هل توقفت الدراسات اللغوية للشعر عند حدود اكتشافات الخليل ؟
فلننظر لنرى ماذا أنتجت الدراسات الحديثة لمحمد مندور؟
" دراسات تطبيقية باستخدام الأدوات الحديثة فى جامعة السوربون وتوجد أصولها بتسجيلاتها فى جامعة الاسكندرية (إن كانت ما زالت محفوظة !!!)"
أوزان الشعر
(١) الشعر الأوروبي
يخيَّل إليَّ أننا قد وصلنا الآن إلى مرحلة من نمو ثقافتنا يجب عندها أن نأخذ أنفسنا بالصرامة فيما نكتب، فلا نتحدث إلا عن بينة تامة وتحقيق لما نقول، بعد أن نكون قد عمقنا الفهم، وإلا فسنظل نوهم ونتوهم أنا نعرف شيئًا نافعًا، ونحن في الواقع نضرب شرقًا بغرب.
وهنا مسائل لا يكفي للحديث عنها أن نقرأها في كتاب إنجليزي أو فرنسي، ثم ننقلها إلى قرائنا حسبما نظن أننا قد فهمناها، هذا لا ينبغي. ونأخذ اليوم لتلك المسائل مثلًا من «أوزان الشعر»، كما تحدث عنها الأستاذ دريني خشبة فيما يحشد في «الرسالة» من أحاديث.
يريد الأستاذ أن يميز بين العروض الإنجليزي وغيره من الأعاريض الأوروبية، وبين العروض العربي، فيقول: «وبحسبنا هنا أن نذكر أن العروض الإنجليزي، بل كل أنواع العروض في اللغات الأوروبية، إنما أساسها التفعيلة The foot، وليس أساسها الأبحر كما في العروض العربي.» وهذا قول لا معنى له إطلاقًا؛ لأن جميع أنواع الشعر، الشرقي والغربي على السواء، تتكون من تفاعيل يجتمع بعضها إلى بعض فتكون الأبحر. والشعر العربي في هذا كغيره من الأشعار، وإنما الْتبس الأمر على الأستاذ؛ لأنه رأى الأبحر في الإنجليزية تسمى باسم التفعيلة المكونة لها فيقولون: Iambic meter … إلخ، وأما في العربية فقد وضعوا لها أسماء أخرى كالطويل والبسيط وغيرها. وإذا كانت في الشعر العربي أبحر متجاوبة التفاعيل كالطويل أو البسيط مثلًا؛ حيث نجد التفعيل الأول يساوي الرابع، فإن هناك أيضًا أبحرًا متساوية التفاعيل كالمتدارك والرجز والهزج والكامل وغيرها، وهذه كان من الممكن أن تسمى بأسماء تفاعيلها، فالمسألة مسألة مواضعة. وإذا كانت في الشعر العربي زحافات وعلل فإن الشعر الأوروبي أيضًا فيه ما يسمونه بالإحلال Substitution فتراهم يضعون مقطعًا اسبونديًّا محل مقطع داكتيلي أو مقطع إيامبي، وفي الشعر الأوروبي والعربي معًا لا يغير هذا الإحلال من اسم التفعيل الأصلي. وإذن، فكل الأشعار من هذه الناحية لا تختلف في شيء.
وإنما تتميز الأشعار ببينية التفاعيل. وهنا نلاحظ أن الأستاذ خشبة لم يدرك بأذنه حقيقة الشعر الإنجليزي، وكان السبب في ذلك اعتماده فيما أرجِّح على قواميس اللغة الإنجليزية، فقد قرأ في أحد كتب العروض الإنجليزي أن هناك شعرًا تتكون تفاعيله من الإيامب، وشعرًا تتكون تفاعيله من الداكتيل … إلخ، مما يجده القارئ في هامش مقاله، وبحث في القاموس فوجد أن الإيامب عبارة عن وحدة من مقطعين، أولهما قصير والثاني طويل وهكذا. وفاته أن هذه التعاريف لا تنطبق على الشعر الإنجليزي بسهولة، وإنما هي خاصة بالأشعار اليونانية واللاتينية، ففي هاتين اللغتين تتميز المقاطع بعضها عن بعض بالطول والقصر، وأما اللغة الإنجليزية واللغة الألمانية فتتميز مقاطعهما قبل كل شيء بالارتكاز الصوتي stress، فهناك مقاطع تنطق بضغط وأخرى بغير ضغط، وعلى هذا يكون الإيامب وحدة من مقطع لا يحمل ارتكازًا وآخر يحمله، ومن ثم لا يكون الشعر الإنجليزي شعرًا كميًّا بل شعر ارتكاز stressed، وهذا هو الرأي المعتمد.
وفي موضع آخر يقول الأستاذ: «ويفضل بعض الشعراء البحر الإسكندري نسبة إلى الإسكندر الأكبر والقصائد التي نظمت فيه من هذا البحر. ويؤثر شعراء المأساة الفرنسيون النظم من هذا البحر إطلاقًا، وهو يتكون من اثني عشر مقطعًا «ست تفعيلات إيامبية كل تفعيل من مقطعين».» وهذا القول أيضًا يدل على أنواع من عدم الدقة، بل ومن الخطأ البين، فعدم الدقة نجدها في شرح سبب تسمية هذا البحر، فهو ليس نسبة إلى الإسكندر الأكبر، بل نسبة إلى رواية بالذات كتبت في القرن الثاني عشر بفرنسا عن الإسكندر الأكبر lé Roman d’Alexandre استعمل فيها لأول مرة هذا البحر بدلًا من الأبحر الأقصر منه التي كانت مستعملة في القرون الوسطى. أما الخطأ ففي ظن الأستاذ أن البحر الإسكندري في الشعر الفرنسي يتكون من ست تفعيلات إيامبية كل تفعيل من مقطعين، فهذا لا وجود له في الشعر الفرنسي، ومن المعلوم أن اللغة الفرنسية قد فَقدت منذ قرون الكمَّ، فلم تعد هناك مقاطع طويلة ومقاطع قصيرة إلا في حالات نادرة في أواخر الكلمات مثل âge، ومن المسلَّم به عند الفرنسيين وعند جميع من كتبوا عن الشعر الفرنسي أن هذا الشعر لا علاقة له بكم المقاطع. (٢) الارتكاز فألفاظ اللغة الفرنسية لم تعد تحمل ارتكازًا stress، وإنما يوجد ارتكاز في أواخر الجمل، فكل جملة فرنسية أو شبه جملة تنتهي بارتكاز نحس أنه ارتكاز شدة وارتفاع معًا إلا في حالة الوقف فإنه يعتبر ارتكاز شدة فحسب، فمثلًا جملة Cette maison est trés belle لا نجد فيها غير ارتكازين اثنين؛ أولهما على on والآخر على bel. والارتكاز الأول ارتكاز شدة وارتفاع في الصوت، أما الثاني فشدة فقط؛ لأن الارتفاع يسقط للوقف. وإذن فالشعر الفرنسي ليس شعرًا كميًّا ولا شعرًا ارتكازيًّا، لسبب واضح هو أن مقاطع تلك اللغة لا تتميز بِكمٍّ ولا ارتكاز، الشعر الفرنسي يسمونه بكل بساطة «شعرًا مقطعيًّا syllabique».
من هذه الملاحظات يتبين لنا أن هناك ثلاثة أنواع من الشعر كنا نحب من الأستاذ خشبة — ما دام قد أراد أن يبصرنا بحقائق الأوزان — أن يميز بينها لنحاول بعد ذلك أن نرى أين يقع منها الشعر العربي، وبذلك قد نستطيع أن نساعد على ظهور أنواع جديدة من الشعر العربي تمكن شعراءنا الكبار الذين يعجب بهم الأستاذ من إجادة فنهم حقًّا، وعندئذٍ سنرى المسرحيات تكتب شعرًا كما كانت تكتب منذ ثلاثة قرون، ونكون بعملنا هذا قد أثبتنا للعالم المتحضر أنهم مخطئون في عدم استمرارهم على استخدام الشعر في المسرحيات.١
هذه الأنواع الثلاثة هي: (١) الشعر الكمي. (٢) الشعر الارتكازي. (٣) الشعر المقطعي. أما النوع الأول فهو الشعر اليوناني واللاتيني القديم، أما النوع الثاني فهو الشعر الإنجليزي والألماني، وأما الثالث فهو الشعر الفرنسي.
