهيت سماء أسرق منها نجمتي وأرحل؟ فهل ذلك كثير على القروي بينكم؟ علمكم آدم الأسماء وعلمت نفسي كيف تشرق الشمس على خصلة بنت أو على رصيف مقهى.. علمكم آدم حيرة التفاحة في المدن، وأنا اخترت القرى و”أولها العشق”، اخترت البنات – رمش الصبايا – نافذة للكتابة.. فهل أخطأت؟ وما الذي اقترفته يا صحاب؟ اخترت ترابا أغزله ثوبا فهل الفرار من العري حرام بينكم؟ علمكم آدم طمع الصيد ولم أستطع السير معكم فهل صيدي محلل لكم؟ واخترت هدير اللغة على حافة “الجرجار” فهل كنت وقحا فيكم؟ اخترت وجه فتاة صبوح، فأتى النهار بلا وجهها ولا تألمت صارخا فهل كتمان الوجع إثم بينكم؟ قال لكم أحد نسله “رأيت أحد عشر كوكبا” ولست فيهم وما اعترضت.. فهل صمتي أباح قتلي بسيوفكم؟).
قل لهم يا من يبحث عني:
(إبراهيم بدأ بالأحبة ومات في المحبة، وصلى ليل نهار في محراب الحرف، ورأى إبراهيم فتاته تجلس والخرس يحاوطها، تستمع لقرآن يتلى على روحه الهاربة من سماء القاهرة بممر “الزهرة”، ورأيت “وشوش” الخلان، وما الخل إلا ضل العاجز، كنت أجلس في طرف المقهى أحرس موتي منكم وأحرسكم منه، كنت أخشى شماتتكم فيَّ وفيه، موتي حاوطت عليه بكل الطرق، دفنته في كفي لحظة البرد، وأسكرته عندما شعر باكتئاب يهجم عليه، أخذته لندوة وأذاقته ألسنة الأحبة وهم يتلون أحلامهم في قصائد وقصص، عرفته على مدير التحرير، وكتمت صوته عندما تأخرت المكافأة.. موتي يا من تبحث عني فيه كان سري وكنت سره، نذهب سويا لبهتيم ولجرجس ولا يلمحه غيري، وكم من المرات شكرني على إخفائه منهم، كنت آخذه ليرى حبيبتي التي لا أعرف اسمها إلا منهم وكنت.. وكنت.. وما زال معي هنا ينبش في أيامنا الخوالي معا، فأسمعه وأنا أضحك بصوت عالٍ علَّ أختي تصحو وتضحك معنا.. موتي كان مثلي يشعر بوخزة وجع أينما حل، وكلانا احتمى بالآخر من القاهرة، كلانا حن للخطى الأولى، أيام كان للخطوة فرحة، وللولد فرحة، وكلانا آمن بكعكة أمل دنقل وكلانا آمن بيحيى الطاهر، وكلانا سئم من غلاء الأسعار بـ”ريش”.. أنا وموتي رأينا قمر الجنوب “يا ولد” في بهتيم ولم نره في القاهرة سوى على نهود البنات عابرات السبيل).
.. يا من تبحث عني.. هل رأيت ذا الوجه الجميل يحيى الطاهر؟
لا لن تراه.. فقل لهم وله إن رأيته:
(إبراهيم سكر من الحرف، وأسكر الحرف معه، إبراهيم لم يشأ أن يرحل دون وجه زينب ولكنها الأيام يا ولد، الأيام الغادرة فقط هي من منعتني يا زينب والله، يا زينب أنا وأنتِ وحبيبتي أرقام عند بائع المواليد، فهل ردوا إلينا بضاعتنا، فلا اشتروا منا ولا بعنا لهم؟ إبراهيم يا زينب وضع النيل في جيبه ورحل، وبوصولي يا زينب “المحروسة” “انخرم” الجيب وسقط النيل سهوا، فأعدت كتابته علَّني ألقاه مجددا بشارع ما من شوارعها اللئيمة.. النيل يا زينب بحر، والنهار بحر، والحلم بحر، والبنات بحر، والجنون بحر، وحز الجرح في النفس بحر، والبحر يا زينب – كما قلت “يسكر الفقير من البحر بعد جوع.. ويسكر حينما يعشق بعد حرمان” – سكرة “الفقران”، إبراهيم قال.. يا زينب.. ولم يقل أشياء أخرى فهل تسامحي إبراهيم يا زينب؟ هل يا زينب الوجع بهجة؟ وهل يا زينب الرحيل سكة أم أنه خطوة في السكة الخطأ، أخطأت يا زينب وما أخطأ الحرف، عشقت يا زينب وما بخل الحرف، شاءت الأقدار وجفت الأقلام يا زينب، وما باليد حيلة غير طلب السماح يا زينب).
