سلوى مشهور - الخيط الرفيع بين الهلوسة والواقع

بعد أن تَعبتُ من الهرولة الصباحية على ضفاف شاطئ رادهاناغار، بدأتُ أبحث عن مكان ألتقط فيه أنفاسي، وأستنشق هواءً لم يخالط أنفاسه النتنة، ذلك الوغد. لطالما أحمل كرها دفينا تجاه ذكراه، صاحب الوعود الكاذبة، النرجسي المتحامل عني، صاحب كبرياءٍ مقرفٍ فصل بيننا.
كنت أظن أن لهيبَ قلبي لن يخمد إلا وأنا بعيدة كل البعد عن محيطي وكل ما يذكرني به، ها أنا ذا أستشعر طعم التحرر منك، وأتنفس هواء لم نشاركه من قبل، خالٍ منك، هواءُ مكان بعيد لن تُخمنه أبدا وأنت تبحث عني، ذلك وإن فَعَلْت.

تعالت الأصوات مجددا في ذهني، ولم يُخرسها سوى مشهدٌ بانوراميكي لمحته لعجوز مستقرة فوق كرسي خشبي للعموم، أمام الشاطئ المتلألئ بضوء شروق الشمس، وتبدو في غاية الوقار. وددت جدا لو أحضرت مُصوّرتي، لحصدتُ ألاف المجاملات والإعجابات لهذه التحفة الفنية الطبيعية. دنوت منها لأستكشفها أكثر، ولِمَ لا كي أرتب موعدا معها للتصوير، وما إن لمحتني حتى ابتسمت وكأنها تعرفني من قبل.
عجوزٌ في السبعين من عمرها، وتبدو كأنها لم تبلغ هذا السن بعد، شعرها أبيض قصير كصيحات الموضة القديمة لسنة 2024، حتى ملابسها أنيقة لا تناسب الشاطئ، وتقاسيم وجهها تحمل تناقضا غريبا، إن مددت بصرك فيها وجدتها بارزة تبوح بتعب الحياة وشقائها، وما إن تُمعن النظر أكثر حتى تراها طفولية، كأنها تخبرك أن لا شيء في الحياة يستحق القلق، ملامح هادئة، وواضح جدا أنها أنقاض جمالِ شباب أخاذ.
بعد ابتسامتها لي، شعرت وكأننا نتقاسم شيئا، دعتني للجلوس بالقرب منها، وقالت " يبدو أنك تعبت من الجري؟ "
أنا: نعم، لكنني اعتدت ذلك، فمنذ أن جئت إلى هافلوك، وأنا أمارس الرياضة بانتظام.
ضَحكتْ وكأنها توقعت إجابتي، فقالت: ليس هذا الجري، ما أقصد". بعد إجابتها هذه، مُلِئَت نظراتي بعلامات استفهام، مع ابتسامة غبية تعلو مُحياي، فتساءلت عن قصد هذه العجوز في نفسي، تابعتْ حديثها دون سابق إنظار، وقد صوّبت من جلستها، وأدارت نصف جسدها العلوي تجاهي، وكأن ما ستقوله، في غاية الأهمية " أيقني يا صغيرتي أن جريك هذا لا ضر فيه إن كان صوب نفسك، لا بعيدا عنها. وأقسم لك وأنت لا تعرفينني، أن هدوءًا سيسودك كما يسود الصمت في الخلاء."
وقعت كلمات العجوز في نفسي، وبَدوتُ هادئة أكثر مما كانت تتوقعه، فكلامها يستدعي فزعي، من أين لها بصخبي وبمَ أعيشه في نفسي؟ سألتها بلطافة مستنكرة ما فهمته من كلامها، عن ماذا تتحدثين يا سيدة، دعيني أعرفك عن نفسي أولا:
أنا ويسلين، انتقلت حديثا إلى هنا لأعيش حياة هادئة بعيدة عن الضجيج بأكواخ هذا الساحل العذري، واخترت هذه الجزيرة لأنني أعمل في مجال الفن التصويري، أما جلوسك هنا بهذا الشكل وفي هذا الوقت شد فضولي أكثر من انتباهي، وسأكون سعيدة لو تكرمت وزرتني هذا المساء.
العجوز: هذا لطف منك، لكنني لم أعد أهتم بهذه الأمور، وأَفْضَلُ ما يمكنُ أن يُقدم إليّ في هذا السن هو فنجان شاي ساخن، والـتأمل في مناحي الحياة. وبحكم تجاربي وخبراتي وغوصي في أغوار النفس البشرية، أرى أنك لست بخير.
ويسلين: تجاهلتُ ما تقصدين منذ البداية لكنك مصرة، من أنت؟ كيف عرفت ذلك؟
العجوز: إن الغضب في هالتك، جعلني أستشعر وجودك قبل أن تقتربي مني حتى، أشعر بحزن رهيب ينبعث حراريا من جسمك، ويمكنني حتى أن أخمن ما سبب ذلك، لكنني لن أُفصح. وخذي من كلامي ما يخدمك وألقي الباقي في هذا البحر. ثم لا أدري ما الذي يجعلكن تهاجرن وتركضن بعيدا عن واقعكن، إن مشاكلك لا تتعلق بالجغرافيا، وانتقالك هذا لن يُصلحها أكثر من عثورك على البهجة في نفس المكان الذي تقيمين فيه، ثم إن أكثر قيمة إنسانية ستصادفينها طيلة حياتك هي الفراق، لابد أن نصل إلى مفترق الطرق ليسلك كل منا دربه، ستفترقين عن الأحبة، عن الوالدين، عن مراحل حياتك، ستفترقين عني، فأحيانا نفترق عن أنفسنا حتى، ويبقى أقساها في نظري هو فراق الفجأة، فراق لم يُرتب له، يُكسر أفق توقعك بوحشية، حيث يُزال الشخص عن منحاك قبل أن تصلوا إلى مفترقِ الطرق ذاك.