الشعر الكمي
لنأخذ لذلك مثلًا بيت فرجيلوس في «الإنيادة»:٢
Infandum regina jubes renovaré dólorem
نجده مكونًا من ستة تفاعيل، وكل تفعيل مكون من مقطعين طويلين «اسبونديه»، أو مقطع طويل أو مقطعين قصيرين «داكتل»، ما عدا التفعيل الأخير فمقطعه الأخير قد يكون قصيرًا ويكتفي به لأن الوقف يعوض النقص. وإليك التقطيع مع رمزنا للمقطع الطويل بالعلامة ) وللمقطع القصير بالعلامة (-):
Inf an-d um r e-g in a ju = bes r en o-v aré dó-l or em.
وأما الأساس الذي يعتبر به المقطع طويلًا أو قصيرًا فيرجع إلى الحرف الصائت voyelle فإذا كان طويلًا بطبيعته كما هو الحال في بعض الحروف اليونانية، أو كان حرفًا مزدوجًا diphtongue، أو كان ناتجًا عن إدغام حرفين صائتين، أو كان متلوًّا في نفس المقطع بحرف صامت consonne، اعتبر المقطع طويلًا، وإلا فهو قصير، وفي القواميس الجيدة نجد دائمًا كم الحروف الملتبسة.
ونحن لا نريد أن نطيل في تحليل موسيقى هذا النوع من الشعر، فهي لا شك لا تقف عند التفاعيل والمقاطع، بل لا بد لها من إيقاع rythme ينتج عن وجود ارتكاز شعري يسمى lctus، وهو يقع على مقطع طويل في كل تفعيل، كما أن هناك وقفًا مهمًّا في كل بيت يشبه الوقف على الشطر في البيت العربي، وهو في البيت السابق يقع بعد المقطع السابع كما وضحنا بالعلامة ). والواقع أن أوزان الأشعار اليونانية واللاتينية معقدة صعبة حتى بالنسبة لمن يتقنون تلك اللغات؛ وذلك لأن نطقها غير معروف على وجه دقيق، ومن باب أولى عناصرها الموسيقية؛ ولهذا نكتفي بما ذكرنا.
الشعر الارتكازي
نأخذ لهذا النوع بيتًا من الشعر الإنجليزي، وليكن مطلع «مرثية في مقبرة بالريف» لتوماس جراي:٣
The curfew tolls the knell of parting day
نجده مكونًا من ستة تفاعيل إيامبية، وكل تفعيل مكون من مقطع غير مرتكز عليه ومقطع آخر مرتكز عليه، وإليك وزنه مع رمزنا للارتكاز بالعلامة (-) وترك غير المرتكز عليه بدون علامة.
The cur-few tolls-the kn ell-of p ar-ting day.
وما على القارئ الذي يريد أن يحس بوزن البيت إلا أن يقرأ مع المرور بخفة على المقطع غير المرتكز عليه والضغط على المقطع الذي يحمل الارتكاز.
ومن البين أن ما يميز هذه المقاطع بعضها عن بعض ليس كمها كما قال الأستاذ خشبة، بل الضغط الواقع على بعضها، وأما أن هذا الضغط يزيد من كم المقاطع التي يقع عليها فهذه مسألة تابعة لا يمكن أن تغير من طبيعة هذا الشعر، الذي يعتبر إيقاعيًّا قبل كل شيء. ومن الملاحظ أن اللغة الإنجليزية٤ بوجه عام لغة إيقاع إذا قيست بلغة سيالة كاللغة الفرنسية.
الشعر المقطعي
هذا النوع من الشعر خاص باللغة الفرنسية، وسبب وجوده هو ما أشرنا إليه من قبل، فاللغة الفرنسية كما هو معلوم تطور للغة اللاتينية على نحو ما تطورت لغتنا العامية عن اللغة الفصحى مع المحافظة على النسب، ولقد كانت اللغة اللاتينية كما رأينا لغة كمية تتميز مقاطعها بعضها عن بعض بالطول والقصر، ولكن اللغة الفرنسية فقدت هذه الخاصية كما فقدت الارتكاز أيضًا، فكل لفظة لاتينية كانت في العادة تحمل ارتكازًا على المقطع السابق الأخير، وذلك ما لم يكن هذا المقطع قصيرًا فإن الارتكاز يسمو في هذه الحالة إلى المقطع الثالث من الآخر. ولكن هذا الارتكاز سقط من الفرنسية بسقوط الكثير من أواخر الكلمات اللاتينية الأصل.
فقدت اللغة الفرنسية إذن الكم والارتكاز، فعلى أي أساس يقوم إذن الشعر فيها؟ الواقع أن موسيقى الشعر الفرنسي ليست في جوهرها موسيقى إيقاع، ولكنها موسيقى سيالة دقيقة، ومع ذلك فالأمر فيها ليس أمر مقاطع متشابهة: كل عشرة أو اثني عشر أو غيرها تكون بيتًا من الشعر، بل لا بد أن يكون هناك تقسيم لهذه المقاطع في وحدات موسيقية إيقاعية إلى حدٍّ ما، فالوزن الإسكندري مثلًا ينقسم عند معظم الشعراء الكلاسيكيين إلى أربع وحدات كبيت راسين:٥
Oui je viens dans son temple adorer l’Eternel
فيه نرى تفعيلة مكونة من ثلاثة مقاطع (حرف e في آخر كلمة temple يحذف في القراءة). ولكن هذه المقاطع لا يتميز بعضها عن بعض بكمٍّ ولا ارتكاز، وإنما يأتي الإيقاع من وجود ارتكاز شعري على آخر مقطع من كل تفعيلة وقد رمزنا له بالعلامة (//) وهذا الارتكاز كما قلنا ارتكاز ضغط وارتفاع معًا في التفاعيل الثلاثة الأولى وارتكاز ضغط فقط في التفعيل الأخير لسقوط الصوت عند الوقف.
هذا هو التقسيم الشائع عند الكلاسيكيين،٦ وأما الرومانتيكيون فقد اعتزوا بالتقسيم الثلاثي، ففكتور نفسه قد افتخر بتمزيق أوصال الوزن الكلاسيكي لهذا البحر في بيت ثلاثي شهير هو:
J’ai disloqué ce grand niais d’alexandrin
وهو مقسم كما ترى إلى ثلاثة تفاعيل، كل تفعيل أربعة مقاطع، وأما عن الإيقاع فيأتي من الارتكاز على أواخر الجمل كما ذكرنا بالنسبة للبيت السابق.
هذا، والتفاعيل الفرنسية ليست دائمًا متساوية في عدد مقاطعها، ولقد كتب الأستاذ الكبير جرامو Grammont كتابًا مهمًّا جدًّا بعنوان: Le vers francais, ses moyens d’expression, son harmonie.
وفيه يظهر أن التفاعيل الفرنسية وإن لم تكن متساوية في الكتابة إلا أنه من الواجب أن نقرأها كأنها متساوية، فعدم التساوي هذا قد ساقت إليه غريزة الشعر عند الموهوبين من الشعراء عندما أحسوا أنه لا بد من أن تسرع القراءة أو تبطئ لتترجم ترجمة صحيحة عن مشاعرهم المتباينة، وإذن فمن واجب القارئ أن يسوي بين التفاعيل في كمها الزمني ثم يبحث بعد ذلك عن العلة فيما اضطر إليه من إسراع أو تباطؤ.
