تتعقبني عينان تجريان خلفي أينما ذهبت في سوق المدينة المكتظة بجريان جداول الغادين والرائحين، المتبضعين وقوفا، او الماسحين بنظراتهم كتل الحاجيات المنشورة، او المتكدسة على مناكب الأزقة، او فروع الشوارع الرئيسة.
ألتفت لأجد هيكلا انثويا لا تبرز منه الا عينان نفاذتان ترميان بشررهما نحو وجهي دون انقطاع. وحين اتوقف تتوقف الكتلة السوداء. أتحرك فتتحرك. حتى عمدت الولوج الى شارع فرعي يكاد الزحام ان يتلاشى فيه، مهيئا نفسي الى مواجهة أيقنت انها ستحل دون ريب. وحين توقفت قدماي قبالة واجهة عرض لبدلات اعراس زجاجية تحنطت داخلها فتيات متحضرات بأزيائهن الجميلة المتباينة انعكست صورة المرأة المطاردة في الواجهة الزجاجية حيث ميزت العينين البراقتين تحدقان بوجهي. لم يكن جسد المرأة بعيدا عن لوح ظهري، ميزت فيه الأستقامة والرشاقة وتناسق تقاطعه فكان تركيز نظرتي على تقاطيع الجسد المطارد كوسيلة لرسم شكل قد يميزه عن الأشكال الأخرى التي ملأت سوق المدينة متحدة بكشف العيون وحسب. ورغم ان التركيز على لون العينين ومقاسهما وقوة نفاذهما كان الأجدر ان يؤخذ بالحسبان بدل التمعن في مقاطع الجسد، الا انني وجدتني مأخوذا بحسن تقاطيع جسد المطاردة الممتلئة هيبة واصرارا. وحين وجدتها لا تحرك ساكنا أدركت انها مصرة على محادثتي. ولكي أخلصها من لحظة الأحراج التفت اليها لأتأكد من صحة حدسي فأعلنت عيناها الشروع بالحديث حين اشار لي لحاظ عينيها ان نسير معا جنبا الى جنب ففعلت.
همست بي: ( لا شك انك لا تعرفني، رغم انني اعرفك جيدا.)
لم يكن المكان يدعو الى الحرج في الحوار لقلة زحمته من العيون الأخر. قلت: ( اعذريني، فلم ألحظ فيك الا عينين فقط.) قلت ذلك دون ان التفت اليها، الا انني اسفت لعبارتي العجلى وخشية ان تفهم رغبتي بأزاحة نقاب وجهها فأضفت: ( اعني لا استطيع ان اميز من وجهك غير العينين.)
قالت: ( لك الحق في ذلك، ولكن حتى وان كشفت لك عن كامل وجهي فلن يكن بميسورك ان تخلص الى شيء لأنك لم يسبق لك ان شاهدتني من قبل.)
ألجم قولها لساني وتهت بين طيات مفردات عبارتها وكنت احاول ان اقودها الى مكان اكثر خلوة. وحين اصبح كتفي ملاصقا لكتفها قالت: ( سأختصر لك القول، انا زوجة احد اصدقائك المقربين جدا الى قلبك.) حررني قولها من القيد الذي طوقتني به قبل قليل ورغم ان الغمامة ما زالت تنزل بين وجهينا كستارة من حديد الا ان قلبي اصبح اكثر استقرارا. قلت: ( الآن ارحتني، سامحك الله، فقد كنت كتلة من قلق. انا سعيد بلقائك، هات ما عندك، فأنت الآن جزء مني. زوجة من انت يا سيدتي ؟) هفهف الخمار الاسود عند منطقة الفم مقل ذبذبات أسى فأيقنت انها تزفر حسرة لفها الصمت فتركت لها برهة راحة لتتنفس حين اشحت بوجهي عنها مواصلا المشي جنبا الى جنب معها. وفاجأتني القول: ( زوجي شهيد، ارجو ان لا تتفاجأ. كنت ابحث عنك طيلة عشر سنوات لكي احمل لك وصيته.)
