لدى أية مناقشة تتناول ما خلّفته سلمى الخضراء الجيوسي (1926-2023)، القامة العالية والفريدة التي غادرت عالمنا مؤخراً، من منجز في ميدان نقد الشعر على وجه الخصوص؛ تشدد هذه السطور على جانب رفيع ومتميز، رائد وجسور وبعيد النظر، هو انخراطها في نقاش الشعر والنثر. وكانت الراحلة في عداد حفنة من دارسي الشعر العربي الحديث أفلحوا في تجاوز التنظيرات النقدية الغائمة، أسيرة التأتأة الإنشائية والتهويم اللفظي؛ ونجحوا، بمقادير أعلى ربما، في مقاومة إغواءات تلك المطحنة الصاخبة التي أنتجت مقولات مثل «الحدس»، و»التوهج»، و»الكثافة»، و»إطلاق الشعر من كلّ قيد أو شرط»، و»الحوار اللانهائي بين هدم الأشكال وبنائها»… المتلقَّفة، في معظمها، من تنظيرات غربية (فرنسية، أساساً) تمّت إعادة إنتاجها على عجل وتسرّع وتلهّف، حتى حين قُلبت على رأسها مراراً.
خيارات الجيوسي اتخذت صفة تركيبية وجدلية، في أزمنة لم تكن تتقبل التركيب والجدل بقدر ما تحثّ على الفردانية والجمود؛ فانتمت في آن معاً (وكان ذلك شاقاً بدوره وشبه عسير) إلى قطبَيْ الحداثات الشعرية التي اقتحمت ثقافة العرب عموماً ونتاجهم الشعري خصوصاً، خلال خمسينيات القرن المنصرم: مجلة «الآداب» وشعر الالتزام، ومجلة «شعر» وقصيدة النثر. ولم يكن انتماؤها ذاك وسطياً أو توفيقياً أو تصالحياً، بل كان متسامحاً وتعددياً وديمقراطياً، أتاح للجيوسي أن تتفادى الانضواء في أيّ من الأقصيَيْن: نبذ الشكل الجديد (قصيدة النثر) ورفضه، أو حتى تخوينه سياسياً؛ أو نعي عروض الخليل جملة وتفصيلاً، وإهدار الثروة الوزنية والإيقاعية العربية بأسرها.
علاقتها مع مجلة «شعر» اقتصرت على المشاركة ضمن مجموعة الأصدقاء العرب الضيوف، الذين ساهموا في المجلة من دون أن يدعموا بالضرورة مشروعها الفكري والإبداعي؛ أمثال نازك الملائكة ونزار قباني وسعدي يوسف وعلي الجندي وبلند الحيدري. وتلك صيغة أفسحت أكثر من مجال واحد للاختلاف، وبعض الاحتقان أيضاً، ليس خلال ندوات الخميس التي اعتادت المجلة تنظيمها، فحسب؛ بل كذلك على صعيد انقسامات المشروع الإيديولوجية، بين الخطّ القومي السوري، والتوجّه الفرنكوفوني مقابل الأنغلو- سكسوني، والمجموعة «العربية» أو القومية التي دعت إلى ربط الأدب بالمجتمع.
ولعلّ الضارّة هنا، أي الخلاف والشقاق والتراشق بالمقالات والردود، خاصة مع أدونيس ويوسف الخال وأنسي الحاج، كانت نافعة في دفع الجيوسي إلى التركيز أكثر على نقاش الشعر والنثر، والفصل الختامي من كتابها الموسوعي الممتاز «اتجاهات وحركات في الشعر العربي الحديث»، الذي كان أطروحتها للدكتوراه وصدر بالإنكليزية سنة 1977 (نقله إلى العربية عبد الواحد لؤلؤة)، مكرّس لقصيدة النثر وإشكالياتها النصّية والاصطلاحية. وفي دراسة شاملة بعنوان «الشعر العربي المعاصر: تطوره ومستقبله»، تعود إلى سنة1973، وضعت الجيوسي قصيدة النثر في سياق محدد (لعله بالغ التحديد أيضاً!) من أطروحتها المركزية القائلة بأنّ تاريخ الشعر العربي الحديث في القرن العشرين هو «تاريخ تجارب مستمرة في جميع عناصر القصيدة، في الشكل واللغة والصورة واللهجة والموقف والموضوع».