زاد عجبي تجاه المرأة وحديثها، أ تتحدث عني أم عن نفسها؟ حاولت أن أجاريها دون أن أَلّف عجلة الحديث تجاهي، وجاريتها كما لو أنها تُحدثني عنها، فأجبتها باستنتاج راعيت فيه سنها، فربما فارقها الموت عن أحدِ أحبائها.

ويسلين: إذن وافته المنية، يا سيدتي. انقضى أجله، ما عسانا فاعلين، إن الموت مصير الجميع.
العجوز: لم يمت وهذا ما يحز في النفس، بل منتشرٌ في الأرض يلعب ويرتع فيها فسادا، تاركا إياكِ خلفه وما عشتموه، مبيدا حتى ما عَـلِـــقَ في المقاعد الخلفية من ذهنه، بدون سبب يذكر، وبدون إنظار.
صرخت بصمت مندهشة من هذه المرآة ومتفقة معها أيضا: نعم! هذا بالضبط ما يحيرني.
وأنا اتعجب في نفسي، يا إلهي، أ قارئة فنجان هذه أو تاروت، أم أن حقا هالتي من أباحت بكل هذا؟ وكأن العجوزَ فهمت تماما ما يجول في خاطري، تبدو متعمدة أن توصلني لهذه النقطة، لقد نَبِسَتْ بما علِــق في حُلقومي، لم يُبلع ولم أَفصح عنه، أم أن حالَها من حالي؟

العجوز: كنت أعلم أنك ستستلطفين هذا الأمر، يبدو أن فراقكما حديث، لقد وليت من هذه المرحلة في شبابي، وتُركت بلا مبالاة أمام ما أسميه بالوحوش الأربعة، وهي مراحل تجتازينها بعد الفراق ولو بلغت من القوة درجات.
أولها مرحلة لا تستوعبين فيها ما يحدث، وتكونين متمسكة بأمل العودة، كما حصل لكم من قبل...تسمى مرحلة عدم الإدراك.
تليها مرحلة اليقين، إذ تتيقنين أنك أسأت الاختيار وأنه لم يكن الشخصَ الصحيح الذي طالما أردتِ أن يكون، تتيقنين من غبائك في التركيز عنه لهذه الدرجة طيلة هذه المدة، وتحاولين التخلص من حبه إلى الأبد، وهذا ما يزيد الطين بلة، لتَلِجِين المرحلة الأصعب والوحش الأعثى وهي مرحلة مقاومة الإدمان، حيث يلاحقك إحساس أو يخالجك بين الحين والآخر يأخذك لمحاولة الرجوع، فتنوي أن تغفري ذنبا لا يُغتفر، تحاولين إقناع نفسك أنك المخطئة، وأنه الوحيد الذي يشبهك، ثم تتشاجري مع نفسك وتتهمينها بالضعف، ثم تحِني فيتم تجاهلك، ثم تعودي للوم نفسك من جديد، إلى أن تَبلغي الوحش الرابع وهو مرحلة أعراض الانسحاب، تتعودين فيها عن العزلة، وتشعرين بالضيق والحزن الشديدين، ويبدو كل شيء حولك باهت. إذ لا طعم للحياة، ولا قيمة الأشياء بشكل عام، إلى أن يشاء الله فتعود روحك إلى جسدك الذي أعياه الحب وأهزله، فتتقربين للناس، وتجددين مهارتك الاجتماعية في التواصل، فتتفتح عيناك وتتغير نظرتك للأشياء، وتصبحين مستعدة للحلم بغد أجمل، فتبلغين التعافي وهنا لن تكرهي هذا الشخص، بل ستتمنين له الخير ولنفسك، وستأخذك الحياة إلى تجربة أخرى وإلى شخص أخر. وربما سيتلاشى الشخص من ذاكرتك بشكل نهائي.

