كان شارع ريتشموند نورث معتمًا، يلفه السكون فيما عدا تلك الساعة التي يتحرر فيها التلاميذ من مدرسة الأخوة المسيحيون[1] . في النهاية المظلمة من الشارع يقبع منزل غير مأهول، يتكون من طابقين منفصلًا عن جيرانه يشغل أرضية مربعة. فيما تحدق منازل الشارع الأخرى ببعضها بواجهات سمراء لا تشوبها شائبة وكأنها تعي الحياة الكريمة لساكنيها.
كان مستأجر المنزل قبلنا قسيسًا، توفي في غرفة الاستقبال الخلفية. ملأت رائحة العفن الهواء في كل الغرف من طول انحباسه فيها. وفي غرفة النفايات الواقعة خلف المطبخ أوراق مبعثرة قديمة عديمة الفائدة. وجدتُ فيما بينها بعض الكتب المغلفة بالورق، صفحاتها مجعدة مشبعة بالرطوبة. رواية رئيس الدير لمؤلفها والتر سكوت [2]، والمبلِّغ الأمين[3] ومذكرات فيدوك[4]. وفضلتُ هذا الأخير بسبب صفرة أوراقه.
تتوسط الحديقة الواسعة خلف المنزل شجرة تفاح وبعض الشجيرات المتفرقة حيث عثرت أسفل إحداها على مضخة هواء صدئة لدراجة المستأجر السابق. كان قسيسًا مُحسنًا قد تبرع في وصيته بكل أمواله للمؤسسات الخيرية وترك أثاث منزله لأخته.
عندما تحل أيام الشتاء القصيرة، يقبل الغسق قبل أن ننهي تناول وجبة العشاء. عندما نلتقي في الشارع، تبدو المنازل مُسودة كئيبة. السماء فوقنا تكتسي لون البنفسج المتغير، وفي اتجاهها ترفع قناديل الشارع أضواءها الضعيفة. تلسعنا لفحات الهواء البارد، كنا نلعب حتى تتوهج أجسادنا وصدى صيحاتنا يرتد في الشارع الساكن. تقتضي اللعبة أن نسلك الأزقة الموحلة المظلمة خلف المنازل حيث كنا نركض بين صفين من الصبية، من الدكة الصلبة للأكواخ إلى الأبواب الخلفية للحدائق المبتلة حيث تنبعث الروائح من بقايا الرماد المحترق، مرورًا بالإسطبل الذي ينشغل فيه الحوذي بتمشيط شعر حصان، أو بإصدارموسيقى من الألجمة الملتوية.
عندما نعود إلى الشارع نرى الأضواء قد اخترقت نوافذ المطابخ لتعم المكان. وإذا ما رأينا عمي عائدًا، يعبر الزقاق نختبأ في الظل حتى يدخل المنزل بأمان. وإذا ما خرجت أخت مانغان إلى عتبة الباب لتدعو أخاها إلى الدخول لشرب الشاي، نراقبها من مخبأنا وهي تجول ببصرها في الشارع من أقصى يمينه إلى يساره. ننتظر لنرى إذا ما كانت ستبقى أو ستدخل؛ وإذا بقيت نغادر أماكننا ونتوجه تلقاءها بإذعان. كانت تقف في انتظارنا؛ يحدد الضوء المنبعث من الباب الموارب هيئتها. يشاكسها أخوها قبل أن يطيعها وأنا أقف إلى جانب سور السلم أتاملها. يتراقص فستانها كلما حرّكت جسدها، ويتهادى الشريط الرقيق حول شعرها من جانب إلى آخر.
