أحمد رجب شلتوت - قصة حب

زوجتي هي التي انتبهت للكلمة، سألتني ضاحكة عن تلك التي تكتب لي يوميا تلك الرسالة، قالتها وهي تشير بإصبعها إلى كلمة "أحبك"، كانت محفورة على التراب الذي يغطي الزجاج الأمامي للسيارة، قالت أنها قرأتها من قبل عدة مرات، قلت لعل أحدهم يجعل من السيارة رفا يضع فوقه قفص الخبز الطازج، يأتي به من الفرن القريب ولا تحلو له تهوية الخبز إلا فوق مقدمة سيارتي فتغمرها الردة المتساقطة من الأرغفة.
رأت في كلامي مراوغة، ولم تصدق أنني أمسح السيارة يوميا دون أن أنتبه للكلمة، لحظتها سكتت ولم أعر الأمر اهتماما، لكن في اليوم التالي وجدت الكلمة مكتوبة، لم يكن التراب كثيفا، فكانت الحروف باهتة، عندئذ اكتشفت سر عدم انتباهي لها فيما سبق، كنت أمحوها بالفوطة وأنفضها مع التراب وأشياء أخرى، وربما أدهسها تحت العجلات دون أن أنتبه لها.
تكرار سؤال زوجتي عن صاحبة الكلمة (لم يعد السؤال مصحوبا بابتسامة، فبدا وكأنه اتهام) دفعني لأن أسبقها في النزول، لأمسح الزجاج وأمحو الكلمة التي بت أنتظرها وأخشاها في نفس الوقت. لكن حدث أن سبقتني ذات يوم وكانت الرسالة مزدوجة، الكلمة مكتوبة في مواجهة مقعد السائق، كأنها مكتوبة مرتين، لكن كفا مسح النصف الثاني من الكلمة، أشارت زوجتي وهي تقرأ:
_ أحبك أح ...
قلت لعل من كتبها أراد تكرارها، فنفت وقالت بل كتبت أسمك، ثم مسحت الميم والدال، وأرادت التأكيد على صحة ما تزعمه فأشارت إلى قلب مرسوم على زجاج الباب الذي على يساري، صامتا مسحت الزجاج بسرعة، ورأت هي في السرعة ارتباكا وعصبية فعاودت السؤال، ولما أتانا صوت المغني، أدارت مؤشر الراديو بعصبية، ثم ضبطته على إذاعة القرآن الكريم، وراحت تقارن بين ترتيل محمد رفعت وغناء عبدالحليم حافظ، وأيهما أنسب لصباح يوم عمل جديد؟.
أسعدني أن تستعيد زوجتي غيرتها علي، فلعل الغيرة تنفخ في بقايا نار ركدت تحت رماد الشغف، لكن خشيت نوبة جنون قد تفاجئها، فحاولت طمأنتها مذكرا بأنني أقترب من الستين حثيثا، وأن من تصر على كتابة تلك الكلمة يوميا لا بد وأن تكون صبية مراهقة، فلا يمكن أن تكون كلمتها موجهة لي، هزت رأسها علامة عدم اقتناع، فسألتها عن سبب إصرارها على أن الرسالة تخصني، وأن صاحبتها امرأة، لماذا لم تفترض مثلا أن ولدا عابثا هو من يكتبها؟ لم تجب، فلزمنا الصمت، لا أعرف لماذا نحيت عن ذهني فكرة أن يكون ولدا عابثا هو من يكتب؟ وقررت أن أراقب السيارة لعلي أكتشف تلك التي تحبني.
بعد الرجوع من العمل غيرت مكان مبيت السيارة، اخترت موضعا يمكن مراقبته من الشرفة التي صارت مقرا مفضلا لتناول شاي المساء مصحوبا بالأغنيات، وهو الأمر الذي انتقدته زوجتي، رأت في أغاني الشوق مراهقة متأخرة لا تناسب عمرا أوشك على المغيب، ولما ضاقت بسهري مع الكتب وطالبتني بإطفاء النور، غادرتها مصطحبا الكتاب إلى الشرفة، لكن ظل الكتاب مغلقا بينما نظري ينطلق باتجاه السيارة التي لم يقربها أحد.
طول الوقوف والسهر أنهكاني، فعدت إلى الفراش بصحبة أطياف كثيرات، كل الجارات المرشحات لأن تكون إحداهن صاحبة الرسائل شبه اليومية كن معي، سهرت كثيرا، أقرب أطيافهن تباعا وأحاورهن لعل واحدة تبوح وتريحني، لكنهن جميعا راوغنني ولم أظفر باعتراف.