انتهت رسالتي يا من تبحث عني، وتذكر أن تبلغها لهم في مشارق البلاد ومغاربها وإن تعبت من اللف استرح واقرأ في “العشق أوله القرى” علك تجد “القمر بوبا” في “رمش الصبايا” عند “بحر النيل”.
سلاما لك من هنا حيث لا توجد أقلام أو أوراق.. و”ادع على من حجب صوتي وحجب القمر عني”.
الإمضاء/ إبراهيم فهمي.
…………………..
* الرسالة كتبها الروائي المبدع أسامة حبشي.. تلبّس فيها شخصية الراحل إبراهيم فهمي.. غاص في فقه كتابته، أسلوبًا ولغةً، ومن ثم جاءت الرسالة، في رأيي، تحفة أدبية.
** وإبراهيم فهمي كاتب نوبي اختطفه الموت مبكرًا.. وكان يعيش في القاهرة جسدًا لكن روحه لم تترك أبدًا بلاده في أقصى جنوب مصر.. وقلبه ظل مسكونًا بنوبيته، وفي رأيي أنه أفضل من كتب عن النوبة حتى الآن، وربما يستمر ذلك مستقبلاً.
*** والأمر المؤسف أننا لم نعثر على صورة شخصية للكاتب الراحل سوى هذه الصورة الضعيفة على مستوى الجودة.. لكن لا نستطيع غير أن نقول: رحمك الله يا إبراهيم، وحيَاك الله يا أسامة..
(كَ تَ بَ).
.. قل لهم إبراهيم يود القول:
(ما أغويتهم ولا رجوت، وما اشتهيت سوى ما أردت، اشتهيت قلم رصاص وممحاة أهش بها على بحري من ذباب المدينة، اشتهيت أن أؤنس الحكي بقمري وببحري، فهل ذلك بكثير علىَّ؟ اشتهيت سماء أسرق منها نجمتي وأرحل؟ فهل ذلك كثير على القروي بينكم؟ علمكم آدم الأسماء وعلمت نفسي كيف تشرق الشمس على خصلة بنت أو على رصيف مقهى.. علمكم آدم حيرة التفاحة في المدن، وأنا اخترت القرى و”أولها العشق”، اخترت البنات – رمش الصبايا – نافذة للكتابة.. فهل أخطأت؟ وما الذي اقترفته يا صحاب؟ اخترت ترابا أغزله ثوبا فهل الفرار من العري حرام بينكم؟ علمكم آدم طمع الصيد ولم أستطع السير معكم فهل صيدي محلل لكم؟ واخترت هدير اللغة على حافة “الجرجار” فهل كنت وقحا فيكم؟ اخترت وجه فتاة صبوح، فأتى النهار بلا وجهها ولا تألمت صارخا فهل كتمان الوجع إثم بينكم؟ قال لكم أحد نسله “رأيت أحد عشر كوكبا” ولست فيهم وما اعترضت.. فهل صمتي أباح قتلي بسيوفكم؟).
