مقتطف مصطفى الحاج حسين - رواية (ملح السراب) الجزء 12 /والأخير

الجزء 12 /والأخير

صراخ أمي وأختي ( مريم ) ، جعلني أدرك أنّ أبي مات .
أسرعت إليه ، سرقت نظرة نحوه من النافذة
، ثم دخلت .. كانت أمي قد أسبلت جفنيه ، وكان وجهه المحروق بأشعة الشّمس ممتقعاً ، شديد الزّرقة ، أسبوع وهو يعاني سكرات الموت ، من يوم أن أصيب بالفالج ، أنبأنا الطبيب بقرب موته ، ولكنني لم أصدق ، لا يعقل أن يموت أبي ، هذا الرجل الجبار ، إنّ صوته كفيل بأن يرعب ملك الموت ( عزرائيل ) ، انحنيت فوقه ، أردت أن ألثم جبينه البارد ، ولكنني اكتشفت أنّ عينيّ عاجزتان عن ذرف الدمع ، هالني هذا الإكتشاف .. لقد مات أبي .. وينبغي ان أبكي ، على الأقل مجاملة ، أمام أمي وأختي وزوجة عمي وابنتها خطيبتي ، حسدتهنّ على دموعهنّ ، المرأة دائما جاهزة للبكاء .. يالسعادتها !!!.
مات أبي ، تلك هي الحقيقة ، وعليّ أن أسلم بها ، وتيقنت أنّ الموت شيء رهيب ، أقوى من أبي ، النساء الأربع يبكينه .. ولا بدّ أنهنّ ينتظرن مني فعل ما يليق بهذه المناسبة ، ابتهلت إلى الله أن يمنّ عليّ بدمعة واحدة ، لعنت الشيطان الرّجيم في سرّي ، صممت أذنيّ عن سماع صراخه :
ـ لقد أصبحت حرّاَ طليقا .
ـ ابتعد .. أيها الشيطان القذر ، فأنا أحبّ أبي ، رغم كل شيء ، لقد سامحته .
لكنّ الماكر يهمس لي :
ـ هل تصدق بكاء أمك وأختك ، على أبيك ؟؟.. أم تصدق بكاء زوجة عمك و ( سميرة ) خطيبتك ، إنهنّ يتظاهرن بالبكاء ، وهذا الدّمع ليس إلآ حيلة نسائية ، لقد كان أبوك قاسياً عليكم جميعاً ، فكيف يبكين عليه بصدق ؟؟!!.
ـ ابتعد عنّي ياخبيث ، إنّ الذي تتحدّث عنه ، هو أبي ، لقد أفنى عمره تحت أشعة الشمس اللاهبة ، من أجلي وأجل العائلة ، أنا من دونه لا أساوي شيئا ، لقد أصبحت يتيماً ، لا معين ولا سند .
تحولت دارنا إلى مناحة بشكل سريع ، توافد الجيران على بكاء وصراخ النسوة الأربع ، ووصل الخبر إلى الأقارب ، فبدؤوا بالتوافد ، وها هي العجوز ( أم صطوف ) تنهضني عن صدر أبي ، وقفت حائراً .. ثمّ أسرعت إلى غرفتي ، وعلى الفور ، بللت إصبعي بلعابي ، ثمّ دهنت جفنيّ .
ما أشدّ حاجتي للبكاء ، حقدت على عيوني ، لأنها لا تسعفني بالدمع ، في هذه اللحظات الحرجة ، ماذا سيقول الناس عنّي ؟!.. لم يذرف دمعة على أبيه !!!.. ولكن أنّى لي بالدمع ؟!.. لقد تأمرت عليّ عينايّ .. الشيطان هو السبب ، ما يفتأ يوسوس :
ـ فليشبع موتاً … فليشبع .
حاولت أن أخنق صوته ، أن أهرب منه ، بسملت ، قرأت الفاتحة على روح والدي ، لكنه كان لي بالمرصاد ، راح يدغدغ أعماقي ، وها أنا أبتسم .. إبتسامة عريضة ، رباه ما هذا ؟؟؟!!!… أيعقل … أن أبتسم ؟!.. أبتسم .. بينما ينوح الناس .. ويندبون أبي !!!… صفعت خدّي بقوة .. شددت شعري بعنف .. لتدمع عينايّ ، ولكن دون جدوى !!!… لقد كنت أبتسم ، وسمعت أعماقي تدندن أغنية ، لا تتناسب مع ما أنا فيه .. كرهت نفسي .. ألهذا الحدّ أنا حاقد وسافل ؟!..