هي، إلى ذلك، رأت أنه لم يكن هنالك مجال في النقد العربي القديم لاعتبار النثر الشعري في عداد الشعر، لأنّ مفهوم «الشعر» أو «القريض» لم ينهض على قاعدة البحر فحسب، بل على قاعدة الشطرين أيضاً؛ وترجح أن يكون هذا التمييز القاطع قد انبثق من الرغبة في رسم حدّ فاصل بين المقولتين ذاتهما كما تتعرضان لنقد مبطّن في سورتَيْ «الشعراء» و»يس». بيد أنّ هذا السبب بالذات يدلّ، في قناعتها، على غياب التمييز القاطع بين الشعر والنثر في التراث القديم، وأنّ العرب في الجاهلية لم يجدوا غضاضة في وصف نثر القرآن بالشعر.
وبصدد مطحنة المصطلحات تقول الجيوسي إنّ «إصدار الأحكام القطعية في الفنّ مسألة بالغة الخطورة. ولكننا نعرف أنّ أية ثورة كفيلة بدفع أبطالها إلى الحدود القصوى. أوزان الشعر ليست سهلة وفي متناول الجميع، والعديد من أصحاب الهوى الشعري لا يفلحون في امتلاكها والتمكن منها. ولكن، بالمقابل، لا ينبغي لأي شيء أن يمنعهم من التعبير عن أنفسهم في الوسيط الوحيد المتبقي لديهم: النثر». ولكنّ هذا التوسّط، الديمقراطي والتعددي الصريح، لم يحجب حقّ الجيوسي في انتقاد مقولات مثل الزعم بأنّ تجديد اللغة الشعرية لا يتمّ إلا عبر وسيط النثر؛ وهي لا تضرب أيّ مثال عادي، بل تذهب إلى شعر أدونيس دون سواه، الذي «يحمل السمة اللغوية ذاتها في شعره الموزون (…) ولغته أشدّ فصاحة (كلاسيكية) من معظم الشعراء، ومثل سان جون بيرس، الشاعر الذي مارس عليه تأثيراً عميقاً، تبدو لغته غنية وغير مألوفة، وكلاهما مغرم بالبيان العميق».
وللتذكير، يومها كان أدونيس يصف الإنسان الذي تبتغيه حركة مجلة «شعر» هكذا: «الرائد، إنسان الرفض، المستبق، الخالق، الناطق باسم السهم، باسم النهار، الرائي، الإنسان البكر، النقيّ المغسول، إنسان البداية والتموّج أبداً، هذا ما نتطلع إليه ونبشّر به». ليس هذا فقط، بل: «لا يمكن لأيّ عربي أن يعتبر، بعد الآن، شعراً ذا قيمة إلا إذا كان داخلاً بشكل أو بآخر في مجال هذه الرؤيا، داخلاً بعمق وشخصانية».
فكم، إذن، كانت تصويبات الجيوسي حاسمة حينذاك، ضرورية ملحّة بقدر عمقها وجسارتها.
صبحي حديدي
الأحد ٢٣ نيسان/ أبريل ٢٠٢٣
القدس العربي
خيارات الجيوسي اتخذت صفة تركيبية وجدلية، في أزمنة لم تكن تتقبل التركيب والجدل بقدر ما تحثّ على الفردانية والجمود؛ فانتمت في آن معاً (وكان ذلك شاقاً بدوره وشبه عسير) إلى قطبَيْ الحداثات الشعرية التي اقتحمت ثقافة العرب عموماً ونتاجهم الشعري خصوصاً، خلال خمسينيات القرن المنصرم: مجلة «الآداب» وشعر الالتزام، ومجلة «شعر» وقصيدة النثر. ولم يكن انتماؤها ذاك وسطياً أو توفيقياً أو تصالحياً، بل كان متسامحاً وتعددياً وديمقراطياً، أتاح للجيوسي أن تتفادى الانضواء في أيّ من الأقصيَيْن: نبذ الشكل الجديد (قصيدة النثر) ورفضه، أو حتى تخوينه سياسياً؛ أو نعي عروض الخليل جملة وتفصيلاً، وإهدار الثروة الوزنية والإيقاعية العربية بأسرها.
علاقتها مع مجلة «شعر» اقتصرت على المشاركة ضمن مجموعة الأصدقاء العرب الضيوف، الذين ساهموا في المجلة من دون أن يدعموا بالضرورة مشروعها الفكري والإبداعي؛ أمثال نازك الملائكة ونزار قباني وسعدي يوسف وعلي الجندي وبلند الحيدري. وتلك صيغة أفسحت أكثر من مجال واحد للاختلاف، وبعض الاحتقان أيضاً، ليس خلال ندوات الخميس التي اعتادت المجلة تنظيمها، فحسب؛ بل كذلك على صعيد انقسامات المشروع الإيديولوجية، بين الخطّ القومي السوري، والتوجّه الفرنكوفوني مقابل الأنغلو- سكسوني، والمجموعة «العربية» أو القومية التي دعت إلى ربط الأدب بالمجتمع.