أستلقي كل صباح على الأرض في الردهة الأمامية لمنزلنا أراقب بابها من بابنا ذي الستار المنسدل لأسفل فيما عدا مسافة بوصة بحيث لا يراني أحد. عندما تخرج من الباب يقفز قلبي. أركض إلى الصالة، أجمع كتبي وأتبعها. وأحرص ألا يغيب قوامها الأسمر عن مرمى بصري، وعندما نقترب من النقطة التي تفترق فيها طرقنا، أحث الخطى لأتجاوزها. يحدث هذا صباحًا بعد آخر. لم يسبق أن تحدثت إليها مطلقًا، باستثناء بضع كلمات عابرة، ومع ذلك كان اسمها كمذكرة استدعاء لكل دمي، وطيفها يصحبني حتى في أكثر الأماكن مناقضة للرومانسية. عندما تذهب عمتي للتسوق في أمسيات السبت أضطر لمرافقتها لحمل بعض الأكياس عنها. نشق طريقنا في الشوارع المحتدمة التي يزاحمنا فيها الرجال الثملون والنساء المساومات، وسط لعنات الكادحين والصيحات الصاخبة لصبية المتاجر الذين يقفون متأهبين للحراسة بجوار براميل خدود الخنازير[5]، وهتافات مطربي الشوارع الخارجة من أنوفهم، وهم يغنون الأغنية الشعبية "تعالوا جميعكم"[6] عن "أو دونوفان روسا" أو يترنمون بقصيدة شعبية عن الصعاب في الوطن. كل هذا الضجيج التقى عندي بحس مفرد بالحياة؛ تخيلت أنني حملت نخب النصر منتشيًا وسط حشد من الأعداء.
يقفز اسمها على شفتي في لحظات من الابتهالات والتسابيح الغريبة التي أعجز -أنا نفسي- عن فهمها. يترقرق الدمع في عيني- دون أن أعرف السبب- وأحيانًا يفيض من قلبي سيل ويصب في صدري. قليلا ما أفكر بالمستقبل. لا أعرف إن كنت سأتحدث إليها يومًا، وإذا فعلت كيف سأخبرها عن ولهي المحيّر. جسدي لها كقيثارة وكلماتها وإماءاتها بمثابة أنامل تعزف على أوتاري.
ذات ليلة مظلمة ماطرة ذهبت إلى غرفة الاستقبال الخلفية التي مات فيها القسيس. لم يكن في البيت صوت. سمعتُ عبر لوح الفسيفساء المكسور وقع المطر المرتطم بالأرض، كوقع متواصل لإبر رقيقة من الماء تداعب الأصص المخضلة. أضيء مصباح بعيد أسفل مني عبر نافذة مضاءة، كنت ممتنا للقليل الذي رأيته. بدا أن حواسي كلها تتوق لإخفاء نفسها، وشعرتُ بأن مشاعري على وشك التملص مني، قبضتُ يديَّ معًا بشدة حتى ارتعشتا وأنا أغمغم مرارًا وتكرارًا: يا للحب! يا للحب!
وأخيرًا تكلمت معي. عندما نطقت أولى كلماتها لي، ارتبكت ولم أعرف بماذا أجيب.
سألتني عما إذا كنتُ سأذهب إلى سوق عربي.
ونسيتُ ما إذا كنتُ قد أجبت إيجابًا أو نفيًا. قالت سيكون معرضا رائعًا وهي تتمنى أن تزوره.
سألتها: ما الذي يمنعكِ من الذهاب؟
أثناء حديثها كانت تدير سوارًا فضيًا حول معصمها باستمرار.
قالت إنها لا تستطيع الذهاب لأنه يتوجب عليها هذا الأسبوع أن تعتكف في الدير.
حين كان أخوها وصبيان آخران يتعاركون حول قبعاتهم، كنت أقف على السلم وحدي.
أمسكتْ بإحدى المقابض ومالت برأسها نحوي. سطع الضوء المنبثق من المصباح المقابل للباب على منحنى رقبتها وأضاء شعرها المستقر هناك، ثم انعكس مضيئًا يدها الممسكة بالسور.
سقط الضوء على جانب من فستانها وبالكاد أظهر طرفا من ثوبها الداخلي الأبيض، الذي ما كان ليُرى لو لم تكن في وضعية الاسترخاء تلك.
قالت: من حسن حظك أن تذهب.
قلتُ: إن ذهبت سأحضر لكِ شيئًا.
كم من الحماقات التي لا تعد ولا تحصى أهدرت أفكاري ويقظتي ومنامي بعد تلك الليلة.