كما لو اطلقت قذيفة نحو صدري. أحسني مضغوط الصدر برحى تكتم علي انفاسي. ما عساني ان افعل وقد غمرني شلال حزن مدمر يخزن في رشقاته وخزان المجهول الذي لم تنكشف اسراره بعد. لم انتظر ان تفصح لي اكثر دون ان اسألها عن الصديق الشهيد فرمتني في الحال بسهم اخترق سويداء قلبي، ووددت لحظتئذ ان اطوقها بذراعي، او اضمها الى صدري، بل احملها واطير بها الى غير هذا المكان الذي لايناسب ذرف الدموع السخية. ترى اين سأذهب بهذه المرأة اللغز التي لم تعد لغزا ! وجدتني احث الخطى فتبعتني مدارية اضطراب حالي. كنت اسير على غير هدى والمرأة لا تفارق خطواتها خطواتي. ولجت سوقا مزدحمة بالناس كنت مضطرا ان ازيح عن كتفي الأكتاف الأخرى، الا ان ما زاد في ارتباكي ان اجد النساء المنقبات - الكتل السود- يعج بها السوق فخشيت ان تضيع مني صاحبة العينين التي ستختلط عيناها بالعيون الأخر، فقد تشابهت العيون والأجساد المتلفعة بالسواد، الا ان زوجة صاحبي كانت تلصق كتفها بكتفي وتجاهد ان لا تضيعني،هي الأخرى.
لم تسألني عن الجهة التي كنت اخطو نحوها، كما انني لم اكن ادري اي مكان سينتهي به مطافنا، والصديق الشهيد قد غاب عني مثل ماء اندلق من بين اصابع كفي، او مثل دخان فر الى اعنان السماء. لم اكن اعرف ما حل به طيلة مكوثي في الجب، وعندما خرجت ضاع مني العديد من الأصدقاء، غير ان صاحب الوصية هذا له شأن آخر معي: اذ كنا نذوب معا في حميمية مطلقة.
ترى أية وصية كتب قبل استشهاده ؟ وكم عانت هذه الزوجة من البحث عن صديق زوجها الذي لم تشاهده قط !
مضينا صامتين، كلانا دائخ لا يعرف بم يبدأ من حديث بعد ان فجرت العينان قنبلتهما بوجهي. احاول ان اجد فسحة خالية تماما من الناس فلم افلح؛ فالناس مزروعون على ارض المدينة. هل ادعوها الى داري؟ هكذا غزا رأسي سؤال مفاجئ لم استطع الأجابة عنه، فرأسي اصبح مثل مرجل كما لو اصبت بحمى شديدة. التفت اليها فتأكلني عيناها. اشحت بوجهي عنها ووددت ان تنطق ولو بكلمة واحدة حين تعذر علي ان اجعل لساني ليفلت مفردة واحدة من أسارها. لكنها كانت تنتظر وحسب. ليس سوى عينين تلسعانني بسياطهما.
فجأة توقفت قدماي قرب موقف لسيارات الأجرة فتسمرت قدماها، هي الأخرى. التفت اليها علها تنطق بكلمة فلم اجد الا الصمت والعينين المطاردتين. تشجعت وتساءلت بصوت اقرب الى الهمس: ( هل يمكنك الذهاب معي الى دارنا ؟) لم يتحرك لسانها سوى انها اخرجت رسالة طوق غلافها اربع طيات ثم قالت: ( الا تقرأ الوصية اولا ؟) تلفت كما لو كنت اخشى مظهر تسليمها الرسالة لي في مثل هذا المكان الا انني عالجت الأمر بخطف الرسالة ودسها في جيبي وتساءلت: ( هل يحرجك الذهاب معي الى داري ؟) هزت رأسها كمن لا تدري ما تقول، الا انها قالت بعد حين: ( ليست مسألة احراج، فأنا اعرف جيدا، اعني اصبحت اعرف جيدا من تكون بالنسبة لي، الا انني ارتأي ان تقرأ الوصية اولا على امل ان نلتقي في وقت لاحق.) ضغطت على كفي فضغطت كفي على الرسالة حيث كنت اتحسس ثقل كلماتها محشورة في جيبي، وداهمني شيء من خوف، او اقرب الى ذلك. شيء لا اعرف كنهه، شيء مبهم غريب جعلني ادس كفي في جيبي كمن يحاول ان يتلمس شيئا قابلا للأنفجار، وسمعتها تهمس بي: ( أفضل ان تقرأ الوصية في مكان آخر.)