فتحت فاهي شاردة في هذه العجوز وما زلت لا أعرف إن كانت تتحدث عني أم عن نفسها، لكنني تجاهلت الأمر وشرهت في تخيُّل هذه الوحوش، وكنت على علم وافر بما تحكيه العجوز، إذ أنها فتكتني بفظاعة، أخبرتها عن صاحبِ دعوتي، وعن انتقالي من أكادير إلى أبعد نقطة في جزر أندامان، وعن خيبة أملي تجاه نفسي وتجاه الرجال جميعِهم.
لم نشعر بمرور الوقت ودعوتها لاحتساء فنجان قهوة ساخن على سطح فندقٍ في مقدمة أدغال الجزيرة يبعد عن الشاطئ بضع سنتمترات، مبنيٌّ بالزجاج ومزين بسيقان البامبو، فيبدو هذا المزج بين القديم والحديث في مواد البناء ساحرٌ يخطف العقل، فترى انعكاس أمواج البحر في زجاجه، وكأنه يستقبلها، ومن زاوية أخرى تراه يَأْتــمُّ الأدغال.

كانت الأجواء مريحة لكلتينا، أسدت إلي نصائح كثيرة، شعرت وكأنني تقاسمت ألمي مع شخص يعرف جيدا كيف يداريه، حتى إنني لم أتخيل نفسي سأصادق يوما امرأة في سنها. طالما كانت لي صديقات طائشات في مثل سني، لا نكف عن القهقهة بدون سبب، وقد اشتقت إليهن. وها ذا أنا اليوم، في ظروف أخرى، في مكان وزمان آخرين، أجالس مسنة وأستمتع بالحديث معها، ترتشف القهوة ببطيء وتتابع الحديث بدقة من حيثُ توقفَ، دون أن تغفل التفاصيل وكأنها تُنسج مِلفعًا، بعد حديثٍ طويل وَضَعَتْ الكوب فوق الطاولة وخيرتني بين أمرين، لا زلت أجهل كيف أختار بينهما.

العجوز: إذن يا ويسلين، أرى أن الفتى قد شغفك حبا، وهذا أمرٌ غير محظور، لك أن تحبي من شئت دون انتظار ردة فعلٍ من الطرف الآخر، فالحب حبك، وملك لك، لكن الجوهر يكمن في الاحتفاظ به. لك أن تختاري أيتها الشابة، إلى أيّ الفرق ستنتمين، وأيٌّ من أبواب روضة المحبين ستلجين، هل باب مَنْ مدح العشق وتمناه وغبط صاحبه على ما أوتيه من مُناه، أم باب مَنْ ذَمّ العشق وتبرم به، واحتج على صحة مذهبه.