تمنيتُ أن أطوي الأيام المقبلة والمملة طيّا حتى يوم المعرض. نفرت من الفروض المدرسية، كانت صورتها تحول بيني وبين الصفحة التي أحاول جاهدًا أن أقرأ ليلًا في غرفتي أو نهارًا في فصلي. كانت حروف لفظ عربي تستحوذ عليّ عبر أسوار الصمت الذي تسبح فيه روحي وتلقي علي تعويذة سحر شرقي.
طلبتُ إجازة للذهاب إلى السوق ليلة السبت. أصابت عمتي الدهشة وتمنت ألا يكون للأمر علاقة بالماسونية. في الفصل أجبت عن بعض الأسئلة وأنا أتأمل وجه المعلم يتحوّل من اللطف إلى الصرامة؛ كان يرجو ألا أكون قد بدأت في التكاسل. لم أستطع جمع أفكاري الهائمة معًا. نادرًا ما أتحلى بالصبر تجاه الأعمال الجادة في الحياة التي تحول بيني وبين رغباتي، والتي تبدو لي كلعبة أطفال… لعبة أطفال رتيبة وكريهة.
في صباح يوم السبت ذكّرتُ عمي برغبتي في الذهاب إلى السوق في المساء. كان مزاجه معكرًا يبحث في خزانة الممر عن فرشاة تنظيف القبعات، أجابني باقتضاب: نعم يا ولدي أعرف.
وبوجوده في الردهة لم أستطع الذهاب إلى الردهة الأمامية لاختلاس النظر من النافذة. غادرتُ المنزل في مزاج سيئ ومشيت بتؤدة إلى المدرسة. كان الهواء صلفًا بلا هوادة، وقلبي تتنازعه الظنون. عندما عدت إلى المنزل لتناول العشاء، لم يكن عمي قد عاد بعد. ولكن الوقت ما زال مبكرًا جلست أحدق في الساعة لبعض الوقت، وعندما بدأت تكتكة الساعة تزعجني، تركت الغرفة. رقيت السلالم متجها إلى الطابق العلوي حيث حررتني الغرف العلوية الخاوية والباردة والمعتمة من ضيقي ومشيتُ أغني من غرفة إلى أخرى.
من النافذة الأمامية رأيت رفاقي يلعبون في الشارع. كانت صرخاتهم تصلني واهية يصعب تمييزها، لامس جبيني الزجاج البارد وأنا أنظر إلى المنزل المظلم حيث تعيش. ربما وقفت في مكاني لمدة ساعة بدون أن أرى شيئًا يُذكر باستثناء صورة في خيالي لذاك الجسد المكسو بالسمرة، الذي لامسه النور بحذر عند منحنى عنقها، وانعكس على اليد القابضة على السور وذلك الثوب الأبيض دون فستانها.
عندما نزلتُ إلى الطابق السفلي، وجدت السيدة ميرسر تجلس إلى جوار المدفأة. وهي أرملة سمسار وعجوز ثرثار تقوم بجمع الطوابع المستعملة لأغراض دينية. وكان عليّ تحمّل ثرثرتها أثناء تناولنا الشاي. وامتدت الوجبة لما يزيد عن الساعة ولم يحضر عمي بعد. وقفت السيدة ميرسر تهم بالذهاب معتذرة لأنها لا تستطيع الانتظار أكثر، فالوقت تجاوز الثامنة وليس من عادتها أن تظل في الخارج حتى وقت متأخر إذ إنها لا تقوى على برد الليل. عندما ذهبتْ أخذتُ أذرع الغرفة جيئة وذهابا، بقبضتين مشدودتين.
قالت عمتي: لعل من الأفضل أن تؤجل ذهابك إلى المعرض هذه الليلة.
عند الساعة التاسعة سمعت جلبة مفتاح عمي يدار في قفل الباب في الردهة. سمعت همهماته وصوت ارتجاج الحامل تحت وطأة معطفه الثقيل. كان بإمكاني تأويل هذه العلامات. لقد نسي.
وعندما كان يتناول عشاءه، طلبت منه أن يعطيني المال لأذهب إلى السوق.
قال: قد استغرق الناس في النوم الآن.
لم أبتسم، ردت عمتي بحزم: لِم لا تعطه المال وتدعه يذهب؟ ألا يكفي أنك أخّرته حتى هذه الساعة. قال عمي إنه آسف جدًا لأنه نسي. وإنه يؤمن بالقول المأثور "العمل بلا راحة يورث البلادة"[7].
