كان يجلس في الفصل ساكناً ساكتاً، لا يسأل ولا يُسأل، ولا يشترك في نقاش جل أو هان، فإذا نزل إلى فناء المدرسة انزوي في مكان قصي، ونشر صحيفته، وأخذ يقرأ قراءة المنهوم، حتى إذا عاد إلى فصله مرة أخرى جر نفسه في تباطؤ وانكسار. وكان من يراه يظنه من المتفوقين الذين حبسوا أنفسهم على الدرس واستيعاب العلوم، وكان نجاحه على وتيرة واحدة لا ينقضها ولا يخالفها، فقلما نجح من الدور الأول. وكان إذا أراد أداء امتحان الدور الثاني أوحى إلى أبيه في القرية أنه في حاجة إلى السفر إلى المدينة. وأبوه - والحق يقال - لا يعرف من أمره شيئا، ولا يسأل عن نتيجته. وكان سلوكه يطمئن والده، فالثقة فيه متوافرة، والاعتماد على عقله الحصين ماثل، فليس ثمة داع إلى الريبة والظن. وماذا يرجو والده منه؟ هو ناجح، وينتقل من فرقة إلى أُخرى، وها هو ذا في السنة الثالثة الثانوي، لم يرى أحد منه رسوباً ولا تقصيراً.
لكنه على حين غفلةأصبح زعيم الطلبة. أما كيف سار إلى هذا المركز فهذا ما يحتاج إلى حديث. لقد جاءه الوحي بالزعامة، والمدرس يشرح الدرس، وما من شك في إنه لم يسمع كلمة، ولم يرى أحد ممن حوله فقد كان في شغل شاغل، طوح به بعيد عن المدرسة والدراسة، فلما دق الجرس، وطار الطلبة إلى الفناء تخلف عنهم قليلاً، ولما تأكد من خلو الفصول من طلابها صاح بأعلى صوته: ليسقط الاستعمار! ليسقط (صمويل هور)! ونظر الطلبة إليه وسمعوه يردد الهتاف مرة ومرة، فهرعوا إليه يرددون نداءه ثم خطب خطبته المشهورة - كما يقال في الزمن القديم - ودعاهم إلى الثورة، وترك العلم، وقفز إلى خارج المدرسة، وهتافه لا ينقطع ولا يفتر، اندفع وراءه جمهور الطلاب، وسارت المظاهرة تجوب شوارع أسيوط، وتعرج من حين إلى حين على مدرسة في طريقها، فتخرج طلابها. وهكذا تضخمت المظاهرة، وشق هتافها عنان السماء - كما تقول الصحف - وكان الناس يرون طالبا محمولا على الأعناق يكاد يخرج من جلده، وهو يصيح بسقوط الاستعمار. . وانتهى بزعامة جديدة تضاف إلى الزعامات القديمة. ومن هذا اليوم اشتهر الأستاذ (بهلول) وهذا اسمه، وعرفته المدينة ثائراً لا يهدأ، وخطيبا لا يسكت، وزعيما سياسيا لا يعجز عن حل المعضلات. وأنت تعلم تماما أن الزعماء يشقون طريقهم إلى المجد بالعرق والدموع، ولا يصلون إلى الصفوف الأولى إلا بعد أن يصبح النهار بسواد شعرهم، ولكنه - أي زعيم الطلبة - خرج هكذا فكان زعيماً زعيماً! مطبوعا قاد الطلاب في صباه، وحير البوليس بأساليبه وألاعيبه، ويقال: إن الزعيمينبغي أن يكون قوى الجسم، ضخم الجثة، ريان العود، حاد النظر، جهوري الصوت، حتى يسحر الجماهير. وأنا أعترف لك ولا أحلف بأن زعيم الطلبة حرم تلك الميزات، فقد كان نحيلا، ولو توكأ عليه طالب بالسنة الأولى الابتدائية لانهدم، وقميئا تقتحمه عيون الأطفال بلا مبالاة، وله عينان بارزتان في استحياء، وفم انفرج من كثرة الثرثرة والنداء، وله صوت لا يصلح للغناء، ومع هذا كله كان نشيطا سليطا يروع حفظه الأمن، لا يكل ولا يمل، فهوشعلة متقدة، تراه في ناد وبعد قليل في مقهى. واتسعت دائرة شهرته، فلا يقام حفل إلا كان من خطبائه، ولا يجتمع للتشاور جماعة إلا كان بينهم، وإذا تحدث إليك افاض في الحديث؛ فهو ملم بأخبار الكرة الأرضية دولة دولة وزعيماً زعيماً، ولا باس أن يحدثك عن الجان ويأجوج ومأجوج؛ لأنه يحب الثقافة العامة ولا يقف عند أمر من الأمور، وكان يقول: إن لكل شئ موضعاً.