هذه هي أنواع الشعر الأوروبي الثلاثة: كمي، وارتكازي، ومقطعي، ومن الممكن أن نستخلص منها عنصرين عامين يقوم عليهما كل شعر؛ وهما: (١) الكم. (٢) الإيقاع.
أما الكم فقصد به هنا: كم التفاعيل التي يستغرق نطقها زمنًا ما، وكل أنواع الشعر لا بد أن يكون البيت فيها مقسمًا إلى تلك الوحدات، وهي بعد قد تكون متساوية كالرجز عندنا مثلًا، وقد تكون متجاوبة كالطويل؛ حيث يساوي التفعيل الأول التفعيل الثالث والتفعيل الثاني التفعيل الرابع وهكذا.
ولكن هذا الكم الذي يسمى في الموسيقى mesure لا يكفي لكي نحس بمفاصل الشعر، فلا بد من أن يضاف إليه الإيقاع المسمى rythme.
ولكي نضمن تحديد الفهم نعرف الإيقاع، فهو عبارة عن رجوع ظاهرة صوتية ما على مسافات زمنية متساوية أو متجاوبة، فأنت إذا نقرت ثلاث نقرات ثم نقرت رابعة أقوى من الثلاث السابقة وكررت عملك هذا تولد الإيقاع من رجوع النقرة القوية بعد كل ثلاث نقرات، وقد يتولد الإيقاع من مجرد الصمت بعد كل ثلاث نقرات.
لا بد إذن أن تكون هناك ظاهرة صوتية متميزة تحدث في أثناء نطق كل تفعيل، وتعود إلى الحدوث في التفعيل الذي يليه. والأمر في الشعر الارتكازي واضح، فالارتكاز نفسه كما يميز بين المقاطع يولد كذلك الإيقاع.
وأما الشعر الكمي فقد أحس القدماء بأن مجرد عودة مقطع طويل بعد مقطعين قصيرين مثلًا لا يكفي لإيضاح الإيقاع، فدلونا على أن هناك ارتكازًا شعريًّا يقع على مقطع طويل في كل تفعيل ويعود في نفس الموضع تقريبًا من التفاعيل الأخرى. كذلك الأمر في الشعر الفرنسي فهم لم يكتفوا بتقسيم البحر الإسكندري مثلًا إلى تفاعيل متساوية في الكتابة والقراءة معًا أو القراءة فحسب، بل أضافوا إليه وجود ارتكاز ضغط وشدة، أو ضغط فقط في آخر كل تفعيل، وعودة هذا الارتكاز على مسافات زمنية محددة هو الذي يولد الإيقاع، ولكنه لما كان إيقاعًا، قليل العدد خفيف الوقع، فإن الشعر الفرنسي لا يعتبر بالنسبة للشعر الإنجليزي مثلًا شعرًا إيقاعيًّا، بل شعرًا سيَّالًا كما قلنا.
والآن أين يقع الشعر العربي من كل هذا؟ للجواب عن هذا السؤال يجب أولًا أن نناقش مذهب الخليل.
(٢) الشعر العربي
ليس من شك في أن الخليل بن أحمد كان رجلًا عبقريًّا نفخر به مع من نفخر بهم من أجداد، ولكن العلم لا يعرف الوقوف، ولقد تقدمت الدراسات اللغوية تقدمًا يحملنا على أن نطمح إلى معرفة أدق من معرفة الخليل بالعناصر الموسيقية في شعرنا العربي، والذي لا شك فيه أن الخليل قد وضح حقيقة أساسية في الشعر العربي لا نستطيع أن نغفلها، وهي انقسام كل بيت إلى تفاعيل متساوية، كما هو الحال في الرجز والهزج وغيرهما، أو متجاوبة (التفعيل الأول يساوي الثالث والثاني يساوي الرابع)، كما هو الحال في الطويل والبسيط وغيرهما، وهذا التقسيم من أسس الموسيقى والشعر عند الأوروبيين اليوم، فهنالك وحدات موسيقية متساوية isometriques وأخرى متجاوبة symetriques كما وضح الخليل.
ولكننا لا نكاد نترك وجود التفاعيل إلى بنية تلك التفاعيل حتى نختلف مع الخليل؛ وذلك لأنه لم يدلنا على وحدة الكلام وهي المقطع، وأكبر ظني أن الخليل لم يعرف العروض اليوناني، وإلا لفطن إلى المقطع، وإن يكن قد علم — فيما نرجح — بالموسيقى اليونانية بفرعيها: علم الإيقاع rythmique وعلم الانسجام Les harmoniques والعروض اليوناني كما هو معلوم يقوم على المقطع. والسبب الذي منع الخليل من الوقوع على المقطع مزدوج فيما أظن:
(١)عدم كتابة الحروف الصائتة القصيرة voyelle bréves التي نسميها حركات «الفتح والضم والكسر» في صلب الكتابة العربية التي لا تزال إلى اليوم مقطعية إلى حد بعيد؛ بمعنى أننا نكتفي برسم الحروف الصامتة، وأما الصائتة فلا نكتب إلا الطويل منها «الألف والواو والياء»، فكتابتنا وسط بين الكتابة الفينيقية والكتابة الإغريقية، ومن الثابت تاريخيًّا أن الإغريق عند أخذهم بالكتابة الفينيقية قد أضافوا إليها رسومًا خاصة للحروف الصائتة كلها طويلة وقصيرة، وانبنى على ذلك أن الخليل لم يفطن إلى أن الحروف الصائتة القصيرة تكون مع الحرف الصامت Consonne الذي توضع فوقه كحركة، مقطعًا تامًّا مستقلًّا؛ ولهذا اكتفى في تقطيع التفعيل بالحروف التي تكتب مميزًا بينها بالحركة والسكون.
(٢)السبب الثاني هو أن اللغة العربية كغيرها من اللغات السامية تغلب فيها الحروف الصامتة فيما يرجح، وتلك الحروف يقع معها عادة الوقف أي السكون؛ ولهذا لاح للخليل أن التتابع إنما يقع في الحركات والسكنات. بينما نجد في اللغة اليونانية أن الحروف الصائتة هي الغالبة، ولهذا لا نحس فيها بالسكنات الموجودة في اللغة العربية، بل نحس فوق كل شيء باختلاف كم الحروف الصائتة في تتابعها.
هذان السببان لا يجوز أن يحجبا عنا الحقيقة اللغوية التي تصدق على كل لغة، وهي أن المقطع هو وحدة الكلام. وفي اللغة العربية أربعة أنواع من المقاطع، هي: (١) المقطع القصير المفتوح، وهو المكون من حرف صامت وحرف صائت طويل «ألف أو واو أو ياء، حروف اللين» مثل: «كا» في كانت. (٢) المقطع الطويل المزدوج وهو المكون من حرف صامت وحرفين صائتين مثل: بي bia في بيت مع احتفاظنا بالمناقشة العلمية التي تدور حول طبيعة الياء في هذا المقطع أهي صائتة أم صامتة. (٣) المقطع المغلق وهو المكون من حرف صامت، ثم حركة فحرف صامت آخر نحو «تن» في بيتن، والحرف الصائت في هذا المقطع قصير دائمًا. فهذا قانون مهم من قوانين اللغة العربية وليس له استثناء إلا في حالات محصورة أهمها حالات الوقف على الاسم المنون مثل «نار»، فهي تتكون في هذه الحالة من مقطع واحد مغلق حرفه الصائت طويل. وكذلك الوقف في حالتي التثنية والجمع مثل «محمدان ومحمدون» فالمقطع «دان» والمقطع «دون» كل منهما حرفه الصائت طويل. وإذن فالقانون العام هو قصر الحرف الصائت في المقطع المغلق، فهل نعتبره مقطعًا طويلًا أم قصيرًا؟ الواقع أنه مقطع طويل ويأتيه الطول من الزمن الذي يستغرقه الحرفان الصامتان، فهذا الزمن لا بد من حسابه وإن لم يحسبه علماء العروض الإغريقي واللاتيني. ولقد أثبت البحث الحديث أنه من الواجب أن يحسب كم الحروف الصامتة في جميع اللغات ومن باب أولى في اللغات السامية؛ حيث تغلب تلك الحروف، ثم إنه إذا كانت في جميع اللغات حروف آنية momentanées كحروف الانفجار «باء ودال مثلًا»، فإن هناك حروفًا متمادة continues كالسين واللام مثلًا، فهذه من الممكن أن نمد في نطقها كما نشاء، وإذن فالمقطع المغلق نعتبره طويلًا.