ولعلّ الضارّة هنا، أي الخلاف والشقاق والتراشق بالمقالات والردود، خاصة مع أدونيس ويوسف الخال وأنسي الحاج، كانت نافعة في دفع الجيوسي إلى التركيز أكثر على نقاش الشعر والنثر، والفصل الختامي من كتابها الموسوعي الممتاز «اتجاهات وحركات في الشعر العربي الحديث»، الذي كان أطروحتها للدكتوراه وصدر بالإنكليزية سنة 1977 (نقله إلى العربية عبد الواحد لؤلؤة)، مكرّس لقصيدة النثر وإشكالياتها النصّية والاصطلاحية. وفي دراسة شاملة بعنوان «الشعر العربي المعاصر: تطوره ومستقبله»، تعود إلى سنة1973، وضعت الجيوسي قصيدة النثر في سياق محدد (لعله بالغ التحديد أيضاً!) من أطروحتها المركزية القائلة بأنّ تاريخ الشعر العربي الحديث في القرن العشرين هو «تاريخ تجارب مستمرة في جميع عناصر القصيدة، في الشكل واللغة والصورة واللهجة والموقف والموضوع».
هي، إلى ذلك، رأت أنه لم يكن هنالك مجال في النقد العربي القديم لاعتبار النثر الشعري في عداد الشعر، لأنّ مفهوم «الشعر» أو «القريض» لم ينهض على قاعدة البحر فحسب، بل على قاعدة الشطرين أيضاً؛ وترجح أن يكون هذا التمييز القاطع قد انبثق من الرغبة في رسم حدّ فاصل بين المقولتين ذاتهما كما تتعرضان لنقد مبطّن في سورتَيْ «الشعراء» و»يس». بيد أنّ هذا السبب بالذات يدلّ، في قناعتها، على غياب التمييز القاطع بين الشعر والنثر في التراث القديم، وأنّ العرب في الجاهلية لم يجدوا غضاضة في وصف نثر القرآن بالشعر.
وبصدد مطحنة المصطلحات تقول الجيوسي إنّ «إصدار الأحكام القطعية في الفنّ مسألة بالغة الخطورة. ولكننا نعرف أنّ أية ثورة كفيلة بدفع أبطالها إلى الحدود القصوى. أوزان الشعر ليست سهلة وفي متناول الجميع، والعديد من أصحاب الهوى الشعري لا يفلحون في امتلاكها والتمكن منها. ولكن، بالمقابل، لا ينبغي لأي شيء أن يمنعهم من التعبير عن أنفسهم في الوسيط الوحيد المتبقي لديهم: النثر». ولكنّ هذا التوسّط، الديمقراطي والتعددي الصريح، لم يحجب حقّ الجيوسي في انتقاد مقولات مثل الزعم بأنّ تجديد اللغة الشعرية لا يتمّ إلا عبر وسيط النثر؛ وهي لا تضرب أيّ مثال عادي، بل تذهب إلى شعر أدونيس دون سواه، الذي «يحمل السمة اللغوية ذاتها في شعره الموزون (…) ولغته أشدّ فصاحة (كلاسيكية) من معظم الشعراء، ومثل سان جون بيرس، الشاعر الذي مارس عليه تأثيراً عميقاً، تبدو لغته غنية وغير مألوفة، وكلاهما مغرم بالبيان العميق».
وللتذكير، يومها كان أدونيس يصف الإنسان الذي تبتغيه حركة مجلة «شعر» هكذا: «الرائد، إنسان الرفض، المستبق، الخالق، الناطق باسم السهم، باسم النهار، الرائي، الإنسان البكر، النقيّ المغسول، إنسان البداية والتموّج أبداً، هذا ما نتطلع إليه ونبشّر به». ليس هذا فقط، بل: «لا يمكن لأيّ عربي أن يعتبر، بعد الآن، شعراً ذا قيمة إلا إذا كان داخلاً بشكل أو بآخر في مجال هذه الرؤيا، داخلاً بعمق وشخصانية».
فكم، إذن، كانت تصويبات الجيوسي حاسمة حينذاك، ضرورية ملحّة بقدر عمقها وجسارتها.
صبحي حديدي
الأحد ٢٣ نيسان/ أبريل ٢٠٢٣
القدس العربي