زادت عبارتها الأخيرة من مخاوفي واشتدت اوتار حيرتي وانتابني قلق شديد، وكأنها ادركت قلقي فأضافت: ( ليس في الوصية ما يقلق، لكنني أفضل ان تقرأها في مكان مناسب.) ادركت انها تحاول ان تخفف من موجة قلقي، او لربما كانت محقة كون الوصية العزيزة لا بد ان يحتضنها مكان لائق بها. لم اعد قادرا ان اضيف شيئا آخر؛ فقد ازفت ساعة الفراق وعلي ان اختصر الوقت لأريح زوجة صاحبي واريح نفسي لأعجل بالأختلاء مع نفسي والوصية العزيزة.
اعطتني عنوان دارها ورقم هاتفها واتفقنا ان نلتقي يوم غد في دارها فافترقنا.
*******************
الج غرفتي مطاردا بأشباح جعلتني مرغما ان ارمي - الوصية - على سرير نومي واوصد الباب على عجل ثم اغلقه بالمفتاح. اجلس على طرف السرير مشوش الذهن فيما الورقة المطوية تستفزني، حيث اشعر بعيون عديدة واسعة تنبثق من اعماق الورقة تكاد تلتهمني وانا عاجز ان امد يدي اليها. فجأة انهض باحثا عن صور ورسائل من بين اكداس من سفر الماضي المؤطر بعذابات الدنيا فأفلح بعد جهد جهيد بلصق صور الغائب الحاضر على جدران الغرفة وانثر رسائله على سريري ثم اعود الى طرف السرير لأفتقده محدقا بظلال الماضي، مستعرضا العيون المزروعة بالجدران فيما اختلس النظر، بين حين وآخر الى الورقة المضطجعة على الفراش كجثة مغطاة بملاءة بيضاء تنتظر ازاحة النقاب كي تنطق. اضع كفي على فراش السرير، ادفع بها ببطء متحرشا بالورقة الصامتة، حتى اذا ما شارفت اناملي على تخومها انسحبت فجأة لتعاود زحفها النملي مجددا. وحين افشل في ازاحة الكفن عن الجسد الممدد امامي انهض فتقطع الأنفاس لألصق عيني بجدران الغرفة كالمستغيث، الا انني اسمع صوتا يتسلق ظهري: (.... وسألتني مرة من منا سيموت قبل الآخر...) استدير بجسدي الى الخلف لأجد الورقة مبسوطة امام عيني. لا ادري من فض غلافها واطلق الصوت من اعماق التابوت. امعن النظر بالأسطر التي احس بها تتحرك لتواصل النطق: ( انا لا اشك بذاكرتك ابدا. ها انا على مشارف الموت في زنزانة الأعدام، واول ما خطر ببالي هذا السؤال دون غيره من الأمور الأخرى الهامة.لقد سبقتني الى زنازين العذاب، ولست ادري ما حل بك... اعني ما زال سؤالك قائما، من ترى سيكون له قصب السبق بالشهادة! ها انا اؤكد مواصلتك بالحياة اصرارا مني ان يكون واحد منا على قيد الحياة. اكتب اليك بكل عناد لأبعد شبح الموت عنك.... ولأنك ايضا كنت الوحيد من بين اقرانك من كان يرفض الأقتران بأمرأة في مثل هذا الظرف غير المعقول.... اذكر جيدا ما كنت تقوله لنا.... ايخرج من صلبي مخلوق اقدمه ضحية لهؤلاء.... هكذا نجحت بأختيارك للذات، ذاتك العنيدة..... اصرارك على ان لا تبيح لنفسك ايذاء الآخرين حيث كنت لا تريد لشريكة حياتك ان تتقاسمك طريق الأشواك. قلت، وكتبت اشياء عديدة استجمعها الآن في ذاكرتي لأعترف بصواب رأيك...)