سألني أين أود الذهاب. أخبرته للمرة الثانية، فسألني إن كنتُ أعرف قصيدة "فراق العربي لجواده"[8] . عندما غادرت المطبخ كان قد شرع في إلقاء مطلع القصيدة لعمتي.
شددتُ قبضتي على قطعة الفلورين[9] في يدي وأنا أنزل شارع بكينغهام متوجهًا إلى المحطة.
ذكرني منظر الشوارع المتوهجة بفعل الغاز والمكتظة بالمشترين بالهدف من خروجي. تبوأت لي مقعدًا في عربة قطار من الدرجة الثالثة. بعد تأخير مضنٍ، تحرك القطار المعدم مغادرًا المحطة ببطء. كان يزحف للأمام بين المنازل المتصدعة وفوق النهر المتلألئ.
في محطة ويستلاندرو تدافع حشد من الناس على أبواب العربات. لكن العاملين أرجعوهم للخلف قائلين أن القطار مخصص لزوار المعرض فقط. بقيت وحدي في العربة الخاوية. وبعد بضع دقائق توقف القطار بجانب منصة خشبية نُصبت حديثًا. مررت مجتازًا الطريق ورأيت الساعة المضاءة تشير إلى التاسعة وخمسين دقيقة. كان المبنى الضخم أمامي يحمل لافتة عرض مكتوب عليها ذلك الاسم السحري.
لم أجد مدخلًا لفئة الست بنسات، ولخشيتي أن يغلق المعرض أبوابه دخلت مسرعًا من خلال الباب الدوار وناولت شلنًا للرجل المنهك.
وجدتني في قاعة كبيرة مطوقة حتى منتصفها بأكشاك المعرض. كان معظمها مغلقًا وساد الظلام الجزء الأكبر من القاعة. بدا لي هذا الصمت شبيهًا بالصمت الذي يعم الكنيسة بعد الصلاة. مشيت إلى وسط السوق مشية محرج إلى حيث تجمع عدد قليل من الزوار حول الأكشاك التي لا تزال مفتوحة. أمام ستارة مكتوب أعلاها بأحرف مضيئة "مقهى شانتان" وقف رجلان يحسبان القطع النقدية التي كانت تصدر رنة إثر ارتطامها بالطبق.
عندئذ تذكرت بصعوبة سبب مجيئي ومضيت إلى أحد الأكشاك متفحصًا المزهريات الخزفية وأطقم الشاي المزهرة. عند باب الكشك كانت تقف امرأة شابة تتحدث وتضحك مع اثنين من الرجال. ميزت لهجتهم الإنجليزية وأصختُ إلى كلامهم على نحو عابر.
- آ…. لم أقل شيئًا كهذا مطلقٌا.
- آه… بلى قد قلتِ.
- أوه، لا لم أفعل.
- ألم تقل هي ذلك؟
- أجل لقد سمعتها.
- أنت تكذب...
حالما لمحتني الشابة، تقدمت نحوي وسألتني عما أود شراءه. كانت نبرة صوتها غير مشجعة، وبدا لي إنها تتحدث معي بدافع من شعورها بالواجب المكلفة به. نظرتُ بتواضع إلى الجرّتين الضخمتين الموضوعتين على جانبي المدخل المظلم للكشك كما لو أنهما حارسان شرقيان، وغمغمت: لا شكرًا لكِ.
غيرت الشابة موضع إحدى المزهريات وعادت لحديثها مع الرجال حول الموضوع ذاته. ومن طرف خفي رمقتني بنظرة أو نظرتين. مشيت متمهلًا أمام كشكها مع إدراكي بأن لا طائل من مكوثي هناك، لكن أحببتُ أن أبدي اهتمامًا بمعروضاتها. ثم ابتعدت ببطء متجهًا إلى داخل السوق.
أفلتُّ البنسين فوق الست بنسات داخل جيبي وعندها سمعت صوتًا ينادي من أحد طرفي المعرض معلنًا إطفاء الأضواء. ثم غشى الظلام الجزء العلوي بالكامل.