سيطر علي كدر لأن كل الأطياف كن لأرامل أو مطلقات أو لنسوة تجاوزن منتصف العمر وامتصت الأيام من أجسادهن رحيق الأنوثة، تمسكت يائسا بفكرة أن تكون الرسائل من شابة جميلة، وأنها تقصدني أنا تحديدا، لكن أيهن؟ يقينا لن تكون تلك السمراء التي تهتف بي كلما رأتني:
_ صباح الخير يا عم الحاج
لعلها تلك الساكنة الجديدة التي تقف بصحبة ابنتها كل صباح، فلما تأتي سيارة الحضانة، تقذف بالطفلة داخلها وتظل تلوح بيدها مودعة البنت وكأنها ستغيب في سفر طويل، وبعد أن تختفي السيارة ترمقني وهي تبتعد، لها ابتسامة جميلة وعينين واسعتين، وتلك الشامة على يسار شفتها تزيدها حسنا، لعلها هي، سيكون جميلا أن تكون هي، تصلح لأن أبادلها الحب، علي إذن أن أفكر في طريقة تتيح تواصلا أفضل، لكن قد تكون ثالثة لا أعرفها، من الغد سأركز فيمن تمر من الصبايا، لا بد أن أعرف من تكون؟
صرت أبكر بالنزول مانحا نفسي وقتا يفيض كثيرا عما أحتاج لمسح السيارة، أجلس بداخلها محدقا فيمن تمر، مدققا في نظراتها، ومحللا لنبرات صوتها إن قالت صباح الخير دون أن تضيف "يا عم الحاج"، لكن ظللت عاجزا عن اكتشافها، لذلك قررت تركيب كاميرا للمراقبة، قبل أن أعلن قراري أسرفت في الحديث عن انتشار حوادث سرقة السيارات، تظاهرت بالخوف ونجحت في نقل عدواه إلى زوجتي فاقترحت علي أن نلجأ للكاميرا حتى نطمئن، اخترت مكانا للسيارة يضعها في بؤرة مجال الكاميرا، وتفرغت تماما للمراقبة.
مر صباح دون جديد، وفي الثاني اكتشفت السر:
ابن الجيران، الحاصل على دبلوم التجارة، ويغادر يوميا إلى المدينة القريبة بحثا عن عمل، ضبطته الكاميرا وهو يشعل سيجارته وينفث دخانها ببطء حتى توشك على الانتهاء، ثم يرمي بما تبقى من سيجارته، يتمطى ويتلفت يمينا ويسارا وكأنه ينتظر شخصا ما، لكن لا أحد يأتي فيخرج من الكادر، بعد دقائق يعود ممسكا بقفص سوف يحمل فوقه أرغفة الخبز، يركنه إلى جانب السيارة ويخط شيئا على الزجاج الجانبي، لعله يرسم ذلك القلب المعتاد، ثوان ويحمل القفص ويجتاز مجال الكاميرا.
يغيب قرابة الساعة، وفي منتصف وقت غيابه تظهر ابنة جار آخر، تخفي تثاؤبها بوضع ظهر يسراها على الفم، تقترب من السيارة وهي تبتسم، لعلها رأت ما خطه الولد على الزجاج الجانبي، تنظر إلى وجهها في مرآة السيارة، ترد خصلة شعر إلى مكانها تحت الحجاب، ترسم قلبا على مقدمة السيارة ثم تغيب.
يعود الفتى، ظهره يخفي عن الكاميرا القلب المرسوم على مقدمة السيارة، تماما حيث وضع القفص، يشب مقتربا من الزجاج الأمامي، لحظة ويبتعد وهو يشعل سيجارة، أرى كلمة كأنها "أحبك"، كتبها في عجالة، ففقدت بائها النقطة، وألفها مرسوم بدون الهمزة.
تأتي الفتاة، تضع كيسا من البلاستيك أسود اللون إلى جوار القفص، لعل بداخله كيس فول وقرطاس طعمية، تنحني فوق القفص، تنتقي عدة أرغفة تضعها فوق رأسها، تتلفت قبل أن تضغط بطرف إصبعها لتمنح الباء نقطتها، ترسم همزة فوق الألف، ثم تأخذ كيسها الأسود وتمضي.
ويأتي هو، يحدق في الزجاج، لعله يبحث عن كلمة كتبتها، لعله انتبه إلى ما أضافته الفتاة لما كتب أو لم ينتبه، لا يطول وقوفه، يحمل قفص الخبز ثم يختفي، ولم يعد في الصورة إلا سيارتي، وعند نزولي أجد الردة التي نثرتها الأرغفة تغطي القلب الذي رسمته الفتاة، وبغيظ أضرب بالفوطة ماسحا السيارة.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...