فجأة انسحب من حضرة صاحبي واعود الى الجدران لأحتمي بها. اتطلع مجددا الى الصور، متوسلا ان تكف عن تعذيبي... لا ادري ما سأفعل بأزاحة هذا الجبل الجاثم على صدري. اشعر بالأختناق فأود لو افتح النوافذ لتلفح وجهي نسمة هواء باردة لكنني لم اقو على ذلك، حين اصبحت الغرفة الآن ملك غيري، لكن الصوت عاد مجددا ليتسلق ظهري: (ماذا اقول لك والوقت قصير وخطوات الجلاد على مقربة من باب الزنزانة. ها انا انادي عليك قبل ان ينادى علي... اني التمسك العذر بما اوصيك به... ليس بيدي حيلة ...انه امر لا اقوى على صده.... انه قرار نابع من القلب فلا تلمني، او تحاججني، فالحبل يدنو من رقبتي ...لن اضيف شيئا آخر الى ماسأوصيك به الآن. كنت واثقا بأنك ستنجو من الموت لأنني واياك لن يحملنا الا تابوت واحد.... اوصيك ان تتحمل- الخطيئة - التي رفضتها من قبل... ان تقترن بأمرأة.... خذ زوجتي مني قبل ان يأخذها شخص آخر... لقد كتبت لها وصية مرادفة لوصيتك فتحملا معا، انتما الأثنين خطيئتي!
مجيد جاسم العلي
ألتفت لأجد هيكلا انثويا لا تبرز منه الا عينان نفاذتان ترميان بشررهما نحو وجهي دون انقطاع. وحين اتوقف تتوقف الكتلة السوداء. أتحرك فتتحرك. حتى عمدت الولوج الى شارع فرعي يكاد الزحام ان يتلاشى فيه، مهيئا نفسي الى مواجهة أيقنت انها ستحل دون ريب. وحين توقفت قدماي قبالة واجهة عرض لبدلات اعراس زجاجية تحنطت داخلها فتيات متحضرات بأزيائهن الجميلة المتباينة انعكست صورة المرأة المطاردة في الواجهة الزجاجية حيث ميزت العينين البراقتين تحدقان بوجهي. لم يكن جسد المرأة بعيدا عن لوح ظهري، ميزت فيه الأستقامة والرشاقة وتناسق تقاطعه فكان تركيز نظرتي على تقاطيع الجسد المطارد كوسيلة لرسم شكل قد يميزه عن الأشكال الأخرى التي ملأت سوق المدينة متحدة بكشف العيون وحسب. ورغم ان التركيز على لون العينين ومقاسهما وقوة نفاذهما كان الأجدر ان يؤخذ بالحسبان بدل التمعن في مقاطع الجسد، الا انني وجدتني مأخوذا بحسن تقاطيع جسد المطاردة الممتلئة هيبة واصرارا. وحين وجدتها لا تحرك ساكنا أدركت انها مصرة على محادثتي. ولكي أخلصها من لحظة الأحراج التفت اليها لأتأكد من صحة حدسي فأعلنت عيناها الشروع بالحديث حين اشار لي لحاظ عينيها ان نسير معا جنبا الى جنب ففعلت.
همست بي: ( لا شك انك لا تعرفني، رغم انني اعرفك جيدا.)