حملقت في الظلام وأنا أرى نفسي كمخلوق مقاد ومهان بزهو زائف، واحمرت عيناي غيظًا وغضبًا.
تمت
جيمس جويس.
* من مجموعته القصصية "أهالي دبلن" الصادرة في لندن عام 1914
ترجمة: بلقيس الكثيري
كان مستأجر المنزل قبلنا قسيسًا، توفي في غرفة الاستقبال الخلفية. ملأت رائحة العفن الهواء في كل الغرف من طول انحباسه فيها. وفي غرفة النفايات الواقعة خلف المطبخ أوراق مبعثرة قديمة عديمة الفائدة. وجدتُ فيما بينها بعض الكتب المغلفة بالورق، صفحاتها مجعدة مشبعة بالرطوبة. رواية رئيس الدير لمؤلفها والتر سكوت [2]، والمبلِّغ الأمين[3] ومذكرات فيدوك[4]. وفضلتُ هذا الأخير بسبب صفرة أوراقه.
تتوسط الحديقة الواسعة خلف المنزل شجرة تفاح وبعض الشجيرات المتفرقة حيث عثرت أسفل إحداها على مضخة هواء صدئة لدراجة المستأجر السابق. كان قسيسًا مُحسنًا قد تبرع في وصيته بكل أمواله للمؤسسات الخيرية وترك أثاث منزله لأخته.
عندما تحل أيام الشتاء القصيرة، يقبل الغسق قبل أن ننهي تناول وجبة العشاء. عندما نلتقي في الشارع، تبدو المنازل مُسودة كئيبة. السماء فوقنا تكتسي لون البنفسج المتغير، وفي اتجاهها ترفع قناديل الشارع أضواءها الضعيفة. تلسعنا لفحات الهواء البارد، كنا نلعب حتى تتوهج أجسادنا وصدى صيحاتنا يرتد في الشارع الساكن. تقتضي اللعبة أن نسلك الأزقة الموحلة المظلمة خلف المنازل حيث كنا نركض بين صفين من الصبية، من الدكة الصلبة للأكواخ إلى الأبواب الخلفية للحدائق المبتلة حيث تنبعث الروائح من بقايا الرماد المحترق، مرورًا بالإسطبل الذي ينشغل فيه الحوذي بتمشيط شعر حصان، أو بإصدارموسيقى من الألجمة الملتوية.
عندما نعود إلى الشارع نرى الأضواء قد اخترقت نوافذ المطابخ لتعم المكان. وإذا ما رأينا عمي عائدًا، يعبر الزقاق نختبأ في الظل حتى يدخل المنزل بأمان. وإذا ما خرجت أخت مانغان إلى عتبة الباب لتدعو أخاها إلى الدخول لشرب الشاي، نراقبها من مخبأنا وهي تجول ببصرها في الشارع من أقصى يمينه إلى يساره. ننتظر لنرى إذا ما كانت ستبقى أو ستدخل؛ وإذا بقيت نغادر أماكننا ونتوجه تلقاءها بإذعان. كانت تقف في انتظارنا؛ يحدد الضوء المنبعث من الباب الموارب هيئتها. يشاكسها أخوها قبل أن يطيعها وأنا أقف إلى جانب سور السلم أتاملها. يتراقص فستانها كلما حرّكت جسدها، ويتهادى الشريط الرقيق حول شعرها من جانب إلى آخر.
أستلقي كل صباح على الأرض في الردهة الأمامية لمنزلنا أراقب بابها من بابنا ذي الستار المنسدل لأسفل فيما عدا مسافة بوصة بحيث لا يراني أحد. عندما تخرج من الباب يقفز قلبي. أركض إلى الصالة، أجمع كتبي وأتبعها. وأحرص ألا يغيب قوامها الأسمر عن مرمى بصري، وعندما نقترب من النقطة التي تفترق فيها طرقنا، أحث الخطى لأتجاوزها. يحدث هذا صباحًا بعد آخر. لم يسبق أن تحدثت إليها مطلقًا، باستثناء بضع كلمات عابرة، ومع ذلك كان اسمها كمذكرة استدعاء لكل دمي، وطيفها يصحبني حتى في أكثر الأماكن مناقضة للرومانسية. عندما تذهب عمتي للتسوق في أمسيات السبت أضطر لمرافقتها لحمل بعض الأكياس عنها. نشق طريقنا في الشوارع المحتدمة التي يزاحمنا فيها الرجال الثملون والنساء المساومات، وسط لعنات الكادحين والصيحات الصاخبة لصبية المتاجر الذين يقفون متأهبين للحراسة بجوار براميل خدود الخنازير[5]، وهتافات مطربي الشوارع الخارجة من أنوفهم، وهم يغنون الأغنية الشعبية "تعالوا جميعكم"[6] عن "أو دونوفان روسا" أو يترنمون بقصيدة شعبية عن الصعاب في الوطن. كل هذا الضجيج التقى عندي بحس مفرد بالحياة؛ تخيلت أنني حملت نخب النصر منتشيًا وسط حشد من الأعداء.