ويسلين: لم أفهم؟ ماذا تقصدين؟

العجوز: لن تفهمي إلا بالمثال، ومثالك يكمن في قصتي، وقد كان لي شخص أحببته أكثر مما ينبغي، وقدمت له من الوقت حتى ما لم أملك، ومن الوفاء ما لن يجد، ومن الحُبِّ ما يفوقُ حُبَ أمه، ولن أنكُر معروفه إلي كما فعلت اعتماد الرميكية للمعتمد، أو كما تفعل النساء جميعا إن غضبت، بل قاوم الصعاب من أجلي وقد كان في ديار أخرى يفصل البحر بينها ودياري، فما يلبث الشهر أن ينتهي إلا وقد تكبد وعثاء السفر ومشقته كي نلتقي لبضع سويعات في إحدى مقاهي مدينتي، فنتشارك أحاديثَ وهمسات وضحكات وطرائفَ لم تَبْعَد عن عيني ولن تُمحى عن ذهني إلى أن يتوفاني الله، وقد أخذني لزيارة مدن لم أرها من قبل، وكنت أخشى أن أخطوها بدونه كي لا تفتك بي الذكريات، كان مرشدي في كل الأمور، لكن عادة ما يتعثرُ الناس في المنحدرات الزلقة للعلاقات، كان حريُّ به ارشادي إليه، أو ربما كان دوري لإرشاده إليّ، لكن على من تاه، أن يجد طريقه بنفسه.
كانت العجوز تتفوه بكل عبارة بتريث وكأنها تسترجع الماضي أمام عينيها، لم يكن بادٍ أنها عاشته في حياة سابقة، إذ كان مفعمًا بروحٍ حيوية، فاعتقدت أنها تحكي عن زوجها.

ويسلين: يا لسعادتِك يا خالة، في النهاية توّج حبكما بالزواج ولم يذهب مجهوده سُدًا، ولا أحاسيسك عبثا. وها قد جاء بك إلى الهند في أواخر عمركما، وكأنكما ما تزالان شبابا، أدام الله حبكما. وأدام الله لك السيدَ زوجَك الذي جاء بك إلى هنا.

ضحكت العجوز ضحكة اختلط فيها الحزن بالفخر وهي تهز رأسها يمينا وشمالا، واسترسلت وكأنك تَستدرك ما استنتجتُ.