البكاء في الخارج بلغ أوجه ، النادبات كثرن، وأنا مغلق على نفسي الباب ، لا أجرؤ على الخروج .. زوج عمتي يصرخ في النسوة ، أن يرحمن الميت من البكاء والندب ، فالبكاء يعذب روحه الطاهرة ، وعاد الشيطان يسألني :
ـ وهل تعتقد انّ روح أبيك طاهرة ؟؟.. وقهقه الوغد .
ـ نعم .. إنها طاهرة ، لقد عاش شريفاً .. وشريفاً مات .. لم يطعمنا إلآ من عرق جبينه .
همس :
ـ هل نسيت أنه سبب حرمانك من المدرسة ؟.. وأنه أجبرك على العمل في مهنة لا تطيقها ؟.. هل نسيت كيف كان يضربكم أنت وأخوتك وأمك ؟؟.. هل .. وهل ..؟؟؟!!!.
حاولت أن أجيب هذه المرّة بهدوء .. عساه ينصرف :
ـ مع هذا أيها الشيطان المحترم ، يبقى هذا الميت أبي ، كان يقسو عليّ حتى يصنع مني رجلاً ، هكذا كان يقول لي ، أراد أن يعلمني مهنة شريفة .. ثم إنه لم يكن يبخل علينا بشيء ، صحيح أنه عصبيّ المزاج ، يده والضرب ، ولكنه بالمقابل كان حنوناً .. ويحبنا ، إنه من النوع الذي لا يظهر عواطفه ، حتى لا نطمع .. أنا أفهم أبي جيداً .. وبخاصة في الفترة الأخيرة ، حيث صار يشتري لنا الطّبخة على مزاجي .. قال لأمي :
ـ اطبخي .. ما يطلبه ويحبه ( رضوان) ألا يكفي هذا التنازل ؟؟.. وفوق ذلك .. كان قريباً سيزوجني من ( سميرة ) ابنة عمي ، إنّ موضوع موافقته على زواجي من ( سميرة ) ، شيء عظيم وكبير بالنسبة إليّ .. إذاَ ابتعد عني أيها الشيطان .. فأنا خجلان من نفسي ، دعني أذرف دمعة واحدة أمام الناس بسلام .
جاءني خبط شديد على الباب .. وأصوات تنادي :
ـ ( رضوان ) .. افتح يا ( رضوان ) .
أيقظني هذا الصوت ، إنها أم ( حسن ) عمتي الغالية ، تهتف مرّة أخرى :
ـ أنا خائفة على الولد … اكسروا الباب .
وجدت نفسي مضطراً لفتح الباب ، قمعت ابتسامتي .. ورسمت علامات الحزن والأسى ، فإذا بسامح ابن عمي ، يطالعني بوجهه الأصفر .. شعرت بالإبتسامة توشك أن تتسرب إلى شفتيّ ، فأسرعت لأرمي رأسي على صدره الضيق ، حتى أداري سوأتي اللعينة ، ضمني إلى صدره بحنان ، وأخذ ينتحب بشدة ، يبكي الجميع ألآيّ ، ألآ ما أشد خجلي وتعاستي .. ليتني كنت الميت بدل أبي .
خارج الدار ، كان الجميع من رجال العائلة ، والجيران .. مجتمعين ، شاهدت المغسل ، ثمّ التابوت ، فاقشعر جسدي لمنظرها البارد ، وتخيلت والدي ملقى على المغسل ، وهم يصبون فوقه الماء ، وتذكرت أنه لا يطيق الماء الساخن ،
فخطرت في ذهني فكرة خبيثة :
ـ ماذا سيفعل أبي .. لو سكبوا عليه ماء ساخناً ؟.. هل سيزعق في وجه أمي .. مثل كلّ مرّة ؟.. هل سيضربها ويلعن أباها ؟؟.
جعلتني هذه الفكرة أبتسم من جديد .. اقترب جارنا ( أبو فجر ) مني ، أخذ يدي بأسى :