يقفز اسمها على شفتي في لحظات من الابتهالات والتسابيح الغريبة التي أعجز -أنا نفسي- عن فهمها. يترقرق الدمع في عيني- دون أن أعرف السبب- وأحيانًا يفيض من قلبي سيل ويصب في صدري. قليلا ما أفكر بالمستقبل. لا أعرف إن كنت سأتحدث إليها يومًا، وإذا فعلت كيف سأخبرها عن ولهي المحيّر. جسدي لها كقيثارة وكلماتها وإماءاتها بمثابة أنامل تعزف على أوتاري.
ذات ليلة مظلمة ماطرة ذهبت إلى غرفة الاستقبال الخلفية التي مات فيها القسيس. لم يكن في البيت صوت. سمعتُ عبر لوح الفسيفساء المكسور وقع المطر المرتطم بالأرض، كوقع متواصل لإبر رقيقة من الماء تداعب الأصص المخضلة. أضيء مصباح بعيد أسفل مني عبر نافذة مضاءة، كنت ممتنا للقليل الذي رأيته. بدا أن حواسي كلها تتوق لإخفاء نفسها، وشعرتُ بأن مشاعري على وشك التملص مني، قبضتُ يديَّ معًا بشدة حتى ارتعشتا وأنا أغمغم مرارًا وتكرارًا: يا للحب! يا للحب!
وأخيرًا تكلمت معي. عندما نطقت أولى كلماتها لي، ارتبكت ولم أعرف بماذا أجيب.
سألتني عما إذا كنتُ سأذهب إلى سوق عربي.
ونسيتُ ما إذا كنتُ قد أجبت إيجابًا أو نفيًا. قالت سيكون معرضا رائعًا وهي تتمنى أن تزوره.
سألتها: ما الذي يمنعكِ من الذهاب؟
أثناء حديثها كانت تدير سوارًا فضيًا حول معصمها باستمرار.
قالت إنها لا تستطيع الذهاب لأنه يتوجب عليها هذا الأسبوع أن تعتكف في الدير.
حين كان أخوها وصبيان آخران يتعاركون حول قبعاتهم، كنت أقف على السلم وحدي.
أمسكتْ بإحدى المقابض ومالت برأسها نحوي. سطع الضوء المنبثق من المصباح المقابل للباب على منحنى رقبتها وأضاء شعرها المستقر هناك، ثم انعكس مضيئًا يدها الممسكة بالسور.
سقط الضوء على جانب من فستانها وبالكاد أظهر طرفا من ثوبها الداخلي الأبيض، الذي ما كان ليُرى لو لم تكن في وضعية الاسترخاء تلك.
قالت: من حسن حظك أن تذهب.
قلتُ: إن ذهبت سأحضر لكِ شيئًا.
كم من الحماقات التي لا تعد ولا تحصى أهدرت أفكاري ويقظتي ومنامي بعد تلك الليلة.
تمنيتُ أن أطوي الأيام المقبلة والمملة طيّا حتى يوم المعرض. نفرت من الفروض المدرسية، كانت صورتها تحول بيني وبين الصفحة التي أحاول جاهدًا أن أقرأ ليلًا في غرفتي أو نهارًا في فصلي. كانت حروف لفظ عربي تستحوذ عليّ عبر أسوار الصمت الذي تسبح فيه روحي وتلقي علي تعويذة سحر شرقي.