العجوز: ألم أقل لك اختاري فرقةً وقدمي ولائك لها، إن زوجي تعرفت عليه بعد سبع سنوات من قصتي هذه والحق لِلّه أُعزّه ويُعزني أكثر، وبيننا بنينٌ وبنات، وها نحن نتسكع في آخر عمرنا. أما الذي كنت أهيم به عشقا أنذاك، بلغني وحش فراقه في ظروف غامضة لم أعرف سببها، فتملكني غضبٌ عارم أفضى بي لسفر بعيد عن نفسي وأهلي لسنوات سبع، عشت فيها وخياله يلاحقني، واضطررت أن أختار احدى الأبواب التي خيرتك إياها قبل قليل، أ باب العشق؟ أم باب من احتج عنه وتبرم منه؟ فاخترت أن أتصالح مع ذلك الخيال، وأخمد الصراع الذي طال بين القلب والعقل، لأحكّم الفوز للقلب في النهاية.
ويسلين: أليس من المتعب أن تُحب شخصا لا يبادلك الحب؟
العجوز: إنه أجمل شعورٍ في العالم.
ويسلين: ألا يشعرك ذلك بالضعف؟
العجوز: على العكس تماما، لا شيء يُضاهي قوة الحب من طرف واحد، بخلاف العلاقات الأخرى، لا أتشاركه مع أحد، إنه لي .. لي وحدي، بل إنني لست بحاجة إليه أو لقُربه كي أُحِبَّه.
ويسلين: يا للعجب، لم أرى وفاءً كهذا من قبل، إنني أتساءل، لماذا ذهب؟ كيف لم يقع في حب شخص جذاب مثلك؟ كيف لم ينتهي المطاف بكما معا؟
العجوز: ربما كان سطحيا في اختياراته، ربما رأى أنه يجهد نفسه أكثر من اللازم، ربما التقى بأخرى فانسجمت روحاهما، ربما لم تكن لنا ركيزةٌ أصلا أو "السّاس" كما كان يُطلِق عليه دائما، ربما سفينتنا أو "أباركو" كما يحب أن يناديه فقدت القبطان أو تاهت وسط البحر في ليلة دامسة فبتلعها مثلث بيرمودا...ثم إنني قد أبدو لك جذابةَ، لكنه عندما قابلني كنت طفلةً كثيرةَ الشكوى، ثرثارة لا تكف عن الكلام، أحكي عن كل شيء وكأنني أكلّم نفسي، ولا أكثرت لشكلي وأنا بصحبته، كنت على طبيعتي لدرجة قد تشعره ربما أنه مع صديقٍ له، لا حبيبةٍ يُفترض أن تنضح بالأنوثة.
ويسلين: أهذا إطراء أم تقليل من شأنك؟ ألا يُفترض أن يكون المحبان أصدقاءَ قبل كل شيء؟
العجوز: إن هذه الأسئلة قد تجاوزتها منذ زمن بعيد يا صغيرة، وإنه لمن المتعب أن تطرحينها على نفسك أيضا، فلن تجدي غير افتراضات تثقل كاهلك وتُسوّده، فعلم ذلك عند الله.
ويسلين: لا أنفك أشيد بصحة ما تقولين يا سيدتي، إنك دائما على صواب. وها أنت ذا رفقة زوج صالح يشد يدك نحو آخر العمر، إنك لمحظوظة به.
ابتسمت العجوز بثقل، ولم تكن في حاجة للحديث، إذ أن نظرتها كانت توحي بكل شيئ، وكأنها تقول "لكنني وددت لو كان هو من يمسك يدي نحو النهاية"، أسقطتُ حالها عن حالي، وتخيلت نفسي بعد سنوات، وقد حصلت فيها على كل شيء، مكانةٍ، أهداف، علاقة، أبناء، فلماذا ما زلت عنيدةً؟ لم لا أتجاوزه كما فعلت العجوز، لم لا اُصمت قلبي لأُحَكِّم عقلي عنه فائزا. لم لا أنساه فيغيب عن حَصيني، ألا أستطيع أن أتمرد عن ذكراه فأستأصلها عن فصيَّ الصدغي؟ بلى، أستطيع... لكن ما الذي تقصده العجوز بأبواب روضة المحبين، لما اقتبست من فهرسه؟ ...
قاطَعتِ العجوزُ صمت الموقف، لكنها قطعتْ حبلَ أفكاري أيضا، وقالت وابتسامة جانبية عالقة على فاهها وكأنها تبتسم بمكر، وقد ألقت بنصفها العلوي تُجاهي وكأنه ستهمس لي:
أظننا في نفس القصة. أنتِ يا وسلين أكثر من يعلم إن كنتُ محظوظة أو لا.
ابتسمتُ في تعجبٍ جاحظةً عيناي، ولعنت هذا الصباح في سِري، لو لم أكن فتاةً رزينةً، وتعلم. جيدًا أن عقلها في رأسها، لاعتقدت أنني أُصبت بالجنون، وأن هذه العجوز اللعينة من صنع أفكاري فقط، ومجرد هلوسة أصابتني بسبب التفكير المفرط، فالسيدة وكأنها أتتني من المستقبل البعيد، فما تَركَتهُ سنة 2023 خلفها بعقود، لم أتجاوزه أنا إلا بسنوات قلة، نفس الأشخاص ونفس الأحاسيس. نفس المواقف ونفس الأهاجيس، حتى إنني اعتقدت نفسي شخصية "جوناس" من المسلسل الألماني "دارك" فأجبتها بسخط وبنظرة حادة تفوح رائحة التحدي منها، وأنا لازلت لم أحسم في أمر العجوز، أحقيقية، أم وهم:
أظنني سأختار باب من لعن العشق وذمّه، وتمنى لو أبدا ما لقاه، ولو كان الحبُ رجُلا لقتلته، ولفقأت عينيه دون أن أتبّث جوهرتين مكانهما، ولو قابلت صاحبَكِ مجددا يا ويسلين العجوز لجردته مما يحب، ولأسأت إليه، لأعلمه أن السيئةَ جزاؤها سيئةٌ مثلها.
أجابت العجوز بنبرة هادئة وكأنها تسخر مني: أتفقئين من هو أعمى؟ أَوَ تسيئين لمن لم يتعمد الإساءة إليك؟ أتُجرّدينه مما يحب وقد فقده أصلا؟ يا لسذاجتك، تــلبّسك الكُره وهو من يحكي بلسانك الآن، أظنك لا زلت تصارعين الوحوشَ التي أخبرتك عنها، لا زال الوقت أمامك، ستشفين من حقدك، لتصلين لمرحلة أسمى.
ويسلين: كفاك يا سيدتي، لا أعرفك حتى!، من أنت؟
أكملت حديثي ونظرتي مستقرة بعمقٍ داخل عينا العجوز، وهي تبادلني نفس النظرة وكأن كلتينا نتأمل في قعر مرآة، فاسترسلتُ وقد خارت قواي:
يبدو أن صحتي العقلية أصابها خطبٌ ما، هل أنت أنا؟
هل سأصيرك في المستقبل؟ فمن خلالك يبدو أنني لن أحظى به، كنت أعتقد أنه سيجدني، ألم يبحث عنك؟ أقصد عني؟ أخبريني فأنت من المستقبل.
لم تجبني عن أي سؤال لأنني لم أدع لها الفرصة لإجابة أصلا، فقد اجتاحني وابلٌ من الأسئلة، فاسترسلتُ وهي أمامي مستقرة دون أن نغيّر من وضعيتنا، كأنني أتأمل مستقبلي وكأنها تحاول أن تغيّر ماضيها:
يبدو أنني سأتزوج في النهاية من رجل أخر، بربك أريني زوجَك هذا؟ هل هو صديق قديمٌ لك؟ أم ممّن أعرفهم الآن بهافلوك؟ رجاءً لا تخبريني أنه زواج مدبر؟ أعرف نفسي جيدا، لن أقدم على أمر كهذا.
بدأ الأمر يزعجني، والحيرة تعلو وجهي، والموقف يفصحُ أنني وسط متاهة من الزمن، فما لست عليه الآن ربما سأصبحه في المستقبل، كيف لا، والتغيير هو الشيء الوحيد الثابت في الإنسان.
أشحتُ بنظري بعيدا عن العجوز، وبدأت أَلُــمُّ أغراضي، وأنا أهمس لنفسي:
إنها ليست أنا، فمكاني قرب من أحب، ومن لم يقاتل من أجل حبه لا قضية له. لن أرضى أن أتشارك المرّ والحلو مع أخرٍ غيرَ الذي ظننته نصفي! فالحياة تبنى من هذه النقطة، بربك يا خالة إنها سنة 2030 نحن نبني، لا نتسوّل!