وتوالت الأحداث - ولا أحداث هناك - وإذا بالأستاذ بهلول يصر على الثورة والتظاهر، وإذا بالبوليس يقف منه موقفا شاذاً، ولكنه لا يتراجع، ينتهي الأمر بالقبض عليه.
والقبض على زعيم الطلبة معناه الثورة، والثورة الجامحة الطامحة! وأضرب احتجاجا على إهانة زعيمهم، وسرعان ما أفرج عنه، واستقبلوه هاتفين وحملوه على الأعناق. ونظر إلى نفسه فداخله الغرور، أو قل إنها الثقة والطموح، وفكر في زعامته فوجد مدينته لا تصلح لها، وأنه في حاجة إلى أفق رحيب ومجال واسع، فلا يليق بعدما بلغ ما بلغ أن يستقر على حاله تلك فلينتقل إذن إلى العاصمة، في شوق إلى أمثاله.
ونظر إخوانه ذات يوم فلم يجدوا زعيمهم، وانتظروا أخباره، ولكنها بعدت حين يطول أو يقصر وصلت عه الأنباء عاطرة بذكره، تشيد بأعماله الكبار فقد دخل القاهرة دخول الظافرين، فجاب أنحاءها، ولما يسترح، وهاجم نوادي الأحزاب ولما ينفض غبار السفر، ولم يلتفت إلى ما حوت من جمال وحضارة، ولم يفكر في متحف أو ملهى، فالأمر أجل من ذلك خطراً، ولم يضيع الفرصة وهي سانحة، ولم يؤخر عمل اليوم إلى غد، وحياة الزعماء تعد بالدقائق والثواني. ولما كان في فطرته الثورة، فقد انضم إلى حزب المعارضة. وابتدأ العمل، وأتخذ الفنادق مأوى، والمقاهي مورداً، ولم يستطع في بادئ الأمر أن يزاحم الأحزاب، فالأحزاب مليئة بالشباب الثائر الفائر، والبلغاء الأنبياء، وما عليه أن يكون هتافا، وهو واثق من نفسه على كل حال، وقد عرفه الناس جريئا يتوجه إلى رئيس الحزب، فيهنئه بسحر البيان وقوة المنطق، ورئيس الحزب في غنى عن إطرائه وثنائه، ولكن الزعامة لا تقيد - كما كان يقول الأستاذ حافظ عوض في ذلك الزمان.
ولم يمض على الأستاذ بهلول شهران حتى صادفته عقبات - ككل الزعماء - فقد أصبح خالي الوفاضلا يملك من المالشيئا، فقد انقطع بر والده به، ووالده غير ملوم فيما فعل، فهو مستعد للإنفاق على ابنه ما طلب العلم، أما أن يهرب من المدرسة فما له بين يديه لا يرسله إليه. وفكر في شأن والده فرآه على ضلال مبين. لا يقدر الأمور قدرها، ولا يحسب للوطن حسابا. إنه ذو أثرة يقدم منفعته على منفعة الوطن. وما فائدة العلم في بلد محتل! ومن أين علم أن ابنه يعيش حتى ثمرة تعليمه، لقد وهب للوطن نفسه ويود أن يسقي شجرة الحرية بدمائه، ومع ذلك فهو على جاب كبير من المعرفة، فهو يستطيع أن يكتب ويخطب ويجادل، ولا يعيا ببرهان. ماذا ينقصه؟ ولو كان والده على علم بما يجول بخاطره، أو يفكر في مستقبل وطنه ما وقف ذلك الموقف الشائن! ولأغدق عليه النعم، فما هجر العلم ليلهو ويلعب، وما لنفسه بغي الخير إن الوطن قد ناداه فلبى النداء، ودعاه فأجاب الدعاء. والوطن أكبر من الوالدين، وأسبق منهما وجوداً، وأجدر بالبر والطاعة.
