في مصر تسعمائة وتسعون في كل ألف لا يقرأون، وتسعة من العشرة الباقية ينتفون الأخبار من الصحف اليومية، ويقطفون النكت من المجلات الخفيفة؛ وواحد هو الذي يقرأ الكتاب المثقِّف ويطالع المجلة المهذِّبة؛ وهذا الواحد الأحد يدركه في أكثر العام فتور الطبع أو عدوى البيئة أو فوضى النظام فيعاف الكتاب، ويجتوي الصحيفة، ثم يقعد في مشارب القهوة يتقمع، أو يسير في مجالي الطبيعة يتأمل، أو يضطجع في مراقد السكينة يستجم. ذلك تقدير مقارب نتهجم به على (مصلحة الإحصاء) وفي يدينا استقراء متتبع لا يتهيأ لغير من قضى أكثر العمر في التعليم والتأليف والصحافة. وتقدير المؤلفين والكتاب في هذا الباب هو الكاشف الحق عن مكان الأمة من التربية القويمة والثقافة السليمة والرقي الصحيح. أما قياس درجة الرقي على نسبة القارئين بالقوة لا بالفعل، فذلك عمل كل ما يدل عليه أنه خانة في سجل التعداد - ماذا يردّ على العقلية المصرية إذا بلغ (فكاكو الخط) فينا مائة في المائة مادام فك الخط لا يطلق عقلا أسيرا ولا يجلو بصرا حسيرا ولا يذكي قريحة كابية؟ أوافق مصلحة الإحصاء على أن في الخمسة عشر مليون نفس أكثر من مليوني قارئ، وأن في هذين المليونين ألوفا من ذوي الشهادات المدرسية والدرجات الجامعية يستطيعون أن يكشفوا للعقل آفاق المعرفة، وينهجوا للنفس طرائق الكمال؛ ولكنك إذا وازنت بين عدد المتعلمين وعدد ما يطبع من الكتاب وما يوزع من الصحيفة خامرك الشك في إحصاء المصلحة، أو في تعليم المدرسة، أو في عقلك أنت! ينتشر في العام كله بضعة من الكتب يتراوح ما يطبع من كل واحد منها بين الألف والثلاثة، ثم تساق إلى قراءته بالطبل والزمر مصر جمعاء وفي معونتها العالم العربي أجمع، ومع ذلك لا تنفد طبعته المباركة بعد الأغراء بالإعلان والإهداء قبل خمس سنين!
أليس معنى ذلك أن هذا الشعب أمي وإن عرف حروف الهجاء، وعامي وإن تلقب بألقاب العلماء؟ تتبع الطالب من يوم دخوله روضة الأطفال إلى يوم خروجه من الجامعة؛ فهل تراه يقرأ - إن قرأ - إلا كتب المدرسة أو ملخصات المعلم أو فكاهات الصحف؟ إنك تراه ساعة الدرس وأذنه إلى فم الأستاذ، ويده على القلم، وعينه في الدفتر، يختصر ما اختصر، ويقتصر على ما أقتصر؛ وتراه ساعة الفراغ يحاول أن ينقشه بالتكرار على صفحة ذهنه، فيصدع رأسه بترديد ما لا يفهمه، ويغثي نفسه بإساغة ما لا يهضمه، حتى إذا خرج م المدرسة خرج مكروباً لا يتقار من الكلال والسأم، فينفس عن صدره بالفكاهة الرخيصة أو القراءة السهلة ? فإذا نال الشهادة بالحفظ تبعه هذا النفور إلى منصبه إذا كان عبد الوظيفة، أو إلى مكتبه إن كان حر العمل، فيكره الأدب لأنه يتذكر درس (المحفوظات)، ويعاف القراءة لأنه لم ينس درس (المطالعة)؛ وعمله وأمله لا يقتضيانه التعمق ولا المزيد، فيعود كما بدأه الله أمياً يعمل بالإرشاد، وفطرياً يهتدي بالغريزة. والمعلم الذي يخرّج التلميذ اليوم، كان هذا التلميذ نفسه بالأمس: أرسل إليّ مدرس في كلية الآداب كتاباً يسألني فيه أن أقطع عنه (الرسالة) لأنه لا يجد وقتا لقراءتها، وهو لا يلقاك إلا حدثك بما قالته المجلة الفلانية عن الفتاة فلانة، وما تهزأت به المجلة الأخرى من الأستاذ فلان؛ ثم سأله أحد طلابه ذات يوم عن (واسط) فقال له: أحسبها مكاناً في طريق القصير ? قرأت هذا الكتاب فعذرت وكيل المعرض الزراعي الصناعي وقد دخل عليه مندوب الرسالة يطلب إليه (تصريحاً صحفياً) بدخول المعرض، فقال له وإمارات التعجب الساخر تتخايل على جبينه العريض: ولكني لم أر هذه (الرسالة) قط! فلم يجبه مندوبنا وإنما أجابه حاجبه هو بقوله: لا، يا بك! هذه مجلة صفتها كيت وكيت؛ وأنا وابنتي نقرأها كل أسبوع، ونجلدها كل سنة ? سمعت هذا الخبر فعذرت ذلك الباشا القاروني الذي أهديت إليه الرسالة لصلة بين أخي وبينه، فردها علي وقد كتب على غلافها الأبيض بالقلم الغليظ: (مرفود) فوقع في نفسي أن الباشا يتشبه بالملوك والخلفاء، في رفد المعوزين من الأدباء والشعراء، فهممت أن أكتب إليه أشكره وأستعفيه لولا أن نبهني صديق أوتي منطق الناس أن (مرفود) معناها (مرفوض) ولا أريد الترسل في هذا الحديث، ففي ذاكرة كل صحافي من بابه طرائف وأعاجيب
الحق أننا لا نزال أمة أمية ننظر إلى الكتاب نظر المتعظم الخائف، أو المتقنع العازف؛ ومادمنا لا نرى الكتاب ضرورة للروح، كما نرى الرغيف ضرورة للبدن، فنحن مع الخليقة الدنيا على هامش العيش أو على سطح الوجود
تتطور المذاهب والآراء، كما تتطور الحلي والأزياء؛ فإذا لم تتقصّ بالقراءة المتجددة أخبار هذا التطور في أطراف الأرض عشت في عصرك غريب العقل أجنبي الشعور وحشي الثقافة، كالذي يلبس في الناس زيا مضى بدل زي حضر
إن من وظائف المدرسة أن تعودك القراءة وتعلمك كيف تقرأ، وإن من وظائفك أن تقرأ وأن تعرف ماذا؛ فإذا لم تفعل هي فقد قصرت عن رسالة، وإن لم تفعل أنت فقد فرطت في واجب
ليت الذين يطلبون من الأدباء أن ينتجوا ويجيدوا الإنتاج، يطلبون من القراء أن يقرءوا ويحسنوا القراءة. فلو كنا نقرأ لخلقنا الكاتب والكتاب ولو كنا نقرأ لأخصبنا حقول المعرفة فأزهرت في كل مكان وأثمرت في كل نفس؛ ولو كنا نقرأ لما كان بيننا هذا التفاوت الغريب الذي تتذبذب فيه الأفكار بين عقلية بدائية وعقلية نهائية؛ ولو كان العالم العربي يقرأ لنشر من الكتاب زهاء مائة الألف، ووزع من الصحيفة قرابة المليون؛ وإذن تستطيع أنت أن تتصور كيف تزهر الثقافة وتنتشر الصحافة ويتنوع الأدب ويرقى الأديب!