ونخلص من هذا إلى وجود مقاطع في اللغة العربية، وهذه المقاطع تختلف في كَمِّها، فهل نستنتج من ذلك أن الشعر العربي كَمِّيٌّ؛ بمعنى أن كل تفعيل فيه يتكون من مقاطع مختلفة الكم بنسب محدودة؟
ذلك ما رآه المستشرق إولد Ewald فقد وضع للشعر العربي عروضًا على غرار العروض اليوناني، وهو عروض مستقيم سهل الفهم مبسط عن عروضنا تبسيطًا كبيرًا، ولقد درسناه للطلبة بالجامعة فأجادوا فهمه، ويستطيع القارئ أن يجده في الجزء الثاني من «قواعد اللغة العربية» Arabic Grammar للمستشرق المشهور ريت Right. ولكننا مع ذلك لا نقر إولد ومن نحا نحوه من عامة المستشرقين في اكتفائهم برد العروض العربي إلى المقاطع الكمية كما هو الحال في العروض اليوناني واللاتيني؛ وذلك لأنهم لم يبصرونا بالإيقاع Rythme، فالكم كما قلنا لا يكفي لإدراك موسيقى الشعر، بل لا بد من الارتكاز الشعري الذي يقع على كل تفعيل ويعود في نفس الموضع على التفعيل التالي وهكذا، ولقد كان على نسب محدودة يوضح ذلك الإيقاع، وكذلك تتابع المقاطع المختلفة الكم.
والواقع أن الارتكاز في اللغة العربية موضوع شاق لا يزال في حاجة إلى البحث. نحن لا نظن أن المستشرقين يستطيعون بحثه؛ لأن معرفتهم باللغة مهما اتسعت لا يمكن أن تصل إلى الإحساس بمسائل موسيقية لغوية دقيقة كهذه، فهل مستطيعون نحن ذلك؟
ليسمح لي القارئ بأن أقول: إنني قد حاولت حل هذه الأشكال في بحث طويل كتبته باللغة الفرنسية بعد دراسة وتحليل لثلاثة أبحر من الشعر العربي بمعمل الأصوات بباريس، هي الطويل والبسيط والوافر.٧
ولنأخذ مثلًا من هذه الدراسة بيت امرئ القيس:
وليل كموج البحر أرخى سدوله عليَّ بأنواع الهموم ليبتلي
فهو يوزن على مذهب إولد كما يأتي «مع رمزنا للمقطع القصير بالعلامة ٮ والطويل بالعلامة —»:
ولكن هذا الوزن لا يبصرنا بالحقيقتين الكبيرتين اللتين يقوم عليهما الشعر في جميع اللغات، وهما: الكم والإيقاع.
الكم Mesure
نقصد بالكم لا كم كل مقطع منفردًا، فذلك ما سبق أن أوضحناه، بل كم التفاعيل، فنحن هنا أمام تفاعيل متجاوبة (التفعيل الأول يساوي الثالث والثاني يساوي الرابع)، ولكننا مع ذلك نسلم بجواز دخول زحافات وعلل. فكيف يستقيم الكم برغم هذه الزحافات والعلل التي تنقص من التفعيل في الغالب؟
هذه المشكلة قد حيَّرت المستشرقين، ولقد حاول العالم الفرنسي جويار Guyard أن يحلها في كتاب له بعنوان Nouvelle theorie de ja metrique arabe، وفيه يطبق مواضعات الموسيقى وأصولها على الشعر العربي، ولكنه لا يدخل في حسابه غير الحروف الصائتة كما يفعلون في الموسيقى، فيغطي تلك الحروف المختلفة بقيم متفاوتة من نقطة بيضاء إلى نقطة سوداء إلى كروش مزدوج … إلخ. ومن البين أنه قد أخطأ لسوء الحظ بإهماله كم الحروف الصامتة العظيمة الأهمية في اللغة العربية واللغات السامية عامة كما أشرنا.
والذي اهتدينا إليه بحساب الآلات الدقيقة هو ما يأتي (مقدرين كم كل تفعيل بأجزاء من مائة من الثانية):
٧٤ | | | ١٢٣ | ٧٧ | | | ١٣٣.
وهذه نتائج غريبة نلاحظ عليها:
(١)أن التفاعيل المزحفة كالتفعيل الخامس والسابع قد ساوى كمها في النطق مع كم التفاعيل الصحيحة بل زاد.
(٢)أن هناك فروقًا بين التفاعيل المتساوية كالتفعيل الثاني والرابع والسادس والثامن.
وتفسير ذلك هو:
أولًا: أن الفروق التي ظهرت في حساب الآلات لا تدركها الأذن؛ لأنه من الثابت أن الفرق الذي لا يزيد على من الثانية لا تكاد تدركه الأذن، وإذن فهذه نستطيع إسقاطها.
ثانيًا: وأما عن مساواة التفاعيل المزحفة للتفاعيل الصحيحة فهذا يفسر بحقيقة مهمة تحدث عند إنشاد الشعر، وهي عبارة عن عمليات تعويض نقوم بها آليًّا، وهذا التعويض يحدث بطريقة مختلفة؛ منها: تطويل حرف صائت بشرط ألا ينتج عن ذلك لبس يأتي من قلب الحرف القصير بطبيعته اللغوية إلى حرف طويل، ومنها: مد النطق في حرف صامت متماد كالسين أو اللام أو غيرهما، ومنها: الصمت بعد لفظ أو عند حرف آني كحروف الانفجار، مثل: الباء والفاء والدال … وغيرها.
إذن، فالزحافات والعلل لا تغير شيئًا في كم التفاعيل عند النطق، وهي لذلك لا تكسر الوزن.
الارتكاز الشعري
الارتكاز عنصر أساسي في الشعر العربي بل عنصر غالب، ومن تردده يتولد الإيقاع؛ ولهذا بحثنا عنه في عناية، والذي يبدو لنا هو أن هناك ارتكازًا على المقطع الثاني من التفعيل القصير «فعولن». وأما التفعيل الكبير فيقع عليه ارتكازان؛ أحدهما: أساسي على المقطع الثاني، والآخر: ثانوي على المقطع الأخير في «مفاعيلن». وقد رمزنا للارتكاز الأساسي بالعلامة (-) وللارتكاز الثانوي بالعلامة (//). ومن المعلوم أن الارتكاز لا يقع إلا على مقطع طويل، ومن ثم نلاحظ أن هذا الوزن لا بد أن يسلم منه دائمًا مقطع طويل بعد المقطع الأول القصير، فإذا لم يحدث ذلك انكسر البيت، فالمجموعة (ب//) الموجود في أول كل تفعيل من البحر الطويل هي النواة الموسيقية للبيت، وهي عبارة عن وتد مجموعة في لغة الخليل.
ومن عودة الارتكاز على هذا المقطع من كل تفعيل يتكون الإيقاع؛ لأنه كما قلنا عبارة عن عودة ظاهرة صوتية ما على مسافات زمنية محددة.
وإذن، فاستقامة الوزن أو عدم استقامته لا تعود إلى الكم الذي تؤثر فيه الزحافات والعلل تأثيرًا ظاهريًّا فقط، إلا إذا نتج عن هذه الزحافات والعلل فقدان للنواة الموسيقية التي تحمل الارتكاز.