قل لهم يا من يبحث عني:
(إبراهيم بدأ بالأحبة ومات في المحبة، وصلى ليل نهار في محراب الحرف، ورأى إبراهيم فتاته تجلس والخرس يحاوطها، تستمع لقرآن يتلى على روحه الهاربة من سماء القاهرة بممر “الزهرة”، ورأيت “وشوش” الخلان، وما الخل إلا ضل العاجز، كنت أجلس في طرف المقهى أحرس موتي منكم وأحرسكم منه، كنت أخشى شماتتكم فيَّ وفيه، موتي حاوطت عليه بكل الطرق، دفنته في كفي لحظة البرد، وأسكرته عندما شعر باكتئاب يهجم عليه، أخذته لندوة وأذاقته ألسنة الأحبة وهم يتلون أحلامهم في قصائد وقصص، عرفته على مدير التحرير، وكتمت صوته عندما تأخرت المكافأة.. موتي يا من تبحث عني فيه كان سري وكنت سره، نذهب سويا لبهتيم ولجرجس ولا يلمحه غيري، وكم من المرات شكرني على إخفائه منهم، كنت آخذه ليرى حبيبتي التي لا أعرف اسمها إلا منهم وكنت.. وكنت.. وما زال معي هنا ينبش في أيامنا الخوالي معا، فأسمعه وأنا أضحك بصوت عالٍ علَّ أختي تصحو وتضحك معنا.. موتي كان مثلي يشعر بوخزة وجع أينما حل، وكلانا احتمى بالآخر من القاهرة، كلانا حن للخطى الأولى، أيام كان للخطوة فرحة، وللولد فرحة، وكلانا آمن بكعكة أمل دنقل وكلانا آمن بيحيى الطاهر، وكلانا سئم من غلاء الأسعار بـ”ريش”.. أنا وموتي رأينا قمر الجنوب “يا ولد” في بهتيم ولم نره في القاهرة سوى على نهود البنات عابرات السبيل).
.. يا من تبحث عني.. هل رأيت ذا الوجه الجميل يحيى الطاهر؟
لا لن تراه.. فقل لهم وله إن رأيته:
(إبراهيم سكر من الحرف، وأسكر الحرف معه، إبراهيم لم يشأ أن يرحل دون وجه زينب ولكنها الأيام يا ولد، الأيام الغادرة فقط هي من منعتني يا زينب والله، يا زينب أنا وأنتِ وحبيبتي أرقام عند بائع المواليد، فهل ردوا إلينا بضاعتنا، فلا اشتروا منا ولا بعنا لهم؟ إبراهيم يا زينب وضع النيل في جيبه ورحل، وبوصولي يا زينب “المحروسة” “انخرم” الجيب وسقط النيل سهوا، فأعدت كتابته علَّني ألقاه مجددا بشارع ما من شوارعها اللئيمة.. النيل يا زينب بحر، والنهار بحر، والحلم بحر، والبنات بحر، والجنون بحر، وحز الجرح في النفس بحر، والبحر يا زينب – كما قلت “يسكر الفقير من البحر بعد جوع.. ويسكر حينما يعشق بعد حرمان” – سكرة “الفقران”، إبراهيم قال.. يا زينب.. ولم يقل أشياء أخرى فهل تسامحي إبراهيم يا زينب؟ هل يا زينب الوجع بهجة؟ وهل يا زينب الرحيل سكة أم أنه خطوة في السكة الخطأ، أخطأت يا زينب وما أخطأ الحرف، عشقت يا زينب وما بخل الحرف، شاءت الأقدار وجفت الأقلام يا زينب، وما باليد حيلة غير طلب السماح يا زينب).
انتهت رسالتي يا من تبحث عني، وتذكر أن تبلغها لهم في مشارق البلاد ومغاربها وإن تعبت من اللف استرح واقرأ في “العشق أوله القرى” علك تجد “القمر بوبا” في “رمش الصبايا” عند “بحر النيل”.
سلاما لك من هنا حيث لا توجد أقلام أو أوراق.. و”ادع على من حجب صوتي وحجب القمر عني”.
الإمضاء/ إبراهيم فهمي.
…………………..
* الرسالة كتبها الروائي المبدع أسامة حبشي.. تلبّس فيها شخصية الراحل إبراهيم فهمي.. غاص في فقه كتابته، أسلوبًا ولغةً، ومن ثم جاءت الرسالة، في رأيي، تحفة أدبية.
** وإبراهيم فهمي كاتب نوبي اختطفه الموت مبكرًا.. وكان يعيش في القاهرة جسدًا لكن روحه لم تترك أبدًا بلاده في أقصى جنوب مصر.. وقلبه ظل مسكونًا بنوبيته، وفي رأيي أنه أفضل من كتب عن النوبة حتى الآن، وربما يستمر ذلك مستقبلاً.
*** والأمر المؤسف أننا لم نعثر على صورة شخصية للكاتب الراحل سوى هذه الصورة الضعيفة على مستوى الجودة.. لكن لا نستطيع غير أن نقول: رحمك الله يا إبراهيم، وحيَاك الله يا أسامة..
(كَ تَ بَ).