ثم قام من مكانه. ومضى في طريقه لا يلوي على شئ، ولا يحفل بشيء، تمر عليه الدور والقصور ولا يعبأ بها، وتجري حوله السيارات ذاهبة آيبة، ولا تحرك منه ساكناً. إن شؤون الوطن قد ملأت شعاب قلبه، وحاطها بشغافه، ولم تعد هناك متسع لغيرها وفجأة وجد نفسه أمام قصر عابدين لمرآه، وتيقظ تيقظا شديداً، وسمرت عيناه في شرفته، وأراد أن يتكلم، فجذبه الخوف جذبة أماتت الكلمات بين شفتيه، وبدا له أن يطوف حوله، فأدى الطواف مغيظ محنقاً، ثم تابع السير حتى ألقى بنفسه في مقهى متواضع دخله لأول مرة؛ واتخذ له مكانا بعيدا عن الناس فقد عاوده الحنين إلى الوحدة؛ وحدثته نفسه أن ينقد رواد المقهى؛ فوجد الصحف المسائية أمامه على المنضدة بجوار الصينية وأخذ يقرأ حتى منتصف الليل؛ وصاح صاحب المقهى يأمر بإغلاق الأبواب. فلما أحس تلك الصيحة نهض متثاقلا يجر رجليه جراً.
ماذا يفعل؟ إ ن ما معه من النقد لا يقوم بأمره. أيذهب إلى صديق ليقضي عنده بقية الليل؟ ولم لا يوافق على هذه الفكرة. أيسير في الشوارع إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا؟ وهنا هز رأسه علامة الرضا؛ وسار يقطع الطرقات؛ ويحادث العسس؛ ويرمق السيارات وراكبيها؛ واحتجت مبادئه السامية؛ فلعن القدر وحياته الفاشلة. ثم سكنت المدينة وهو يدب في أحيائها وحيداً شريداً.
واستقبل الصباح خائراً كئيباً، لا تكاد تحمله قدماه، وعلى غير وعي ألفى نفسه في مقهاه، وشرب شايا ممزوجا باللبن، وقرأ صحف الصباح بالمجان. فلما متع النهار شد جسمه إلى السير، والسير المجهول، ومضى في طريقه تتناوشه الأفكار السود من كل جانب. ومرت فكرة عن حزبه مر المجانب، ففرح باحتجابها، فقد يئس منه كل اليأس. وفجأة سمع هتافاُ حارا، فاندفع نحوه بما يملك من قوة فوجد ضالته المنشودة، وجد مظاهرة كبرى، فاندمج فيها كأنه محركها، وما هي إلا هنيهة حتى كان على الأعناق يهتف وينادي بسقوط الحكومة، ولم يقف البوليس مكتوف اليدين، بل فرق المظاهرة وقبض على زعماء الحركة وفي مقدمتهم زعيم الطلبة. وفرح جدا حين اقتحم باب السجن كأنه مجرم تعود حياة السجون، وبات ليله يغط في نوم عميق، ولم ير الشمس حين أشرقت بنور ربها، ولكنه أحس بها من داخل قلبه، وشعر بارتياح عظيم، وقدم إليه طعام غير طعام السجن فرضي عن نفسه وعن حزبه، ومرت عليه خواطر بيضاء، وأحلام حلوة. ولم يخرج من السجن إلا يوم سقوط الحكومة. وخرج ليكون من المجاهدين.
لقد كان سجنه نقطة تحول في حياته، فقد أصبح يجد المال ميسراً، وأصبح خطيبا يشار إليه بالبنان، يتحدث عن الاعتقال، والصبر على الاعتقال، وحاجة الوطن إلى فدائيين. وأقبلت الانتخابات فخاض غمارها داعياً وهاتفاً، وامتطى الطيارة مع أحد المرشحين، وأطل من عل على المدائن والقرى، والرداء الأخضر الذي يتشح به النيل، وذاق النعيم، وصار كالفراش يتنقل على موائد العمد والأعيان، وأخذ يواصل العمل ليلا ونهاراً. حتى إذا انتهت أيام الانتخابات - وليتها لم تنته - عاد إلى القاهرة ليتخذ دار الحزب مثابة وأمناً.
هل دامت الحياة السعيدة لزعيم الطلبة؟ إن الدهر حول قلب، وخلائق الدنيا خلائق مومس - كما يقول الشريف الرضي - فقد انقطع عنه ما كان يتقاضاه، وران على الحزب سكون رهيب، ولم يهش لاستقبال أبطاله، وفكر قليلاً في ركود الحزب، ولكنه نوى الرحيل.