ولكن، هل ينتج عن ذلك أن الشعر العربي شعر ارتكازي؛ بمعنى أن مقاطعه تتميز بأنها تحمل ارتكاز ضغط أو لا تحمله؟ الجواب أيضًا بالنفي، فالمقاطع العربية كما تحمل الارتكاز تتميز بالكم كذلك، وإذن فالشعر العربي يجمع بين الكم والارتكاز وربما كان هذا سبب تعقد أوزانه.
ونلخص طبيعة الأوزان العربية بأنها تتكون من وحدات زمنية متساوية أو متجاوبة هي التفاعيل، وأن هذه التفاعيل تتساوى أو تتجاوب في الواقع عند النطق بها بفضل عمليات التعويض، سواء أكانت مزحفة معلولة أو لم تكن، وأن الإيقاع يتولد في الشعر العربي من تردد ارتكاز يقع على مقطع طويل في كل تفعيل ويعود على مسافات زمنية محددة النسب، وعلى سلامة هذا الإيقاع تقوم سلامة الوزن.
وهكذا ننتهي في هذا الحديث إلى ما انتهينا إليه في الحديث السابق من قيام جميع الأشعار على عنصري الكم والإيقاع، وأما موضع الاختلاف بين الأشعار المختلفة فهو في كيفية تحقيق هذين العنصرين.
فلننظر لنرى ماذا أنتجت الدراسات الحديثة لمحمد مندور؟
" دراسات تطبيقية باستخدام الأدوات الحديثة فى جامعة السوربون وتوجد أصولها بتسجيلاتها فى جامعة الاسكندرية (إن كانت ما زالت محفوظة !!!)"
أوزان الشعر
(١) الشعر الأوروبي
يخيَّل إليَّ أننا قد وصلنا الآن إلى مرحلة من نمو ثقافتنا يجب عندها أن نأخذ أنفسنا بالصرامة فيما نكتب، فلا نتحدث إلا عن بينة تامة وتحقيق لما نقول، بعد أن نكون قد عمقنا الفهم، وإلا فسنظل نوهم ونتوهم أنا نعرف شيئًا نافعًا، ونحن في الواقع نضرب شرقًا بغرب.
وهنا مسائل لا يكفي للحديث عنها أن نقرأها في كتاب إنجليزي أو فرنسي، ثم ننقلها إلى قرائنا حسبما نظن أننا قد فهمناها، هذا لا ينبغي. ونأخذ اليوم لتلك المسائل مثلًا من «أوزان الشعر»، كما تحدث عنها الأستاذ دريني خشبة فيما يحشد في «الرسالة» من أحاديث.
يريد الأستاذ أن يميز بين العروض الإنجليزي وغيره من الأعاريض الأوروبية، وبين العروض العربي، فيقول: «وبحسبنا هنا أن نذكر أن العروض الإنجليزي، بل كل أنواع العروض في اللغات الأوروبية، إنما أساسها التفعيلة The foot، وليس أساسها الأبحر كما في العروض العربي.» وهذا قول لا معنى له إطلاقًا؛ لأن جميع أنواع الشعر، الشرقي والغربي على السواء، تتكون من تفاعيل يجتمع بعضها إلى بعض فتكون الأبحر. والشعر العربي في هذا كغيره من الأشعار، وإنما الْتبس الأمر على الأستاذ؛ لأنه رأى الأبحر في الإنجليزية تسمى باسم التفعيلة المكونة لها فيقولون: Iambic meter … إلخ، وأما في العربية فقد وضعوا لها أسماء أخرى كالطويل والبسيط وغيرها. وإذا كانت في الشعر العربي أبحر متجاوبة التفاعيل كالطويل أو البسيط مثلًا؛ حيث نجد التفعيل الأول يساوي الرابع، فإن هناك أيضًا أبحرًا متساوية التفاعيل كالمتدارك والرجز والهزج والكامل وغيرها، وهذه كان من الممكن أن تسمى بأسماء تفاعيلها، فالمسألة مسألة مواضعة. وإذا كانت في الشعر العربي زحافات وعلل فإن الشعر الأوروبي أيضًا فيه ما يسمونه بالإحلال Substitution فتراهم يضعون مقطعًا اسبونديًّا محل مقطع داكتيلي أو مقطع إيامبي، وفي الشعر الأوروبي والعربي معًا لا يغير هذا الإحلال من اسم التفعيل الأصلي. وإذن، فكل الأشعار من هذه الناحية لا تختلف في شيء.
وإنما تتميز الأشعار ببينية التفاعيل. وهنا نلاحظ أن الأستاذ خشبة لم يدرك بأذنه حقيقة الشعر الإنجليزي، وكان السبب في ذلك اعتماده فيما أرجِّح على قواميس اللغة الإنجليزية، فقد قرأ في أحد كتب العروض الإنجليزي أن هناك شعرًا تتكون تفاعيله من الإيامب، وشعرًا تتكون تفاعيله من الداكتيل … إلخ، مما يجده القارئ في هامش مقاله، وبحث في القاموس فوجد أن الإيامب عبارة عن وحدة من مقطعين، أولهما قصير والثاني طويل وهكذا. وفاته أن هذه التعاريف لا تنطبق على الشعر الإنجليزي بسهولة، وإنما هي خاصة بالأشعار اليونانية واللاتينية، ففي هاتين اللغتين تتميز المقاطع بعضها عن بعض بالطول والقصر، وأما اللغة الإنجليزية واللغة الألمانية فتتميز مقاطعهما قبل كل شيء بالارتكاز الصوتي stress، فهناك مقاطع تنطق بضغط وأخرى بغير ضغط، وعلى هذا يكون الإيامب وحدة من مقطع لا يحمل ارتكازًا وآخر يحمله، ومن ثم لا يكون الشعر الإنجليزي شعرًا كميًّا بل شعر ارتكاز stressed، وهذا هو الرأي المعتمد.
وفي موضع آخر يقول الأستاذ: «ويفضل بعض الشعراء البحر الإسكندري نسبة إلى الإسكندر الأكبر والقصائد التي نظمت فيه من هذا البحر. ويؤثر شعراء المأساة الفرنسيون النظم من هذا البحر إطلاقًا، وهو يتكون من اثني عشر مقطعًا «ست تفعيلات إيامبية كل تفعيل من مقطعين».» وهذا القول أيضًا يدل على أنواع من عدم الدقة، بل ومن الخطأ البين، فعدم الدقة نجدها في شرح سبب تسمية هذا البحر، فهو ليس نسبة إلى الإسكندر الأكبر، بل نسبة إلى رواية بالذات كتبت في القرن الثاني عشر بفرنسا عن الإسكندر الأكبر lé Roman d’Alexandre استعمل فيها لأول مرة هذا البحر بدلًا من الأبحر الأقصر منه التي كانت مستعملة في القرون الوسطى. أما الخطأ ففي ظن الأستاذ أن البحر الإسكندري في الشعر الفرنسي يتكون من ست تفعيلات إيامبية كل تفعيل من مقطعين، فهذا لا وجود له في الشعر الفرنسي، ومن المعلوم أن اللغة الفرنسية قد فَقدت منذ قرون الكمَّ، فلم تعد هناك مقاطع طويلة ومقاطع قصيرة إلا في حالات نادرة في أواخر الكلمات مثل âge، ومن المسلَّم به عند الفرنسيين وعند جميع من كتبوا عن الشعر الفرنسي أن هذا الشعر لا علاقة له بكم المقاطع. (٢) الارتكاز فألفاظ اللغة الفرنسية لم تعد تحمل ارتكازًا stress، وإنما يوجد ارتكاز في أواخر الجمل، فكل جملة فرنسية أو شبه جملة تنتهي بارتكاز نحس أنه ارتكاز شدة وارتفاع معًا إلا في حالة الوقف فإنه يعتبر ارتكاز شدة فحسب، فمثلًا جملة Cette maison est trés belle لا نجد فيها غير ارتكازين اثنين؛ أولهما على on والآخر على bel. والارتكاز الأول ارتكاز شدة وارتفاع في الصوت، أما الثاني فشدة فقط؛ لأن الارتفاع يسقط للوقف. وإذن فالشعر الفرنسي ليس شعرًا كميًّا ولا شعرًا ارتكازيًّا، لسبب واضح هو أن مقاطع تلك اللغة لا تتميز بِكمٍّ ولا ارتكاز، الشعر الفرنسي يسمونه بكل بساطة «شعرًا مقطعيًّا syllabique».