لم يكن المكان يدعو الى الحرج في الحوار لقلة زحمته من العيون الأخر. قلت: ( اعذريني، فلم ألحظ فيك الا عينين فقط.) قلت ذلك دون ان التفت اليها، الا انني اسفت لعبارتي العجلى وخشية ان تفهم رغبتي بأزاحة نقاب وجهها فأضفت: ( اعني لا استطيع ان اميز من وجهك غير العينين.)
قالت: ( لك الحق في ذلك، ولكن حتى وان كشفت لك عن كامل وجهي فلن يكن بميسورك ان تخلص الى شيء لأنك لم يسبق لك ان شاهدتني من قبل.)
ألجم قولها لساني وتهت بين طيات مفردات عبارتها وكنت احاول ان اقودها الى مكان اكثر خلوة. وحين اصبح كتفي ملاصقا لكتفها قالت: ( سأختصر لك القول، انا زوجة احد اصدقائك المقربين جدا الى قلبك.) حررني قولها من القيد الذي طوقتني به قبل قليل ورغم ان الغمامة ما زالت تنزل بين وجهينا كستارة من حديد الا ان قلبي اصبح اكثر استقرارا. قلت: ( الآن ارحتني، سامحك الله، فقد كنت كتلة من قلق. انا سعيد بلقائك، هات ما عندك، فأنت الآن جزء مني. زوجة من انت يا سيدتي ؟) هفهف الخمار الاسود عند منطقة الفم مقل ذبذبات أسى فأيقنت انها تزفر حسرة لفها الصمت فتركت لها برهة راحة لتتنفس حين اشحت بوجهي عنها مواصلا المشي جنبا الى جنب معها. وفاجأتني القول: ( زوجي شهيد، ارجو ان لا تتفاجأ. كنت ابحث عنك طيلة عشر سنوات لكي احمل لك وصيته.)
كما لو اطلقت قذيفة نحو صدري. أحسني مضغوط الصدر برحى تكتم علي انفاسي. ما عساني ان افعل وقد غمرني شلال حزن مدمر يخزن في رشقاته وخزان المجهول الذي لم تنكشف اسراره بعد. لم انتظر ان تفصح لي اكثر دون ان اسألها عن الصديق الشهيد فرمتني في الحال بسهم اخترق سويداء قلبي، ووددت لحظتئذ ان اطوقها بذراعي، او اضمها الى صدري، بل احملها واطير بها الى غير هذا المكان الذي لايناسب ذرف الدموع السخية. ترى اين سأذهب بهذه المرأة اللغز التي لم تعد لغزا ! وجدتني احث الخطى فتبعتني مدارية اضطراب حالي. كنت اسير على غير هدى والمرأة لا تفارق خطواتها خطواتي. ولجت سوقا مزدحمة بالناس كنت مضطرا ان ازيح عن كتفي الأكتاف الأخرى، الا ان ما زاد في ارتباكي ان اجد النساء المنقبات - الكتل السود- يعج بها السوق فخشيت ان تضيع مني صاحبة العينين التي ستختلط عيناها بالعيون الأخر، فقد تشابهت العيون والأجساد المتلفعة بالسواد، الا ان زوجة صاحبي كانت تلصق كتفها بكتفي وتجاهد ان لا تضيعني،هي الأخرى.
لم تسألني عن الجهة التي كنت اخطو نحوها، كما انني لم اكن ادري اي مكان سينتهي به مطافنا، والصديق الشهيد قد غاب عني مثل ماء اندلق من بين اصابع كفي، او مثل دخان فر الى اعنان السماء. لم اكن اعرف ما حل به طيلة مكوثي في الجب، وعندما خرجت ضاع مني العديد من الأصدقاء، غير ان صاحب الوصية هذا له شأن آخر معي: اذ كنا نذوب معا في حميمية مطلقة.
ترى أية وصية كتب قبل استشهاده ؟ وكم عانت هذه الزوجة من البحث عن صديق زوجها الذي لم تشاهده قط !