أتضيق القاهرة على زعيم الطلبة؟ غداً يذهب إلى المدارس والكليات عله يجد ما يتمنى، ونفذ ما أرتاه. فلم يجد سميعاً ولا مطيعاً، وحمد الله أن نجا بجلده من مخالب البوليس. وما له لا يكون صحفياً، وقد كتب مقالاً في الأهرام بإمضاء مستعار، فيذهب إلىدور الصحف، ومن قبله أناس حرروها وما بأيديهم شهادات عالية، وطاف يبغي عملا فسدت في وجهه السبل، فلجأ إلى حياة التشرد فأخذ يبيت عند هذا ليلة، وعند ذاك ليلة، حتى اجتواه من كان له محباً، ومله من كان به معجباً، ونبا به المقام، واعترته الهموم والأسقام، ووسط أناساً ليصلوا بينه وبين والده فلم يوفق، وطفق يتوسل إلى أحد النواب ليجد له وظيفة، والنائب المحترم يراوغه أو يتهرب منه، حتى عد نفسه شقياً لا مكان له في هذه الدنيا الواسعة.
وذات يوم سأل عنه ذلك النائب ليزف إليه البشرى بالوظيفة المبتغاة، فأخبر بمرضه فطوى البشرى، وتركه لدائه وبلواه. لقد أصيب بالسل ونزل المستشفى للعلاج، وهيهات هيهات أن ينجو منه، ومن أين له بجسم يقاوم ذلك الداء. . . وأخيراً عجز الطب والأطباء.
وذات يوم حضر والده ليرى ابنه محمولاً على الأعناق، ولكن في هذه المرة إلى بطن الأرض، فقد آن له أن يستريح من ظهرها.
السيد حسن قرون
السجن ودعابة الشاعر
(أنا لست محتالاً. أنا شاعر أحب أن أداعب المجتمع. وهل دعابة الشاعر جرم؟)
هكذا وقف (فاومستينو فالانتين) أمام المحكمة في إحدى مدن الأندلس منذ أيام يناشد القضاة بأن يغفروا له دعابة شعرية من نوع غريب.
فقد أبى شيطان الشعر لهذا المواطن الأندلسي الشاب إلا أن ينشر في الناس سلسلة من القصائد الرقيقة يحي بها فتاة فقيرة من اللقطاء تخيلها الشاعر وريثة مال وفير تركه لها والدها الحقيقي وهو ماركيز إسباني من طبقة الأشراف. وبلغ من جمال هذه القصائد أنها رسخت في عقول الناس على أنها قصة حقيقية. وساعد على ذلك أن الشاعر استعمل أسماء لأشخاص حقيقيين فآمنت بها الفتاة وآمن بها أحد البنوك الإسبانية فوضع تحت تصرف الفتاة مبلغاً وفيراً من المال يساعدها على أن تهيئ نفسها لتلقي الإرث العظيم ريثما تفرغ الإجراءات الحكومية التي تصاحب عادة نظام الوراثة في إسبانيا.
وعاشت هذه الفتاة اللقيطة خمسة عشر يوماً عيشة المترفين من النبلاء وأصحاب الألقاب الرفيعة بعد أن أثبت صاحبنا الشاعر في قصائده نبل محتدها ونسبها الرفيع.
ثم تبين للبنك أن نسب الفتاة وإرثها المنتظر لا وجود له إلا في مخيلة الشاعر. فقاضى البنك الشاعر أمام المحاكم المدنية بدعوى الاحتيال والتزوير، وقال المدعي العام إن خيال الشاعر يجب أن يتطرف بحيث يستغل ظروفا تعسة لفتاة فقيرة ويشهر بها على أنها لقيطة، ثم يدخل السعادة المزيفة إلى قلبها في دعابة شعرية (شيطانية) متقنة بحيث أقنعت أشد القلوب قساوة: قلوب الصيارفة وأصحاب البنوك - فأضاعت عليهم مبلغاً من المال قدموه للفتاة (الوارثة) فأنفقته في ثورة ترف وبذخ طارئ
وطلبت المحكمة قبل إصدار القرار من الفتاة أن تدلي بشهادتها فقالت: أجل لقد كذب هذا الشاعر، ولكن أليس من الممكن أن تكون قصته عن أصلي وفصلي وإرثي حقيقية؟ وبعد فلم يصيبني من دعابته الشعرية أذى فإني شاكرة له أن أتاح لي تذوق حياة الأشراف المترفين خمسة عشر يوماً هي أيام لم يقو خيالي على أن يتصورها قبل أن آل إلى هذا الإرث الشعري الجميل
ويبدو أن القضاة في هذه المدينة الأندلسية لم يكونوا على قسط كاف من الإحساس الشعري، يدركون به قوة شيطان الشعر، فحكموا على الشاعر بالسجن بضعة أشهر وبالغرامة المالية أيضاً.