من هذه الملاحظات يتبين لنا أن هناك ثلاثة أنواع من الشعر كنا نحب من الأستاذ خشبة — ما دام قد أراد أن يبصرنا بحقائق الأوزان — أن يميز بينها لنحاول بعد ذلك أن نرى أين يقع منها الشعر العربي، وبذلك قد نستطيع أن نساعد على ظهور أنواع جديدة من الشعر العربي تمكن شعراءنا الكبار الذين يعجب بهم الأستاذ من إجادة فنهم حقًّا، وعندئذٍ سنرى المسرحيات تكتب شعرًا كما كانت تكتب منذ ثلاثة قرون، ونكون بعملنا هذا قد أثبتنا للعالم المتحضر أنهم مخطئون في عدم استمرارهم على استخدام الشعر في المسرحيات.١
هذه الأنواع الثلاثة هي: (١) الشعر الكمي. (٢) الشعر الارتكازي. (٣) الشعر المقطعي. أما النوع الأول فهو الشعر اليوناني واللاتيني القديم، أما النوع الثاني فهو الشعر الإنجليزي والألماني، وأما الثالث فهو الشعر الفرنسي.
الشعر الكمي
لنأخذ لذلك مثلًا بيت فرجيلوس في «الإنيادة»:٢
Infandum regina jubes renovaré dólorem
نجده مكونًا من ستة تفاعيل، وكل تفعيل مكون من مقطعين طويلين «اسبونديه»، أو مقطع طويل أو مقطعين قصيرين «داكتل»، ما عدا التفعيل الأخير فمقطعه الأخير قد يكون قصيرًا ويكتفي به لأن الوقف يعوض النقص. وإليك التقطيع مع رمزنا للمقطع الطويل بالعلامة ) وللمقطع القصير بالعلامة (-):
Inf an-d um r e-g in a ju = bes r en o-v aré dó-l or em.
وأما الأساس الذي يعتبر به المقطع طويلًا أو قصيرًا فيرجع إلى الحرف الصائت voyelle فإذا كان طويلًا بطبيعته كما هو الحال في بعض الحروف اليونانية، أو كان حرفًا مزدوجًا diphtongue، أو كان ناتجًا عن إدغام حرفين صائتين، أو كان متلوًّا في نفس المقطع بحرف صامت consonne، اعتبر المقطع طويلًا، وإلا فهو قصير، وفي القواميس الجيدة نجد دائمًا كم الحروف الملتبسة.
ونحن لا نريد أن نطيل في تحليل موسيقى هذا النوع من الشعر، فهي لا شك لا تقف عند التفاعيل والمقاطع، بل لا بد لها من إيقاع rythme ينتج عن وجود ارتكاز شعري يسمى lctus، وهو يقع على مقطع طويل في كل تفعيل، كما أن هناك وقفًا مهمًّا في كل بيت يشبه الوقف على الشطر في البيت العربي، وهو في البيت السابق يقع بعد المقطع السابع كما وضحنا بالعلامة ). والواقع أن أوزان الأشعار اليونانية واللاتينية معقدة صعبة حتى بالنسبة لمن يتقنون تلك اللغات؛ وذلك لأن نطقها غير معروف على وجه دقيق، ومن باب أولى عناصرها الموسيقية؛ ولهذا نكتفي بما ذكرنا.
الشعر الارتكازي
نأخذ لهذا النوع بيتًا من الشعر الإنجليزي، وليكن مطلع «مرثية في مقبرة بالريف» لتوماس جراي:٣
The curfew tolls the knell of parting day
نجده مكونًا من ستة تفاعيل إيامبية، وكل تفعيل مكون من مقطع غير مرتكز عليه ومقطع آخر مرتكز عليه، وإليك وزنه مع رمزنا للارتكاز بالعلامة (-) وترك غير المرتكز عليه بدون علامة.
The cur-few tolls-the kn ell-of p ar-ting day.
وما على القارئ الذي يريد أن يحس بوزن البيت إلا أن يقرأ مع المرور بخفة على المقطع غير المرتكز عليه والضغط على المقطع الذي يحمل الارتكاز.
ومن البين أن ما يميز هذه المقاطع بعضها عن بعض ليس كمها كما قال الأستاذ خشبة، بل الضغط الواقع على بعضها، وأما أن هذا الضغط يزيد من كم المقاطع التي يقع عليها فهذه مسألة تابعة لا يمكن أن تغير من طبيعة هذا الشعر، الذي يعتبر إيقاعيًّا قبل كل شيء. ومن الملاحظ أن اللغة الإنجليزية٤ بوجه عام لغة إيقاع إذا قيست بلغة سيالة كاللغة الفرنسية.
الشعر المقطعي
هذا النوع من الشعر خاص باللغة الفرنسية، وسبب وجوده هو ما أشرنا إليه من قبل، فاللغة الفرنسية كما هو معلوم تطور للغة اللاتينية على نحو ما تطورت لغتنا العامية عن اللغة الفصحى مع المحافظة على النسب، ولقد كانت اللغة اللاتينية كما رأينا لغة كمية تتميز مقاطعها بعضها عن بعض بالطول والقصر، ولكن اللغة الفرنسية فقدت هذه الخاصية كما فقدت الارتكاز أيضًا، فكل لفظة لاتينية كانت في العادة تحمل ارتكازًا على المقطع السابق الأخير، وذلك ما لم يكن هذا المقطع قصيرًا فإن الارتكاز يسمو في هذه الحالة إلى المقطع الثالث من الآخر. ولكن هذا الارتكاز سقط من الفرنسية بسقوط الكثير من أواخر الكلمات اللاتينية الأصل.
فقدت اللغة الفرنسية إذن الكم والارتكاز، فعلى أي أساس يقوم إذن الشعر فيها؟ الواقع أن موسيقى الشعر الفرنسي ليست في جوهرها موسيقى إيقاع، ولكنها موسيقى سيالة دقيقة، ومع ذلك فالأمر فيها ليس أمر مقاطع متشابهة: كل عشرة أو اثني عشر أو غيرها تكون بيتًا من الشعر، بل لا بد أن يكون هناك تقسيم لهذه المقاطع في وحدات موسيقية إيقاعية إلى حدٍّ ما، فالوزن الإسكندري مثلًا ينقسم عند معظم الشعراء الكلاسيكيين إلى أربع وحدات كبيت راسين:٥
Oui je viens dans son temple adorer l’Eternel
فيه نرى تفعيلة مكونة من ثلاثة مقاطع (حرف e في آخر كلمة temple يحذف في القراءة). ولكن هذه المقاطع لا يتميز بعضها عن بعض بكمٍّ ولا ارتكاز، وإنما يأتي الإيقاع من وجود ارتكاز شعري على آخر مقطع من كل تفعيلة وقد رمزنا له بالعلامة (//) وهذا الارتكاز كما قلنا ارتكاز ضغط وارتفاع معًا في التفاعيل الثلاثة الأولى وارتكاز ضغط فقط في التفعيل الأخير لسقوط الصوت عند الوقف.
هذا هو التقسيم الشائع عند الكلاسيكيين،٦ وأما الرومانتيكيون فقد اعتزوا بالتقسيم الثلاثي، ففكتور نفسه قد افتخر بتمزيق أوصال الوزن الكلاسيكي لهذا البحر في بيت ثلاثي شهير هو:
J’ai disloqué ce grand niais d’alexandrin
وهو مقسم كما ترى إلى ثلاثة تفاعيل، كل تفعيل أربعة مقاطع، وأما عن الإيقاع فيأتي من الارتكاز على أواخر الجمل كما ذكرنا بالنسبة للبيت السابق.