مضينا صامتين، كلانا دائخ لا يعرف بم يبدأ من حديث بعد ان فجرت العينان قنبلتهما بوجهي. احاول ان اجد فسحة خالية تماما من الناس فلم افلح؛ فالناس مزروعون على ارض المدينة. هل ادعوها الى داري؟ هكذا غزا رأسي سؤال مفاجئ لم استطع الأجابة عنه، فرأسي اصبح مثل مرجل كما لو اصبت بحمى شديدة. التفت اليها فتأكلني عيناها. اشحت بوجهي عنها ووددت ان تنطق ولو بكلمة واحدة حين تعذر علي ان اجعل لساني ليفلت مفردة واحدة من أسارها. لكنها كانت تنتظر وحسب. ليس سوى عينين تلسعانني بسياطهما.
فجأة توقفت قدماي قرب موقف لسيارات الأجرة فتسمرت قدماها، هي الأخرى. التفت اليها علها تنطق بكلمة فلم اجد الا الصمت والعينين المطاردتين. تشجعت وتساءلت بصوت اقرب الى الهمس: ( هل يمكنك الذهاب معي الى دارنا ؟) لم يتحرك لسانها سوى انها اخرجت رسالة طوق غلافها اربع طيات ثم قالت: ( الا تقرأ الوصية اولا ؟) تلفت كما لو كنت اخشى مظهر تسليمها الرسالة لي في مثل هذا المكان الا انني عالجت الأمر بخطف الرسالة ودسها في جيبي وتساءلت: ( هل يحرجك الذهاب معي الى داري ؟) هزت رأسها كمن لا تدري ما تقول، الا انها قالت بعد حين: ( ليست مسألة احراج، فأنا اعرف جيدا، اعني اصبحت اعرف جيدا من تكون بالنسبة لي، الا انني ارتأي ان تقرأ الوصية اولا على امل ان نلتقي في وقت لاحق.) ضغطت على كفي فضغطت كفي على الرسالة حيث كنت اتحسس ثقل كلماتها محشورة في جيبي، وداهمني شيء من خوف، او اقرب الى ذلك. شيء لا اعرف كنهه، شيء مبهم غريب جعلني ادس كفي في جيبي كمن يحاول ان يتلمس شيئا قابلا للأنفجار، وسمعتها تهمس بي: ( أفضل ان تقرأ الوصية في مكان آخر.)
زادت عبارتها الأخيرة من مخاوفي واشتدت اوتار حيرتي وانتابني قلق شديد، وكأنها ادركت قلقي فأضافت: ( ليس في الوصية ما يقلق، لكنني أفضل ان تقرأها في مكان مناسب.) ادركت انها تحاول ان تخفف من موجة قلقي، او لربما كانت محقة كون الوصية العزيزة لا بد ان يحتضنها مكان لائق بها. لم اعد قادرا ان اضيف شيئا آخر؛ فقد ازفت ساعة الفراق وعلي ان اختصر الوقت لأريح زوجة صاحبي واريح نفسي لأعجل بالأختلاء مع نفسي والوصية العزيزة.
اعطتني عنوان دارها ورقم هاتفها واتفقنا ان نلتقي يوم غد في دارها فافترقنا.