طلبتُ إجازة للذهاب إلى السوق ليلة السبت. أصابت عمتي الدهشة وتمنت ألا يكون للأمر علاقة بالماسونية. في الفصل أجبت عن بعض الأسئلة وأنا أتأمل وجه المعلم يتحوّل من اللطف إلى الصرامة؛ كان يرجو ألا أكون قد بدأت في التكاسل. لم أستطع جمع أفكاري الهائمة معًا. نادرًا ما أتحلى بالصبر تجاه الأعمال الجادة في الحياة التي تحول بيني وبين رغباتي، والتي تبدو لي كلعبة أطفال… لعبة أطفال رتيبة وكريهة.
في صباح يوم السبت ذكّرتُ عمي برغبتي في الذهاب إلى السوق في المساء. كان مزاجه معكرًا يبحث في خزانة الممر عن فرشاة تنظيف القبعات، أجابني باقتضاب: نعم يا ولدي أعرف.
وبوجوده في الردهة لم أستطع الذهاب إلى الردهة الأمامية لاختلاس النظر من النافذة. غادرتُ المنزل في مزاج سيئ ومشيت بتؤدة إلى المدرسة. كان الهواء صلفًا بلا هوادة، وقلبي تتنازعه الظنون. عندما عدت إلى المنزل لتناول العشاء، لم يكن عمي قد عاد بعد. ولكن الوقت ما زال مبكرًا جلست أحدق في الساعة لبعض الوقت، وعندما بدأت تكتكة الساعة تزعجني، تركت الغرفة. رقيت السلالم متجها إلى الطابق العلوي حيث حررتني الغرف العلوية الخاوية والباردة والمعتمة من ضيقي ومشيتُ أغني من غرفة إلى أخرى.
من النافذة الأمامية رأيت رفاقي يلعبون في الشارع. كانت صرخاتهم تصلني واهية يصعب تمييزها، لامس جبيني الزجاج البارد وأنا أنظر إلى المنزل المظلم حيث تعيش. ربما وقفت في مكاني لمدة ساعة بدون أن أرى شيئًا يُذكر باستثناء صورة في خيالي لذاك الجسد المكسو بالسمرة، الذي لامسه النور بحذر عند منحنى عنقها، وانعكس على اليد القابضة على السور وذلك الثوب الأبيض دون فستانها.
عندما نزلتُ إلى الطابق السفلي، وجدت السيدة ميرسر تجلس إلى جوار المدفأة. وهي أرملة سمسار وعجوز ثرثار تقوم بجمع الطوابع المستعملة لأغراض دينية. وكان عليّ تحمّل ثرثرتها أثناء تناولنا الشاي. وامتدت الوجبة لما يزيد عن الساعة ولم يحضر عمي بعد. وقفت السيدة ميرسر تهم بالذهاب معتذرة لأنها لا تستطيع الانتظار أكثر، فالوقت تجاوز الثامنة وليس من عادتها أن تظل في الخارج حتى وقت متأخر إذ إنها لا تقوى على برد الليل. عندما ذهبتْ أخذتُ أذرع الغرفة جيئة وذهابا، بقبضتين مشدودتين.
قالت عمتي: لعل من الأفضل أن تؤجل ذهابك إلى المعرض هذه الليلة.
عند الساعة التاسعة سمعت جلبة مفتاح عمي يدار في قفل الباب في الردهة. سمعت همهماته وصوت ارتجاج الحامل تحت وطأة معطفه الثقيل. كان بإمكاني تأويل هذه العلامات. لقد نسي.
وعندما كان يتناول عشاءه، طلبت منه أن يعطيني المال لأذهب إلى السوق.
قال: قد استغرق الناس في النوم الآن.
لم أبتسم، ردت عمتي بحزم: لِم لا تعطه المال وتدعه يذهب؟ ألا يكفي أنك أخّرته حتى هذه الساعة. قال عمي إنه آسف جدًا لأنه نسي. وإنه يؤمن بالقول المأثور "العمل بلا راحة يورث البلادة"[7].
سألني أين أود الذهاب. أخبرته للمرة الثانية، فسألني إن كنتُ أعرف قصيدة "فراق العربي لجواده"[8] . عندما غادرت المطبخ كان قد شرع في إلقاء مطلع القصيدة لعمتي.