هذا، والتفاعيل الفرنسية ليست دائمًا متساوية في عدد مقاطعها، ولقد كتب الأستاذ الكبير جرامو Grammont كتابًا مهمًّا جدًّا بعنوان: Le vers francais, ses moyens d’expression, son harmonie.
وفيه يظهر أن التفاعيل الفرنسية وإن لم تكن متساوية في الكتابة إلا أنه من الواجب أن نقرأها كأنها متساوية، فعدم التساوي هذا قد ساقت إليه غريزة الشعر عند الموهوبين من الشعراء عندما أحسوا أنه لا بد من أن تسرع القراءة أو تبطئ لتترجم ترجمة صحيحة عن مشاعرهم المتباينة، وإذن فمن واجب القارئ أن يسوي بين التفاعيل في كمها الزمني ثم يبحث بعد ذلك عن العلة فيما اضطر إليه من إسراع أو تباطؤ.
هذه هي أنواع الشعر الأوروبي الثلاثة: كمي، وارتكازي، ومقطعي، ومن الممكن أن نستخلص منها عنصرين عامين يقوم عليهما كل شعر؛ وهما: (١) الكم. (٢) الإيقاع.
أما الكم فقصد به هنا: كم التفاعيل التي يستغرق نطقها زمنًا ما، وكل أنواع الشعر لا بد أن يكون البيت فيها مقسمًا إلى تلك الوحدات، وهي بعد قد تكون متساوية كالرجز عندنا مثلًا، وقد تكون متجاوبة كالطويل؛ حيث يساوي التفعيل الأول التفعيل الثالث والتفعيل الثاني التفعيل الرابع وهكذا.
ولكن هذا الكم الذي يسمى في الموسيقى mesure لا يكفي لكي نحس بمفاصل الشعر، فلا بد من أن يضاف إليه الإيقاع المسمى rythme.
ولكي نضمن تحديد الفهم نعرف الإيقاع، فهو عبارة عن رجوع ظاهرة صوتية ما على مسافات زمنية متساوية أو متجاوبة، فأنت إذا نقرت ثلاث نقرات ثم نقرت رابعة أقوى من الثلاث السابقة وكررت عملك هذا تولد الإيقاع من رجوع النقرة القوية بعد كل ثلاث نقرات، وقد يتولد الإيقاع من مجرد الصمت بعد كل ثلاث نقرات.
لا بد إذن أن تكون هناك ظاهرة صوتية متميزة تحدث في أثناء نطق كل تفعيل، وتعود إلى الحدوث في التفعيل الذي يليه. والأمر في الشعر الارتكازي واضح، فالارتكاز نفسه كما يميز بين المقاطع يولد كذلك الإيقاع.
وأما الشعر الكمي فقد أحس القدماء بأن مجرد عودة مقطع طويل بعد مقطعين قصيرين مثلًا لا يكفي لإيضاح الإيقاع، فدلونا على أن هناك ارتكازًا شعريًّا يقع على مقطع طويل في كل تفعيل ويعود في نفس الموضع تقريبًا من التفاعيل الأخرى. كذلك الأمر في الشعر الفرنسي فهم لم يكتفوا بتقسيم البحر الإسكندري مثلًا إلى تفاعيل متساوية في الكتابة والقراءة معًا أو القراءة فحسب، بل أضافوا إليه وجود ارتكاز ضغط وشدة، أو ضغط فقط في آخر كل تفعيل، وعودة هذا الارتكاز على مسافات زمنية محددة هو الذي يولد الإيقاع، ولكنه لما كان إيقاعًا، قليل العدد خفيف الوقع، فإن الشعر الفرنسي لا يعتبر بالنسبة للشعر الإنجليزي مثلًا شعرًا إيقاعيًّا، بل شعرًا سيَّالًا كما قلنا.
والآن أين يقع الشعر العربي من كل هذا؟ للجواب عن هذا السؤال يجب أولًا أن نناقش مذهب الخليل.
(٢) الشعر العربي
ليس من شك في أن الخليل بن أحمد كان رجلًا عبقريًّا نفخر به مع من نفخر بهم من أجداد، ولكن العلم لا يعرف الوقوف، ولقد تقدمت الدراسات اللغوية تقدمًا يحملنا على أن نطمح إلى معرفة أدق من معرفة الخليل بالعناصر الموسيقية في شعرنا العربي، والذي لا شك فيه أن الخليل قد وضح حقيقة أساسية في الشعر العربي لا نستطيع أن نغفلها، وهي انقسام كل بيت إلى تفاعيل متساوية، كما هو الحال في الرجز والهزج وغيرهما، أو متجاوبة (التفعيل الأول يساوي الثالث والثاني يساوي الرابع)، كما هو الحال في الطويل والبسيط وغيرهما، وهذا التقسيم من أسس الموسيقى والشعر عند الأوروبيين اليوم، فهنالك وحدات موسيقية متساوية isometriques وأخرى متجاوبة symetriques كما وضح الخليل.
ولكننا لا نكاد نترك وجود التفاعيل إلى بنية تلك التفاعيل حتى نختلف مع الخليل؛ وذلك لأنه لم يدلنا على وحدة الكلام وهي المقطع، وأكبر ظني أن الخليل لم يعرف العروض اليوناني، وإلا لفطن إلى المقطع، وإن يكن قد علم — فيما نرجح — بالموسيقى اليونانية بفرعيها: علم الإيقاع rythmique وعلم الانسجام Les harmoniques والعروض اليوناني كما هو معلوم يقوم على المقطع. والسبب الذي منع الخليل من الوقوع على المقطع مزدوج فيما أظن:
(١)عدم كتابة الحروف الصائتة القصيرة voyelle bréves التي نسميها حركات «الفتح والضم والكسر» في صلب الكتابة العربية التي لا تزال إلى اليوم مقطعية إلى حد بعيد؛ بمعنى أننا نكتفي برسم الحروف الصامتة، وأما الصائتة فلا نكتب إلا الطويل منها «الألف والواو والياء»، فكتابتنا وسط بين الكتابة الفينيقية والكتابة الإغريقية، ومن الثابت تاريخيًّا أن الإغريق عند أخذهم بالكتابة الفينيقية قد أضافوا إليها رسومًا خاصة للحروف الصائتة كلها طويلة وقصيرة، وانبنى على ذلك أن الخليل لم يفطن إلى أن الحروف الصائتة القصيرة تكون مع الحرف الصامت Consonne الذي توضع فوقه كحركة، مقطعًا تامًّا مستقلًّا؛ ولهذا اكتفى في تقطيع التفعيل بالحروف التي تكتب مميزًا بينها بالحركة والسكون.
(٢)السبب الثاني هو أن اللغة العربية كغيرها من اللغات السامية تغلب فيها الحروف الصامتة فيما يرجح، وتلك الحروف يقع معها عادة الوقف أي السكون؛ ولهذا لاح للخليل أن التتابع إنما يقع في الحركات والسكنات. بينما نجد في اللغة اليونانية أن الحروف الصائتة هي الغالبة، ولهذا لا نحس فيها بالسكنات الموجودة في اللغة العربية، بل نحس فوق كل شيء باختلاف كم الحروف الصائتة في تتابعها.
