ماتت وهي تمارس الحب!
لم يكن هذا هو الخبر الذي هز المدينة ذات أصيل عاصف، ولم يكن الفعل محرمًا، فالجميع يمارَسَ الحب ، والجميع يرون أنه ضروري حتي يوجد ما يطلق عليه السلام، النفسي، لذلك لم يقف الكثير ممن شدهم الخبر أمامه، لكن عَمْرُ القتيلة هو ما جعل هامش الدهشة يتسع، فهي الجارة التي كانوا يرونها كل يوم، وهي تدير أمورها، معتمدة علي نشاطها، تذهب إلي السوق في الصباح وهي تحمل حقيبة مصنوعة من القماش، تطويها تحت إبطها، وتمضي منصوبة القامة، لا تلتفت في أي اتجاه، نظرها دائمًا تجعله مع الطريق، وتفضل أن تسير جاعلة بينها وبين نهاية الرصيف مسافة تكفي لمرور شخصين، لم يلاحظ أحد عليها أنها وقفت ذات يوم لتتبادل حديثًا عابرًا مع رجل أو امرأة، حتي حينما يصطدم بها أحد بطريقة عفوية، كانت لا تعيره أي اهتمام، وتكتفي بأن تبتسم ابتسامة خفيفة، وتمضي إلي وجهتها.
قيل الكثير عن هذا الالتزام، ونسجت حولها الكثير من القصص، كلها بقيت في صدور من سمعها.
كان لها بعض الأهل الذين يترددون عليها في أوقات متباعدة، يأتي كل واحد وفي يده الزيارة، كيس أو حقيبة تشبه الحقيبة التي كانت تحملها، يدخل شقتها، ومن هناك كان يتناهي إلي الجيران صوت موسيقي، وغناء فيروز، وبعض الضحكات القصيرة، لم يجرؤ أي من الجيران علي الاستفسار عن هوية من يطرق بابها.
ظلّ الأمر هكذا حتي تردد عليها ذلك الشاب، كان وسيمًا، يمتلك جسدًا فتيًا، وابتسامة ودودة لم تكن تفارق وجهه، وكان لدي البعض الكثير من الفضول الفائض، لذلك راحوا يتابعون الشاب، وحينما لم يجدوا أية شبهة حوله، قالوا ساخرين من أنفسهم:
ماذا يريد شاب من امرأة سبعينية؟!
وجد السؤال، ولم يهتم أحدهم بمتابعة الشاب بعد ذلك، لكن نسوة الحي أدركن التغيير الذي طرأ علي العجوز، كما كن يطلقن عليها، كانت أكثرهن نشاطًا، وكانت تجادل كل بائع، وتحصل منه علي خصم، لا تناله إحداهن، وفوق ذلك كله، تعجبوا من الحياة التي بدأت تدب في أوصالها، وشاهدوها وهي ترتدي الملابس زاهية الألوان، التي يتلاعب بها الهواء، فيطيرها، فتغيب جلابيتها بين فخذيها، فيشاهدون تماسكهما، ومدي الجمال الذي ما زال يسكن استقامتهما، ويوم أن شوهدت وهي تتجاوز عتبة الصيدلية، راقبتها إحدي النساء وهي تتحدث مع الصيدلي عن أفضل الكريمات التي ترطب البشرة، والزيوت التي تجعل الشعر ناعمًا، وعن العطر غالي الثمن، وبعد أن أمدها بكل المعلومات، أحضر لها عينات، فراحت تقارن بين الأصناف، وهي غير عابئة بنظرات كل من يدخل المكان.
تلك الملاحظة جعلت سيرتها تعود، والدهشة وهامشها يتسع، والسؤال يطل برأسه: هل العجوز في حاجة لكل هذا؟ مكث السؤال قليلا، وسرعان ما اختفي تحت وطأة حقيقة كانت مازالت باقية: أليس من الأفضل أن تُترك العجوز لتعيش حياتها كما تريد.
