ومن أخبار الإشكيمو أنه عمل مرافقا لسائق الحافلة بالشركة الجهوية للنقل بالكاف مع أنه لم يكن يحسن الكتابة والقراءة بالفرنسية. ولما كان ملزما في كل رحلة بأن يقتطع للمسافرين تذاكرهم فقد اكتفى بأن يتدرب على تحرير تذكرة السفر بالعربية وأن يحفظ معاليم السفر على طول الخط الرابط بين مدينة الكاف والعاصمة. وزاد على ذلك أن تدرب على معاكسة النساء ومضايقتهن خصوصا إذا كن بلا رفيق. ومن أغرب نوادره أنه رأى في شباك التذاكر سيدة تلبس تنورة قصيرة وتمسك بيدها محفظة سوداء فانتظرها في باب الحافلة يريد خدمتها فلما همت بالدخول بادرها بتحية الصباح فاكتفت بأن أظهرت له التذكرة ثم اختارت مقعدا وجلست ووضعت المحفظة على ركبتيها العاريتين في انتظار ساعة السفر. لم يكن المسافرون على هذه الحافلة كثيرين. بضعة رجال تفرقوا في مقاعد الحافلة وسرعان ما أرخوا جفونهم للنوم ووجد الإشكيمو المغرم حديثا بمضايقة المسافرات الفرصة مناسبة للانفراد بتلك السيدة رغم ما بدا عليها من الانقباض والحزم. فظل يروح في رواق الحافلة ويغدو متظاهرا بالتثبت في عدد المسافرين وتذاكرهم وكان في كل رواح وغدو يطلب منها أن تظهر تذكرتها فتظهرها له فيتناولها من يدها ويظل يحدق فيها. فلما فعل ذلك المرة والمرتين سألته : هل تأكدت من صحة التذكرة. فقال متبسما : نعم. ولكن لا بأس من مزيد التأكد. هل تقصدين العاصمة؟ قالت: نعم. قال في نفسه: الرحلة طويلة والفرصة مناسبة. ثم سلمها التذكرة واستأذن في الجلوس بجانبها فلم تمانع ولكنها التصقت بالنافذة وسحبت من محفظتها رداء خفيفا فغطت به ركبتيها. قال في نفسه: وصلت الرسالة ولا يعنيني ردها عليها. تحركت الحافلة وقطعت مسافات لا بأس بها وتوقفت في محطات كثيرة وكان الإشكيمو في كل توقف يودع مسافرا أو أكثر ويستقبل مثل ذلك ويحرص في كل الأحوال على أن يظل ذلك المقعد حذو تلك السيدة شاغرا لا يملؤه أحد. فإذا فرغ من مهماته الطارئة عاد إلى جوار السيدة. وكان في كل عودة يتعمد ملامسة كتفها الأيمن بكف يده اليسرى إذا همّ بالجلوس متظاهرا بالتعب ثم يلقي بجسده على الكرسي فيهتز وتضطرب ركبتاها ونحسر عنهما الرداء فتسويه وتعتدل في جلستها ولكن الإشكيمو المتظاهر بالتعب لا يبالي بذلك فيحسب نفسه قد أغرق في النوم فيميل بجنبه الأيسر كله على جنبها الأيمن كله فإذا شعر بانقباضها من ذلك حسب أنه قد هبّ من سِنة أخذته أو نوم كاد يغرق فيه ويلتفت إلى جارته معتذرا فتقبل عذره بإشارة فيقف ويطوف فى الرواق دقيقة أو دقيقتين ثم يعود إلى سالف صنيعه. ومضت الرحلة كلها على هذا النحو والسيدة لا تبالي بشيء منه والإشكيمو لا يكف عن عادته. في محطة باب سعدون وهي نقطة الوصول نزل المسافرون كلهم ونسي الإشكيمو أمر السيدة. ها هي تغادر الحافلة وتشق موقف الحافلات إلى قاعة الانتظار الفسيحة وتتوارى عن الأنظار فينهمك الإشكيمو في مراجعة سجل التذاكر واحتساب معاليمها لتدوينها في دفتر خاص في انتظار رحلة العودة بعد ساعة. لم تمض إلا دقائق قليلة حتى دخل الحافلة شرطيان اثنان فسحباه إلى مركز الشرطة. يسأل عن الذنب الذي اقترفه فلا يجيبان ويكتفيان بالقول أأنت هو المرافق في هذه الحافلة فيقول نعم فيقولان تعال معنا إذن لأمر يهمك. يدخل مكتب الشرطة فإذا بتلك السيدة على كرسي السيد رئيس المركز وبالقرب منها شرطي برتبة ملازم هو رئيس المركز طبعا وسمعه يقول : سيدتي القاضية، أهذا الذي طلبت إحضاره؟ فتقول : نعم. هذا هو. دعونا لوحدنا. يخرج أعوان الشرطة كلهم فيرتمي الإشكيمو على أرضية المكتب في هيئة الساجد وهو يقول : عفوك سيدتي القاضية، أنا كلب وابن كلب ولم ير الناس أنذل مني. سامحيني سامحيني. تضحك السيدة القاضية وتقول : أما عن حقي فقد عفوت عنك وأما عن حق الشركة التي تشغلك فلا. وحررت في شأنه تقريرا فتم عزله وعاد كما كان سائق سيارة الكاتكات ينقل الخراف إلى الأسواق.
د. محمد الهادي الطاهري
د. محمد الهادي الطاهري