شددتُ قبضتي على قطعة الفلورين[9] في يدي وأنا أنزل شارع بكينغهام متوجهًا إلى المحطة.
ذكرني منظر الشوارع المتوهجة بفعل الغاز والمكتظة بالمشترين بالهدف من خروجي. تبوأت لي مقعدًا في عربة قطار من الدرجة الثالثة. بعد تأخير مضنٍ، تحرك القطار المعدم مغادرًا المحطة ببطء. كان يزحف للأمام بين المنازل المتصدعة وفوق النهر المتلألئ.
في محطة ويستلاندرو تدافع حشد من الناس على أبواب العربات. لكن العاملين أرجعوهم للخلف قائلين أن القطار مخصص لزوار المعرض فقط. بقيت وحدي في العربة الخاوية. وبعد بضع دقائق توقف القطار بجانب منصة خشبية نُصبت حديثًا. مررت مجتازًا الطريق ورأيت الساعة المضاءة تشير إلى التاسعة وخمسين دقيقة. كان المبنى الضخم أمامي يحمل لافتة عرض مكتوب عليها ذلك الاسم السحري.
لم أجد مدخلًا لفئة الست بنسات، ولخشيتي أن يغلق المعرض أبوابه دخلت مسرعًا من خلال الباب الدوار وناولت شلنًا للرجل المنهك.
وجدتني في قاعة كبيرة مطوقة حتى منتصفها بأكشاك المعرض. كان معظمها مغلقًا وساد الظلام الجزء الأكبر من القاعة. بدا لي هذا الصمت شبيهًا بالصمت الذي يعم الكنيسة بعد الصلاة. مشيت إلى وسط السوق مشية محرج إلى حيث تجمع عدد قليل من الزوار حول الأكشاك التي لا تزال مفتوحة. أمام ستارة مكتوب أعلاها بأحرف مضيئة "مقهى شانتان" وقف رجلان يحسبان القطع النقدية التي كانت تصدر رنة إثر ارتطامها بالطبق.
عندئذ تذكرت بصعوبة سبب مجيئي ومضيت إلى أحد الأكشاك متفحصًا المزهريات الخزفية وأطقم الشاي المزهرة. عند باب الكشك كانت تقف امرأة شابة تتحدث وتضحك مع اثنين من الرجال. ميزت لهجتهم الإنجليزية وأصختُ إلى كلامهم على نحو عابر.
- آ…. لم أقل شيئًا كهذا مطلقٌا.
- آه… بلى قد قلتِ.
- أوه، لا لم أفعل.
- ألم تقل هي ذلك؟
- أجل لقد سمعتها.
- أنت تكذب...
حالما لمحتني الشابة، تقدمت نحوي وسألتني عما أود شراءه. كانت نبرة صوتها غير مشجعة، وبدا لي إنها تتحدث معي بدافع من شعورها بالواجب المكلفة به. نظرتُ بتواضع إلى الجرّتين الضخمتين الموضوعتين على جانبي المدخل المظلم للكشك كما لو أنهما حارسان شرقيان، وغمغمت: لا شكرًا لكِ.
غيرت الشابة موضع إحدى المزهريات وعادت لحديثها مع الرجال حول الموضوع ذاته. ومن طرف خفي رمقتني بنظرة أو نظرتين. مشيت متمهلًا أمام كشكها مع إدراكي بأن لا طائل من مكوثي هناك، لكن أحببتُ أن أبدي اهتمامًا بمعروضاتها. ثم ابتعدت ببطء متجهًا إلى داخل السوق.
أفلتُّ البنسين فوق الست بنسات داخل جيبي وعندها سمعت صوتًا ينادي من أحد طرفي المعرض معلنًا إطفاء الأضواء. ثم غشى الظلام الجزء العلوي بالكامل.
حملقت في الظلام وأنا أرى نفسي كمخلوق مقاد ومهان بزهو زائف، واحمرت عيناي غيظًا وغضبًا.
تمت
جيمس جويس.
* من مجموعته القصصية "أهالي دبلن" الصادرة في لندن عام 1914
ترجمة: بلقيس الكثيري