وظل الشاب يتردد عليها، لم يغير من مواعيد زيارته لها، لكنه أضاف بعض الطقوس، لم تولد دفعة واحدة، في البداية بدأ يستريح قليلا في المقهي الوحيد في الشارع، والقريب من البناية التي تسكن فيها العجوز، القهوة في كوب، كان طلبه الوحيد، فترة وجوده هي نفسها الوقت الذي يكفي لاحتساء قهوته، وبعدها يغادر المكان، من دون أن يتبادل أي حديث عابر مع الرواد.
ظل محافظا علي تلك العادة، وأضاف لها بعد شهر، قراءة الجريدة اليومية، فأضاف لوقت مكوثه ضعف الوقت الذي يقضيه في احتساء القهوة، أثناء ذلك كان يغيب كثيرًا في شقة العجوز، وظهر عدة مرات في شرفتها وهو يجمع لها الغسيل، كان يبدأ بجمع الملابس المتوارية في المشجب الأخير قبل أن ترتفع يده، كان يكورها، فتغيب قطع الملابس في القبضة العفية، ومرات شوهد بالفانلة وهو يعبر من خلف الستارة في غرفة المعيشة، ومرة وحيدة دخل الصيدلية، وحينما خرج لم يكن معه أية أدوية، كاد أن يحرك كوامن الشك فيه، لولا تبرع أحدهم بتبرير فعلته بقوله:
كبار السن مشاكلهم كثيرة.
قبل الحادث بيومين، وبينما يقوم عامل من عمال مكتب شركة الاتصالات بإصلاح خط من خطوط الهاتف، وبينما هو يصعد السلم بالقرب من شرفة العجوز، تناهي إلي سمعه صوت أنين يشبه أنين أنثي يواقعها رجل بعنف، ولا يترك لها مجالا لالتقاط أنفاسها، شده ما سمع، وتراخي حماسه، وتمني لو مد يده ودفع بالضلفة القريبة منه، ليري ما يدور، لكن تلاشي الصوت شجعه ليكمل السقوط ببطء ممل، وحينما لم يصله الصوت ثانية، خمن:
ربما الصوت من فيلم تشاهده العجوز.
كل تلك الحكايات ظهرت، وسيارة الإسعاف تقف أمام البناية، نزل منها طاقمها، فهرع بعضهم إلي داخل شقة العجوز، ليغيبوا هناك بعض الوقت، وحينما خرج الطاقم، تجمع أهل الشارع حولهم، وحينما علموا بخبر وفاة العجوز، اتسعت الدهشة بهامشها، ولما حضر ضابط القسم وبرفقته مفتش الصحة، أُغلق الباب بجنديين مدججين بالسلاح المشهر في اتجاه التجمهر.
غاب الضابط ومعه الطبيب لنصف ساعة، عاين الطبيب جثمان العجوز، وجد بين ساقيها فُوطة مبللة بسائل، تفحصها، ورمق الشاب بغضب، وعاد وراح يقلب الجثمان علي الجنب الأيسر، فوجد أثار كف مطبوعة علي ردفها، وتابع عمله حتي انتهي، وبعد أن نزع القفاز الطبي، انتحي بالضابط، ودار بينهما حديث هامس، بعده، تكلم الضابط، وهو يهز رأسه:
تمام، صرح بالدفن.
رد عليه الطبيب:
ستكون المرة الأولي التي نكتب فيها هذا السبب، ماتت بسبب ممارسة الحب.
وقبل أن يغادر الطبيب، نظر للشاب، وأمره:
أحضر معك بطاقة زوجتك، وقسيمة زواجك منها
وغاب الشاب من الشارع في نفس يوم موت العجوز، وعاد أهل الشارع يتندرون بما حدث، وكل واحد منهم يتمني لو قتل هامش الدهشة بداخله.