مجلة الرسالة - العدد 1018
بتاريخ: 05 - 01 - 1953
لكنه على حين غفلةأصبح زعيم الطلبة. أما كيف سار إلى هذا المركز فهذا ما يحتاج إلى حديث. لقد جاءه الوحي بالزعامة، والمدرس يشرح الدرس، وما من شك في إنه لم يسمع كلمة، ولم يرى أحد ممن حوله فقد كان في شغل شاغل، طوح به بعيد عن المدرسة والدراسة، فلما دق الجرس، وطار الطلبة إلى الفناء تخلف عنهم قليلاً، ولما تأكد من خلو الفصول من طلابها صاح بأعلى صوته: ليسقط الاستعمار! ليسقط (صمويل هور)! ونظر الطلبة إليه وسمعوه يردد الهتاف مرة ومرة، فهرعوا إليه يرددون نداءه ثم خطب خطبته المشهورة - كما يقال في الزمن القديم - ودعاهم إلى الثورة، وترك العلم، وقفز إلى خارج المدرسة، وهتافه لا ينقطع ولا يفتر، اندفع وراءه جمهور الطلاب، وسارت المظاهرة تجوب شوارع أسيوط، وتعرج من حين إلى حين على مدرسة في طريقها، فتخرج طلابها. وهكذا تضخمت المظاهرة، وشق هتافها عنان السماء - كما تقول الصحف - وكان الناس يرون طالبا محمولا على الأعناق يكاد يخرج من جلده، وهو يصيح بسقوط الاستعمار. . وانتهى بزعامة جديدة تضاف إلى الزعامات القديمة. ومن هذا اليوم اشتهر الأستاذ (بهلول) وهذا اسمه، وعرفته المدينة ثائراً لا يهدأ، وخطيبا لا يسكت، وزعيما سياسيا لا يعجز عن حل المعضلات. وأنت تعلم تماما أن الزعماء يشقون طريقهم إلى المجد بالعرق والدموع، ولا يصلون إلى الصفوف الأولى إلا بعد أن يصبح النهار بسواد شعرهم، ولكنه - أي زعيم الطلبة - خرج هكذا فكان زعيماً زعيماً! مطبوعا قاد الطلاب في صباه، وحير البوليس بأساليبه وألاعيبه، ويقال: إن الزعيمينبغي أن يكون قوى الجسم، ضخم الجثة، ريان العود، حاد النظر، جهوري الصوت، حتى يسحر الجماهير. وأنا أعترف لك ولا أحلف بأن زعيم الطلبة حرم تلك الميزات، فقد كان نحيلا، ولو توكأ عليه طالب بالسنة الأولى الابتدائية لانهدم، وقميئا تقتحمه عيون الأطفال بلا مبالاة، وله عينان بارزتان في استحياء، وفم انفرج من كثرة الثرثرة والنداء، وله صوت لا يصلح للغناء، ومع هذا كله كان نشيطا سليطا يروع حفظه الأمن، لا يكل ولا يمل، فهوشعلة متقدة، تراه في ناد وبعد قليل في مقهى. واتسعت دائرة شهرته، فلا يقام حفل إلا كان من خطبائه، ولا يجتمع للتشاور جماعة إلا كان بينهم، وإذا تحدث إليك افاض في الحديث؛ فهو ملم بأخبار الكرة الأرضية دولة دولة وزعيماً زعيماً، ولا باس أن يحدثك عن الجان ويأجوج ومأجوج؛ لأنه يحب الثقافة العامة ولا يقف عند أمر من الأمور، وكان يقول: إن لكل شئ موضعاً.
وتوالت الأحداث - ولا أحداث هناك - وإذا بالأستاذ بهلول يصر على الثورة والتظاهر، وإذا بالبوليس يقف منه موقفا شاذاً، ولكنه لا يتراجع، ينتهي الأمر بالقبض عليه.