*******************
الج غرفتي مطاردا بأشباح جعلتني مرغما ان ارمي - الوصية - على سرير نومي واوصد الباب على عجل ثم اغلقه بالمفتاح. اجلس على طرف السرير مشوش الذهن فيما الورقة المطوية تستفزني، حيث اشعر بعيون عديدة واسعة تنبثق من اعماق الورقة تكاد تلتهمني وانا عاجز ان امد يدي اليها. فجأة انهض باحثا عن صور ورسائل من بين اكداس من سفر الماضي المؤطر بعذابات الدنيا فأفلح بعد جهد جهيد بلصق صور الغائب الحاضر على جدران الغرفة وانثر رسائله على سريري ثم اعود الى طرف السرير لأفتقده محدقا بظلال الماضي، مستعرضا العيون المزروعة بالجدران فيما اختلس النظر، بين حين وآخر الى الورقة المضطجعة على الفراش كجثة مغطاة بملاءة بيضاء تنتظر ازاحة النقاب كي تنطق. اضع كفي على فراش السرير، ادفع بها ببطء متحرشا بالورقة الصامتة، حتى اذا ما شارفت اناملي على تخومها انسحبت فجأة لتعاود زحفها النملي مجددا. وحين افشل في ازاحة الكفن عن الجسد الممدد امامي انهض فتقطع الأنفاس لألصق عيني بجدران الغرفة كالمستغيث، الا انني اسمع صوتا يتسلق ظهري: (.... وسألتني مرة من منا سيموت قبل الآخر...) استدير بجسدي الى الخلف لأجد الورقة مبسوطة امام عيني. لا ادري من فض غلافها واطلق الصوت من اعماق التابوت. امعن النظر بالأسطر التي احس بها تتحرك لتواصل النطق: ( انا لا اشك بذاكرتك ابدا. ها انا على مشارف الموت في زنزانة الأعدام، واول ما خطر ببالي هذا السؤال دون غيره من الأمور الأخرى الهامة.لقد سبقتني الى زنازين العذاب، ولست ادري ما حل بك... اعني ما زال سؤالك قائما، من ترى سيكون له قصب السبق بالشهادة! ها انا اؤكد مواصلتك بالحياة اصرارا مني ان يكون واحد منا على قيد الحياة. اكتب اليك بكل عناد لأبعد شبح الموت عنك.... ولأنك ايضا كنت الوحيد من بين اقرانك من كان يرفض الأقتران بأمرأة في مثل هذا الظرف غير المعقول.... اذكر جيدا ما كنت تقوله لنا.... ايخرج من صلبي مخلوق اقدمه ضحية لهؤلاء.... هكذا نجحت بأختيارك للذات، ذاتك العنيدة..... اصرارك على ان لا تبيح لنفسك ايذاء الآخرين حيث كنت لا تريد لشريكة حياتك ان تتقاسمك طريق الأشواك. قلت، وكتبت اشياء عديدة استجمعها الآن في ذاكرتي لأعترف بصواب رأيك...)
فجأة انسحب من حضرة صاحبي واعود الى الجدران لأحتمي بها. اتطلع مجددا الى الصور، متوسلا ان تكف عن تعذيبي... لا ادري ما سأفعل بأزاحة هذا الجبل الجاثم على صدري. اشعر بالأختناق فأود لو افتح النوافذ لتلفح وجهي نسمة هواء باردة لكنني لم اقو على ذلك، حين اصبحت الغرفة الآن ملك غيري، لكن الصوت عاد مجددا ليتسلق ظهري: (ماذا اقول لك والوقت قصير وخطوات الجلاد على مقربة من باب الزنزانة. ها انا انادي عليك قبل ان ينادى علي... اني التمسك العذر بما اوصيك به... ليس بيدي حيلة ...انه امر لا اقوى على صده.... انه قرار نابع من القلب فلا تلمني، او تحاججني، فالحبل يدنو من رقبتي ...لن اضيف شيئا آخر الى ماسأوصيك به الآن. كنت واثقا بأنك ستنجو من الموت لأنني واياك لن يحملنا الا تابوت واحد.... اوصيك ان تتحمل- الخطيئة - التي رفضتها من قبل... ان تقترن بأمرأة.... خذ زوجتي مني قبل ان يأخذها شخص آخر... لقد كتبت لها وصية مرادفة لوصيتك فتحملا معا، انتما الأثنين خطيئتي!
مجيد جاسم العلي
Log into Facebook
Log into Facebook to start sharing and connecting with your friends, family, and people you know.
www.facebook.com