* من مجموعة "حكايات نسيها أصحابها" .. مصطفى البلكي
لم يكن هذا هو الخبر الذي هز المدينة ذات أصيل عاصف، ولم يكن الفعل محرمًا، فالجميع يمارَسَ الحب ، والجميع يرون أنه ضروري حتي يوجد ما يطلق عليه السلام، النفسي، لذلك لم يقف الكثير ممن شدهم الخبر أمامه، لكن عَمْرُ القتيلة هو ما جعل هامش الدهشة يتسع، فهي الجارة التي كانوا يرونها كل يوم، وهي تدير أمورها، معتمدة علي نشاطها، تذهب إلي السوق في الصباح وهي تحمل حقيبة مصنوعة من القماش، تطويها تحت إبطها، وتمضي منصوبة القامة، لا تلتفت في أي اتجاه، نظرها دائمًا تجعله مع الطريق، وتفضل أن تسير جاعلة بينها وبين نهاية الرصيف مسافة تكفي لمرور شخصين، لم يلاحظ أحد عليها أنها وقفت ذات يوم لتتبادل حديثًا عابرًا مع رجل أو امرأة، حتي حينما يصطدم بها أحد بطريقة عفوية، كانت لا تعيره أي اهتمام، وتكتفي بأن تبتسم ابتسامة خفيفة، وتمضي إلي وجهتها.
قيل الكثير عن هذا الالتزام، ونسجت حولها الكثير من القصص، كلها بقيت في صدور من سمعها.
كان لها بعض الأهل الذين يترددون عليها في أوقات متباعدة، يأتي كل واحد وفي يده الزيارة، كيس أو حقيبة تشبه الحقيبة التي كانت تحملها، يدخل شقتها، ومن هناك كان يتناهي إلي الجيران صوت موسيقي، وغناء فيروز، وبعض الضحكات القصيرة، لم يجرؤ أي من الجيران علي الاستفسار عن هوية من يطرق بابها.
ظلّ الأمر هكذا حتي تردد عليها ذلك الشاب، كان وسيمًا، يمتلك جسدًا فتيًا، وابتسامة ودودة لم تكن تفارق وجهه، وكان لدي البعض الكثير من الفضول الفائض، لذلك راحوا يتابعون الشاب، وحينما لم يجدوا أية شبهة حوله، قالوا ساخرين من أنفسهم:
ماذا يريد شاب من امرأة سبعينية؟!
وجد السؤال، ولم يهتم أحدهم بمتابعة الشاب بعد ذلك، لكن نسوة الحي أدركن التغيير الذي طرأ علي العجوز، كما كن يطلقن عليها، كانت أكثرهن نشاطًا، وكانت تجادل كل بائع، وتحصل منه علي خصم، لا تناله إحداهن، وفوق ذلك كله، تعجبوا من الحياة التي بدأت تدب في أوصالها، وشاهدوها وهي ترتدي الملابس زاهية الألوان، التي يتلاعب بها الهواء، فيطيرها، فتغيب جلابيتها بين فخذيها، فيشاهدون تماسكهما، ومدي الجمال الذي ما زال يسكن استقامتهما، ويوم أن شوهدت وهي تتجاوز عتبة الصيدلية، راقبتها إحدي النساء وهي تتحدث مع الصيدلي عن أفضل الكريمات التي ترطب البشرة، والزيوت التي تجعل الشعر ناعمًا، وعن العطر غالي الثمن، وبعد أن أمدها بكل المعلومات، أحضر لها عينات، فراحت تقارن بين الأصناف، وهي غير عابئة بنظرات كل من يدخل المكان.
تلك الملاحظة جعلت سيرتها تعود، والدهشة وهامشها يتسع، والسؤال يطل برأسه: هل العجوز في حاجة لكل هذا؟ مكث السؤال قليلا، وسرعان ما اختفي تحت وطأة حقيقة كانت مازالت باقية: أليس من الأفضل أن تُترك العجوز لتعيش حياتها كما تريد.