والقبض على زعيم الطلبة معناه الثورة، والثورة الجامحة الطامحة! وأضرب احتجاجا على إهانة زعيمهم، وسرعان ما أفرج عنه، واستقبلوه هاتفين وحملوه على الأعناق. ونظر إلى نفسه فداخله الغرور، أو قل إنها الثقة والطموح، وفكر في زعامته فوجد مدينته لا تصلح لها، وأنه في حاجة إلى أفق رحيب ومجال واسع، فلا يليق بعدما بلغ ما بلغ أن يستقر على حاله تلك فلينتقل إذن إلى العاصمة، في شوق إلى أمثاله.
ونظر إخوانه ذات يوم فلم يجدوا زعيمهم، وانتظروا أخباره، ولكنها بعدت حين يطول أو يقصر وصلت عه الأنباء عاطرة بذكره، تشيد بأعماله الكبار فقد دخل القاهرة دخول الظافرين، فجاب أنحاءها، ولما يسترح، وهاجم نوادي الأحزاب ولما ينفض غبار السفر، ولم يلتفت إلى ما حوت من جمال وحضارة، ولم يفكر في متحف أو ملهى، فالأمر أجل من ذلك خطراً، ولم يضيع الفرصة وهي سانحة، ولم يؤخر عمل اليوم إلى غد، وحياة الزعماء تعد بالدقائق والثواني. ولما كان في فطرته الثورة، فقد انضم إلى حزب المعارضة. وابتدأ العمل، وأتخذ الفنادق مأوى، والمقاهي مورداً، ولم يستطع في بادئ الأمر أن يزاحم الأحزاب، فالأحزاب مليئة بالشباب الثائر الفائر، والبلغاء الأنبياء، وما عليه أن يكون هتافا، وهو واثق من نفسه على كل حال، وقد عرفه الناس جريئا يتوجه إلى رئيس الحزب، فيهنئه بسحر البيان وقوة المنطق، ورئيس الحزب في غنى عن إطرائه وثنائه، ولكن الزعامة لا تقيد - كما كان يقول الأستاذ حافظ عوض في ذلك الزمان.
ولم يمض على الأستاذ بهلول شهران حتى صادفته عقبات - ككل الزعماء - فقد أصبح خالي الوفاضلا يملك من المالشيئا، فقد انقطع بر والده به، ووالده غير ملوم فيما فعل، فهو مستعد للإنفاق على ابنه ما طلب العلم، أما أن يهرب من المدرسة فما له بين يديه لا يرسله إليه. وفكر في شأن والده فرآه على ضلال مبين. لا يقدر الأمور قدرها، ولا يحسب للوطن حسابا. إنه ذو أثرة يقدم منفعته على منفعة الوطن. وما فائدة العلم في بلد محتل! ومن أين علم أن ابنه يعيش حتى ثمرة تعليمه، لقد وهب للوطن نفسه ويود أن يسقي شجرة الحرية بدمائه، ومع ذلك فهو على جاب كبير من المعرفة، فهو يستطيع أن يكتب ويخطب ويجادل، ولا يعيا ببرهان. ماذا ينقصه؟ ولو كان والده على علم بما يجول بخاطره، أو يفكر في مستقبل وطنه ما وقف ذلك الموقف الشائن! ولأغدق عليه النعم، فما هجر العلم ليلهو ويلعب، وما لنفسه بغي الخير إن الوطن قد ناداه فلبى النداء، ودعاه فأجاب الدعاء. والوطن أكبر من الوالدين، وأسبق منهما وجوداً، وأجدر بالبر والطاعة.
ثم قام من مكانه. ومضى في طريقه لا يلوي على شئ، ولا يحفل بشيء، تمر عليه الدور والقصور ولا يعبأ بها، وتجري حوله السيارات ذاهبة آيبة، ولا تحرك منه ساكناً. إن شؤون الوطن قد ملأت شعاب قلبه، وحاطها بشغافه، ولم تعد هناك متسع لغيرها وفجأة وجد نفسه أمام قصر عابدين لمرآه، وتيقظ تيقظا شديداً، وسمرت عيناه في شرفته، وأراد أن يتكلم، فجذبه الخوف جذبة أماتت الكلمات بين شفتيه، وبدا له أن يطوف حوله، فأدى الطواف مغيظ محنقاً، ثم تابع السير حتى ألقى بنفسه في مقهى متواضع دخله لأول مرة؛ واتخذ له مكانا بعيدا عن الناس فقد عاوده الحنين إلى الوحدة؛ وحدثته نفسه أن ينقد رواد المقهى؛ فوجد الصحف المسائية أمامه على المنضدة بجوار الصينية وأخذ يقرأ حتى منتصف الليل؛ وصاح صاحب المقهى يأمر بإغلاق الأبواب. فلما أحس تلك الصيحة نهض متثاقلا يجر رجليه جراً.
