رحلت دادة نوارة وتركت خلفها أشياء كثيرة ليست من متاع الدنيا. رحلت وتركت أغنيات وأهازيج مفعمة بالحب والحزن والأمل واليأس والأمن والخوف. صوتها وهي تغني مازال يرن في أذني. أسمعه كلما همّت الشمس بالغروب وأسمعه كلما وقفت في شرفة بيتي أسرح النظر بعيدا في الأفق الغربي حيث تتراءى لي جبال جزة. هنالك حيث تنام. وأسمعه وأنا أغط في النوم فأنتبه. اقلّب النظر في أرجاء الغرفة لعلي أجدها. هنا كانت. هنا جلست. هنا صلّت صلاة الفجر. هنا قالت كلاما كثيرا أكثره أدعية. وبعضه ذكريات وأمنيات. هنا غنت. هي الآن في الضفة الأخرى. تسمعني. نعم لقد سمعتني. ها هي تمد راحتها اليمنى وتمسح دمعتين على الخد وتغني.وقفت مساء اليوم على قبر أمي وقبر أختي وأبي وقبور نساء ورجال آخرين. لم أبك. كنت أرغب في البكاء ولم أبك. طافت برأسي صور شتى من أزمنة شتى ولم أبك. كل هؤلاء النائمين هنا استيقظوا ورأيتني معهم في أحوال عدة من أزمنة متباعدة ولم أر واحدة أو واحدا منهم إلا ضاحكا أو ضاحكة. أبي كعادته يروي قصصا عن الجازية الهلالية وأمي كعادتها أيضا تعد الرفيس التونسي احتفالا بعيد الفطر وزينة أختي ترقص في حفل زفافها وهي تقول هذه الرقصة لا تتعبني أبدا. بنت عمي النائمة بجوارها تروى نوادر مع زوجها الثاني وتختم القصة بقهقهة مدوية يضحك لها الأقربون والأبعدون. جئتهم زائرا رغبة في البكاء ولم أبك. كأنهم يقولون لي لا تبك يا بني أو يا أخي أو يا ابن العم. لا شيء في هذه الدنيا يستحق أن تذرف من أجله دمعة واحدة. ودعتهم جميعا ومضيت في طريقي. ولكني بكيت بكاء لا مثيل له. سلام عليكم.