وظل الشاب يتردد عليها، لم يغير من مواعيد زيارته لها، لكنه أضاف بعض الطقوس، لم تولد دفعة واحدة، في البداية بدأ يستريح قليلا في المقهي الوحيد في الشارع، والقريب من البناية التي تسكن فيها العجوز، القهوة في كوب، كان طلبه الوحيد، فترة وجوده هي نفسها الوقت الذي يكفي لاحتساء قهوته، وبعدها يغادر المكان، من دون أن يتبادل أي حديث عابر مع الرواد.
ظل محافظا علي تلك العادة، وأضاف لها بعد شهر، قراءة الجريدة اليومية، فأضاف لوقت مكوثه ضعف الوقت الذي يقضيه في احتساء القهوة، أثناء ذلك كان يغيب كثيرًا في شقة العجوز، وظهر عدة مرات في شرفتها وهو يجمع لها الغسيل، كان يبدأ بجمع الملابس المتوارية في المشجب الأخير قبل أن ترتفع يده، كان يكورها، فتغيب قطع الملابس في القبضة العفية، ومرات شوهد بالفانلة وهو يعبر من خلف الستارة في غرفة المعيشة، ومرة وحيدة دخل الصيدلية، وحينما خرج لم يكن معه أية أدوية، كاد أن يحرك كوامن الشك فيه، لولا تبرع أحدهم بتبرير فعلته بقوله:
كبار السن مشاكلهم كثيرة.
قبل الحادث بيومين، وبينما يقوم عامل من عمال مكتب شركة الاتصالات بإصلاح خط من خطوط الهاتف، وبينما هو يصعد السلم بالقرب من شرفة العجوز، تناهي إلي سمعه صوت أنين يشبه أنين أنثي يواقعها رجل بعنف، ولا يترك لها مجالا لالتقاط أنفاسها، شده ما سمع، وتراخي حماسه، وتمني لو مد يده ودفع بالضلفة القريبة منه، ليري ما يدور، لكن تلاشي الصوت شجعه ليكمل السقوط ببطء ممل، وحينما لم يصله الصوت ثانية، خمن:
ربما الصوت من فيلم تشاهده العجوز.
كل تلك الحكايات ظهرت، وسيارة الإسعاف تقف أمام البناية، نزل منها طاقمها، فهرع بعضهم إلي داخل شقة العجوز، ليغيبوا هناك بعض الوقت، وحينما خرج الطاقم، تجمع أهل الشارع حولهم، وحينما علموا بخبر وفاة العجوز، اتسعت الدهشة بهامشها، ولما حضر ضابط القسم وبرفقته مفتش الصحة، أُغلق الباب بجنديين مدججين بالسلاح المشهر في اتجاه التجمهر.
غاب الضابط ومعه الطبيب لنصف ساعة، عاين الطبيب جثمان العجوز، وجد بين ساقيها فُوطة مبللة بسائل، تفحصها، ورمق الشاب بغضب، وعاد وراح يقلب الجثمان علي الجنب الأيسر، فوجد أثار كف مطبوعة علي ردفها، وتابع عمله حتي انتهي، وبعد أن نزع القفاز الطبي، انتحي بالضابط، ودار بينهما حديث هامس، بعده، تكلم الضابط، وهو يهز رأسه:
تمام، صرح بالدفن.
رد عليه الطبيب:
ستكون المرة الأولي التي نكتب فيها هذا السبب، ماتت بسبب ممارسة الحب.
وقبل أن يغادر الطبيب، نظر للشاب، وأمره:
أحضر معك بطاقة زوجتك، وقسيمة زواجك منها
وغاب الشاب من الشارع في نفس يوم موت العجوز، وعاد أهل الشارع يتندرون بما حدث، وكل واحد منهم يتمني لو قتل هامش الدهشة بداخله.
* من مجموعة "حكايات نسيها أصحابها" .. مصطفى البلكي
مصطفى البلكى
مصطفى البلكى is on Facebook. Join Facebook to connect with مصطفى البلكى and others you may know. Facebook gives people the power to share and makes the world more open and connected.