ماذا يفعل؟ إ ن ما معه من النقد لا يقوم بأمره. أيذهب إلى صديق ليقضي عنده بقية الليل؟ ولم لا يوافق على هذه الفكرة. أيسير في الشوارع إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا؟ وهنا هز رأسه علامة الرضا؛ وسار يقطع الطرقات؛ ويحادث العسس؛ ويرمق السيارات وراكبيها؛ واحتجت مبادئه السامية؛ فلعن القدر وحياته الفاشلة. ثم سكنت المدينة وهو يدب في أحيائها وحيداً شريداً.
واستقبل الصباح خائراً كئيباً، لا تكاد تحمله قدماه، وعلى غير وعي ألفى نفسه في مقهاه، وشرب شايا ممزوجا باللبن، وقرأ صحف الصباح بالمجان. فلما متع النهار شد جسمه إلى السير، والسير المجهول، ومضى في طريقه تتناوشه الأفكار السود من كل جانب. ومرت فكرة عن حزبه مر المجانب، ففرح باحتجابها، فقد يئس منه كل اليأس. وفجأة سمع هتافاُ حارا، فاندفع نحوه بما يملك من قوة فوجد ضالته المنشودة، وجد مظاهرة كبرى، فاندمج فيها كأنه محركها، وما هي إلا هنيهة حتى كان على الأعناق يهتف وينادي بسقوط الحكومة، ولم يقف البوليس مكتوف اليدين، بل فرق المظاهرة وقبض على زعماء الحركة وفي مقدمتهم زعيم الطلبة. وفرح جدا حين اقتحم باب السجن كأنه مجرم تعود حياة السجون، وبات ليله يغط في نوم عميق، ولم ير الشمس حين أشرقت بنور ربها، ولكنه أحس بها من داخل قلبه، وشعر بارتياح عظيم، وقدم إليه طعام غير طعام السجن فرضي عن نفسه وعن حزبه، ومرت عليه خواطر بيضاء، وأحلام حلوة. ولم يخرج من السجن إلا يوم سقوط الحكومة. وخرج ليكون من المجاهدين.
لقد كان سجنه نقطة تحول في حياته، فقد أصبح يجد المال ميسراً، وأصبح خطيبا يشار إليه بالبنان، يتحدث عن الاعتقال، والصبر على الاعتقال، وحاجة الوطن إلى فدائيين. وأقبلت الانتخابات فخاض غمارها داعياً وهاتفاً، وامتطى الطيارة مع أحد المرشحين، وأطل من عل على المدائن والقرى، والرداء الأخضر الذي يتشح به النيل، وذاق النعيم، وصار كالفراش يتنقل على موائد العمد والأعيان، وأخذ يواصل العمل ليلا ونهاراً. حتى إذا انتهت أيام الانتخابات - وليتها لم تنته - عاد إلى القاهرة ليتخذ دار الحزب مثابة وأمناً.
هل دامت الحياة السعيدة لزعيم الطلبة؟ إن الدهر حول قلب، وخلائق الدنيا خلائق مومس - كما يقول الشريف الرضي - فقد انقطع عنه ما كان يتقاضاه، وران على الحزب سكون رهيب، ولم يهش لاستقبال أبطاله، وفكر قليلاً في ركود الحزب، ولكنه نوى الرحيل.
أتضيق القاهرة على زعيم الطلبة؟ غداً يذهب إلى المدارس والكليات عله يجد ما يتمنى، ونفذ ما أرتاه. فلم يجد سميعاً ولا مطيعاً، وحمد الله أن نجا بجلده من مخالب البوليس. وما له لا يكون صحفياً، وقد كتب مقالاً في الأهرام بإمضاء مستعار، فيذهب إلىدور الصحف، ومن قبله أناس حرروها وما بأيديهم شهادات عالية، وطاف يبغي عملا فسدت في وجهه السبل، فلجأ إلى حياة التشرد فأخذ يبيت عند هذا ليلة، وعند ذاك ليلة، حتى اجتواه من كان له محباً، ومله من كان به معجباً، ونبا به المقام، واعترته الهموم والأسقام، ووسط أناساً ليصلوا بينه وبين والده فلم يوفق، وطفق يتوسل إلى أحد النواب ليجد له وظيفة، والنائب المحترم يراوغه أو يتهرب منه، حتى عد نفسه شقياً لا مكان له في هذه الدنيا الواسعة.