ـ العمر لك يا بني … العمر لك ..
وكادت تفلت مني قهقهة عنيفة ، حينما فكرت أن أردّ عليه ، لكني أحجمت بسرعة ، اللعنة عليك يا ( أبا فجر ) ، دعني وشأني ،أسرعت بالهرب ، عيون الناس تطاردني ، عبارات الأسى والشفقة والتعزية تثقبني ، وأنا هارب من النظرات التي لا ترحم ، والتي إن استمرت لكشفت حقيقتي ، وربما بصقوا عليّ لو رأوا ابتسامتي ، ربما ضربوني ، وداسوني ، الهرب .. الهرب أفضل وسيلة ، ولكن إلى أين ؟!.. إلى المقبرة .. وهناك .. سأنتظر مجيئه حاملين والدي على الأكتاف .
في الجبانة … جلست بمفردي ، أنتظر قرب قبر جدي ( الحاج رضوان ) ، في البدء تلفت حولي ، ولمّا أدركت أني وحيد ، في هذا المكان الموحش ، أزحت عن وجهي اللثام ، وصرخت :
ـ السلام عليكم ياجدي … أنا حفيدك ( رضوان ) ، جئت لأزفّ إليك بشرى ، ابنك ( محمد ) توفي ، وهاهم يجهزونه .. ليدفنوه قربك ، هكذا أوصى قبل موته ، مع أنه كان لا يحبك ، كان دائما يردد :
ـ الله لا يرحمه .. ولا يسامحه .
والمقصود أنت يا جدي ، أتدري لماذا ؟.. لأنك ظلمته .
لكنه ياجدي بدوره ظلمني ، أنت قسوت عليه ، وهو مثلك تماما ، حرمني من المدرسة ، وأجبرني على الشغل ، في الصنعة التي فرضتها أنت عليه ، لقد انتقم منك بي .
حدثنا عنك كثيرا ، كيف كسرت يد جدتي ( عيوش ) ، يوم تأخرت عند والدها المريض ، وكيف صارت تحمل عمتي الصغيرة ، بأسنانها مثل الجروة ، لقد تعذب أبي معك كثيراً ، لذلك عذبنا أنا وأخوتي وأمي ، أنت سبب البلاء كله ياجدي ، فلا تطلب مني ان أحبك .
أنت بخيل … إلى درجة لا تصدق ، أبي على الأقل لم يكن يبخل علينا بشيء .
كان أبي لا يشبع الطعام .. في حضورك ، مع أنه يعمل معك طوال النهار ، في حمل الأحجار ،حتى إنّ جدتي ( عيوش ) ، كانت تكمل أكلها في المطبخ ، بعيداً عنك ، ومن أجل المال بعت عماتي الثلاث ، فماذا تنتظر منّا نحن أحفادك ؟؟.. من حسن الحظ ، أنّك متّ قبل أن نراك ، رغم أني كنت أشتهي أن يكون لي جد كباقي الأولاد .
ومن بعيد … لمحت جمعاً غفيراً ، يتوجه إليّ .. صمت وانقبض قلبي ، حين أبصرت النعش محمولاً على الأكتاف، قفزت إلى ذهني صورة أبي محشورا
ً في التابوت ، شعرت نحوه بالأسى والحزن ، نظرت إلى القبر المحفور قربي ، كان منظره مقرفاً ومخيفاً ، كيف سيدخل ابي هذا القبر الضيق ؟!.. لماذا لا نطلي جدرانه الرطبة بالإسمنت ؟.. إنّ الاستلقاء فيه على هذا النحو غير مريح .
في تلك اللحظة … دمعت عينايّ ، شعرت بالغبطة .. والرّاحة .. تعمدت ألآ أمسح دموعي ، حتى تصل إليّ الجنازة ، لكن للأسف مازالت الجنازة بعيدة ، وهاهي دموعي تجفّ على خديّ .

- النهاية -

مصطفى الحاج حسين .
حلب .


تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...