مجلة الرسالة - العدد 188
بتاريخ: 08 - 02 - 1937
أليس معنى ذلك أن هذا الشعب أمي وإن عرف حروف الهجاء، وعامي وإن تلقب بألقاب العلماء؟ تتبع الطالب من يوم دخوله روضة الأطفال إلى يوم خروجه من الجامعة؛ فهل تراه يقرأ - إن قرأ - إلا كتب المدرسة أو ملخصات المعلم أو فكاهات الصحف؟ إنك تراه ساعة الدرس وأذنه إلى فم الأستاذ، ويده على القلم، وعينه في الدفتر، يختصر ما اختصر، ويقتصر على ما أقتصر؛ وتراه ساعة الفراغ يحاول أن ينقشه بالتكرار على صفحة ذهنه، فيصدع رأسه بترديد ما لا يفهمه، ويغثي نفسه بإساغة ما لا يهضمه، حتى إذا خرج م المدرسة خرج مكروباً لا يتقار من الكلال والسأم، فينفس عن صدره بالفكاهة الرخيصة أو القراءة السهلة ? فإذا نال الشهادة بالحفظ تبعه هذا النفور إلى منصبه إذا كان عبد الوظيفة، أو إلى مكتبه إن كان حر العمل، فيكره الأدب لأنه يتذكر درس (المحفوظات)، ويعاف القراءة لأنه لم ينس درس (المطالعة)؛ وعمله وأمله لا يقتضيانه التعمق ولا المزيد، فيعود كما بدأه الله أمياً يعمل بالإرشاد، وفطرياً يهتدي بالغريزة. والمعلم الذي يخرّج التلميذ اليوم، كان هذا التلميذ نفسه بالأمس: أرسل إليّ مدرس في كلية الآداب كتاباً يسألني فيه أن أقطع عنه (الرسالة) لأنه لا يجد وقتا لقراءتها، وهو لا يلقاك إلا حدثك بما قالته المجلة الفلانية عن الفتاة فلانة، وما تهزأت به المجلة الأخرى من الأستاذ فلان؛ ثم سأله أحد طلابه ذات يوم عن (واسط) فقال له: أحسبها مكاناً في طريق القصير ? قرأت هذا الكتاب فعذرت وكيل المعرض الزراعي الصناعي وقد دخل عليه مندوب الرسالة يطلب إليه (تصريحاً صحفياً) بدخول المعرض، فقال له وإمارات التعجب الساخر تتخايل على جبينه العريض: ولكني لم أر هذه (الرسالة) قط! فلم يجبه مندوبنا وإنما أجابه حاجبه هو بقوله: لا، يا بك! هذه مجلة صفتها كيت وكيت؛ وأنا وابنتي نقرأها كل أسبوع، ونجلدها كل سنة ? سمعت هذا الخبر فعذرت ذلك الباشا القاروني الذي أهديت إليه الرسالة لصلة بين أخي وبينه، فردها علي وقد كتب على غلافها الأبيض بالقلم الغليظ: (مرفود) فوقع في نفسي أن الباشا يتشبه بالملوك والخلفاء، في رفد المعوزين من الأدباء والشعراء، فهممت أن أكتب إليه أشكره وأستعفيه لولا أن نبهني صديق أوتي منطق الناس أن (مرفود) معناها (مرفوض) ولا أريد الترسل في هذا الحديث، ففي ذاكرة كل صحافي من بابه طرائف وأعاجيب
الحق أننا لا نزال أمة أمية ننظر إلى الكتاب نظر المتعظم الخائف، أو المتقنع العازف؛ ومادمنا لا نرى الكتاب ضرورة للروح، كما نرى الرغيف ضرورة للبدن، فنحن مع الخليقة الدنيا على هامش العيش أو على سطح الوجود
تتطور المذاهب والآراء، كما تتطور الحلي والأزياء؛ فإذا لم تتقصّ بالقراءة المتجددة أخبار هذا التطور في أطراف الأرض عشت في عصرك غريب العقل أجنبي الشعور وحشي الثقافة، كالذي يلبس في الناس زيا مضى بدل زي حضر
إن من وظائف المدرسة أن تعودك القراءة وتعلمك كيف تقرأ، وإن من وظائفك أن تقرأ وأن تعرف ماذا؛ فإذا لم تفعل هي فقد قصرت عن رسالة، وإن لم تفعل أنت فقد فرطت في واجب
ليت الذين يطلبون من الأدباء أن ينتجوا ويجيدوا الإنتاج، يطلبون من القراء أن يقرءوا ويحسنوا القراءة. فلو كنا نقرأ لخلقنا الكاتب والكتاب ولو كنا نقرأ لأخصبنا حقول المعرفة فأزهرت في كل مكان وأثمرت في كل نفس؛ ولو كنا نقرأ لما كان بيننا هذا التفاوت الغريب الذي تتذبذب فيه الأفكار بين عقلية بدائية وعقلية نهائية؛ ولو كان العالم العربي يقرأ لنشر من الكتاب زهاء مائة الألف، ووزع من الصحيفة قرابة المليون؛ وإذن تستطيع أنت أن تتصور كيف تزهر الثقافة وتنتشر الصحافة ويتنوع الأدب ويرقى الأديب!
مجلة الرسالة - العدد 188
بتاريخ: 08 - 02 - 1937