وذات يوم سأل عنه ذلك النائب ليزف إليه البشرى بالوظيفة المبتغاة، فأخبر بمرضه فطوى البشرى، وتركه لدائه وبلواه. لقد أصيب بالسل ونزل المستشفى للعلاج، وهيهات هيهات أن ينجو منه، ومن أين له بجسم يقاوم ذلك الداء. . . وأخيراً عجز الطب والأطباء.
وذات يوم حضر والده ليرى ابنه محمولاً على الأعناق، ولكن في هذه المرة إلى بطن الأرض، فقد آن له أن يستريح من ظهرها.
السيد حسن قرون
السجن ودعابة الشاعر
(أنا لست محتالاً. أنا شاعر أحب أن أداعب المجتمع. وهل دعابة الشاعر جرم؟)
هكذا وقف (فاومستينو فالانتين) أمام المحكمة في إحدى مدن الأندلس منذ أيام يناشد القضاة بأن يغفروا له دعابة شعرية من نوع غريب.
فقد أبى شيطان الشعر لهذا المواطن الأندلسي الشاب إلا أن ينشر في الناس سلسلة من القصائد الرقيقة يحي بها فتاة فقيرة من اللقطاء تخيلها الشاعر وريثة مال وفير تركه لها والدها الحقيقي وهو ماركيز إسباني من طبقة الأشراف. وبلغ من جمال هذه القصائد أنها رسخت في عقول الناس على أنها قصة حقيقية. وساعد على ذلك أن الشاعر استعمل أسماء لأشخاص حقيقيين فآمنت بها الفتاة وآمن بها أحد البنوك الإسبانية فوضع تحت تصرف الفتاة مبلغاً وفيراً من المال يساعدها على أن تهيئ نفسها لتلقي الإرث العظيم ريثما تفرغ الإجراءات الحكومية التي تصاحب عادة نظام الوراثة في إسبانيا.
وعاشت هذه الفتاة اللقيطة خمسة عشر يوماً عيشة المترفين من النبلاء وأصحاب الألقاب الرفيعة بعد أن أثبت صاحبنا الشاعر في قصائده نبل محتدها ونسبها الرفيع.
ثم تبين للبنك أن نسب الفتاة وإرثها المنتظر لا وجود له إلا في مخيلة الشاعر. فقاضى البنك الشاعر أمام المحاكم المدنية بدعوى الاحتيال والتزوير، وقال المدعي العام إن خيال الشاعر يجب أن يتطرف بحيث يستغل ظروفا تعسة لفتاة فقيرة ويشهر بها على أنها لقيطة، ثم يدخل السعادة المزيفة إلى قلبها في دعابة شعرية (شيطانية) متقنة بحيث أقنعت أشد القلوب قساوة: قلوب الصيارفة وأصحاب البنوك - فأضاعت عليهم مبلغاً من المال قدموه للفتاة (الوارثة) فأنفقته في ثورة ترف وبذخ طارئ
وطلبت المحكمة قبل إصدار القرار من الفتاة أن تدلي بشهادتها فقالت: أجل لقد كذب هذا الشاعر، ولكن أليس من الممكن أن تكون قصته عن أصلي وفصلي وإرثي حقيقية؟ وبعد فلم يصيبني من دعابته الشعرية أذى فإني شاكرة له أن أتاح لي تذوق حياة الأشراف المترفين خمسة عشر يوماً هي أيام لم يقو خيالي على أن يتصورها قبل أن آل إلى هذا الإرث الشعري الجميل
ويبدو أن القضاة في هذه المدينة الأندلسية لم يكونوا على قسط كاف من الإحساس الشعري، يدركون به قوة شيطان الشعر، فحكموا على الشاعر بالسجن بضعة أشهر وبالغرامة المالية أيضاً.
مجلة الرسالة - العدد 1018
بتاريخ: 05 - 01 - 1953
مجلة الرسالة/العدد 1018/طرائف وقصص - ويكي مصدر
ar.wikisource.org