نَظرْتُ للعجوز فإذا بها لم تحرك ساكنا، فلو كانت امرأة عادية لاقيتها بموجب الصدفة، لَذعَرتْ من تصرفي ورحلت مسرعة إلى شأنها، ثم إنها كانت ستنزعج من اعتراضي لفلسفتها الحبية، التي تبدو لي الآن ماهي إلا وصفًا لحالي فصاعدا.
لكنها أجابت بهدوء، دون أن تبرح كنبتها، متمعنة فيّ أمامها، وأنا أوظب أغراضي للرحيل، فقالت: هكذا كان طبعك دائما، ناريةٌ متسرعة لا تهدأ إن واجهت من يخالفها، فالشباب ثورة، لكنه يزول، فتَخمدُ ثورتك برغوةٍ تُطفئ تماما شُعلتها... لن تتوقعي الحدث الذي سيجعلك نقيضة حالك هذا، سيجعلك أنا.
توقفت العجوز عن الكلام، وأصبح ما تتفوه به مجرد إيحاءات مرعبة لي، فطالما كان للمجهول رهبة، سألتها عن التفاصيل، لكنها أرادت أن تتركني للحياة كما قالت.
حملت نفسي ونزلت من الفندق تاركة إياها في مكانها، كانت الشمس هادئة تختبئ خلف السُحب، والبحر هائج كأنه يلقي آخر زبده على الشاطئ، ما أن وَطئتْ قدماي رمال الساحل، التفتتُ إلى السطح، فوجدتها تلاحقني بعينيها، لَوّحَتْ بيدها من أعلى وكأنها تودعني، وكأنها تفترق عني، والذي علق في نفسي هو سؤال للفرنسي بيير بومارشيه صاحت به لتلقيه على مسمعي وقد حملته الرياح إليّ فبدا وكأنه صوتي: " يا ويسلييين، هل يمكن أن يعيش الحب والسلام في نفس القلب؟.

لا زلت أتقدم في السن يوما بعد يوم، وأنا لا أدري إن كان لقائي بالعجوز حقيقة أم هلوسة من صنعي، ففي مرحلة من مراحل فقداني لفُلان، شربتُ دخان بِضع لفافات من مُستخرج نبتة القنب الهندي، ما جعلني في حيرة من وجودها. لكني أتأكد كل يوم، أنني أقترب من السلام كلما ابتعدت عن الشباب.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...