هذان السببان لا يجوز أن يحجبا عنا الحقيقة اللغوية التي تصدق على كل لغة، وهي أن المقطع هو وحدة الكلام. وفي اللغة العربية أربعة أنواع من المقاطع، هي: (١) المقطع القصير المفتوح، وهو المكون من حرف صامت وحرف صائت طويل «ألف أو واو أو ياء، حروف اللين» مثل: «كا» في كانت. (٢) المقطع الطويل المزدوج وهو المكون من حرف صامت وحرفين صائتين مثل: بي bia في بيت مع احتفاظنا بالمناقشة العلمية التي تدور حول طبيعة الياء في هذا المقطع أهي صائتة أم صامتة. (٣) المقطع المغلق وهو المكون من حرف صامت، ثم حركة فحرف صامت آخر نحو «تن» في بيتن، والحرف الصائت في هذا المقطع قصير دائمًا. فهذا قانون مهم من قوانين اللغة العربية وليس له استثناء إلا في حالات محصورة أهمها حالات الوقف على الاسم المنون مثل «نار»، فهي تتكون في هذه الحالة من مقطع واحد مغلق حرفه الصائت طويل. وكذلك الوقف في حالتي التثنية والجمع مثل «محمدان ومحمدون» فالمقطع «دان» والمقطع «دون» كل منهما حرفه الصائت طويل. وإذن فالقانون العام هو قصر الحرف الصائت في المقطع المغلق، فهل نعتبره مقطعًا طويلًا أم قصيرًا؟ الواقع أنه مقطع طويل ويأتيه الطول من الزمن الذي يستغرقه الحرفان الصامتان، فهذا الزمن لا بد من حسابه وإن لم يحسبه علماء العروض الإغريقي واللاتيني. ولقد أثبت البحث الحديث أنه من الواجب أن يحسب كم الحروف الصامتة في جميع اللغات ومن باب أولى في اللغات السامية؛ حيث تغلب تلك الحروف، ثم إنه إذا كانت في جميع اللغات حروف آنية momentanées كحروف الانفجار «باء ودال مثلًا»، فإن هناك حروفًا متمادة continues كالسين واللام مثلًا، فهذه من الممكن أن نمد في نطقها كما نشاء، وإذن فالمقطع المغلق نعتبره طويلًا.
ونخلص من هذا إلى وجود مقاطع في اللغة العربية، وهذه المقاطع تختلف في كَمِّها، فهل نستنتج من ذلك أن الشعر العربي كَمِّيٌّ؛ بمعنى أن كل تفعيل فيه يتكون من مقاطع مختلفة الكم بنسب محدودة؟
ذلك ما رآه المستشرق إولد Ewald فقد وضع للشعر العربي عروضًا على غرار العروض اليوناني، وهو عروض مستقيم سهل الفهم مبسط عن عروضنا تبسيطًا كبيرًا، ولقد درسناه للطلبة بالجامعة فأجادوا فهمه، ويستطيع القارئ أن يجده في الجزء الثاني من «قواعد اللغة العربية» Arabic Grammar للمستشرق المشهور ريت Right. ولكننا مع ذلك لا نقر إولد ومن نحا نحوه من عامة المستشرقين في اكتفائهم برد العروض العربي إلى المقاطع الكمية كما هو الحال في العروض اليوناني واللاتيني؛ وذلك لأنهم لم يبصرونا بالإيقاع Rythme، فالكم كما قلنا لا يكفي لإدراك موسيقى الشعر، بل لا بد من الارتكاز الشعري الذي يقع على كل تفعيل ويعود في نفس الموضع على التفعيل التالي وهكذا، ولقد كان على نسب محدودة يوضح ذلك الإيقاع، وكذلك تتابع المقاطع المختلفة الكم.
والواقع أن الارتكاز في اللغة العربية موضوع شاق لا يزال في حاجة إلى البحث. نحن لا نظن أن المستشرقين يستطيعون بحثه؛ لأن معرفتهم باللغة مهما اتسعت لا يمكن أن تصل إلى الإحساس بمسائل موسيقية لغوية دقيقة كهذه، فهل مستطيعون نحن ذلك؟
ليسمح لي القارئ بأن أقول: إنني قد حاولت حل هذه الأشكال في بحث طويل كتبته باللغة الفرنسية بعد دراسة وتحليل لثلاثة أبحر من الشعر العربي بمعمل الأصوات بباريس، هي الطويل والبسيط والوافر.٧
ولنأخذ مثلًا من هذه الدراسة بيت امرئ القيس:
وليل كموج البحر أرخى سدوله عليَّ بأنواع الهموم ليبتلي
فهو يوزن على مذهب إولد كما يأتي «مع رمزنا للمقطع القصير بالعلامة ٮ والطويل بالعلامة —»:
ولكن هذا الوزن لا يبصرنا بالحقيقتين الكبيرتين اللتين يقوم عليهما الشعر في جميع اللغات، وهما: الكم والإيقاع.
الكم Mesure
نقصد بالكم لا كم كل مقطع منفردًا، فذلك ما سبق أن أوضحناه، بل كم التفاعيل، فنحن هنا أمام تفاعيل متجاوبة (التفعيل الأول يساوي الثالث والثاني يساوي الرابع)، ولكننا مع ذلك نسلم بجواز دخول زحافات وعلل. فكيف يستقيم الكم برغم هذه الزحافات والعلل التي تنقص من التفعيل في الغالب؟
هذه المشكلة قد حيَّرت المستشرقين، ولقد حاول العالم الفرنسي جويار Guyard أن يحلها في كتاب له بعنوان Nouvelle theorie de ja metrique arabe، وفيه يطبق مواضعات الموسيقى وأصولها على الشعر العربي، ولكنه لا يدخل في حسابه غير الحروف الصائتة كما يفعلون في الموسيقى، فيغطي تلك الحروف المختلفة بقيم متفاوتة من نقطة بيضاء إلى نقطة سوداء إلى كروش مزدوج … إلخ. ومن البين أنه قد أخطأ لسوء الحظ بإهماله كم الحروف الصامتة العظيمة الأهمية في اللغة العربية واللغات السامية عامة كما أشرنا.
والذي اهتدينا إليه بحساب الآلات الدقيقة هو ما يأتي (مقدرين كم كل تفعيل بأجزاء من مائة من الثانية):
٧٤ | | | ١٢٣ | ٧٧ | | | ١٣٣.
وهذه نتائج غريبة نلاحظ عليها:
(١)أن التفاعيل المزحفة كالتفعيل الخامس والسابع قد ساوى كمها في النطق مع كم التفاعيل الصحيحة بل زاد.
(٢)أن هناك فروقًا بين التفاعيل المتساوية كالتفعيل الثاني والرابع والسادس والثامن.
وتفسير ذلك هو:
أولًا: أن الفروق التي ظهرت في حساب الآلات لا تدركها الأذن؛ لأنه من الثابت أن الفرق الذي لا يزيد على من الثانية لا تكاد تدركه الأذن، وإذن فهذه نستطيع إسقاطها.
ثانيًا: وأما عن مساواة التفاعيل المزحفة للتفاعيل الصحيحة فهذا يفسر بحقيقة مهمة تحدث عند إنشاد الشعر، وهي عبارة عن عمليات تعويض نقوم بها آليًّا، وهذا التعويض يحدث بطريقة مختلفة؛ منها: تطويل حرف صائت بشرط ألا ينتج عن ذلك لبس يأتي من قلب الحرف القصير بطبيعته اللغوية إلى حرف طويل، ومنها: مد النطق في حرف صامت متماد كالسين أو اللام أو غيرهما، ومنها: الصمت بعد لفظ أو عند حرف آني كحروف الانفجار، مثل: الباء والفاء والدال … وغيرها.
إذن، فالزحافات والعلل لا تغير شيئًا في كم التفاعيل عند النطق، وهي لذلك لا تكسر الوزن.
الارتكاز الشعري
الارتكاز عنصر أساسي في الشعر العربي بل عنصر غالب، ومن تردده يتولد الإيقاع؛ ولهذا بحثنا عنه في عناية، والذي يبدو لنا هو أن هناك ارتكازًا على المقطع الثاني من التفعيل القصير «فعولن». وأما التفعيل الكبير فيقع عليه ارتكازان؛ أحدهما: أساسي على المقطع الثاني، والآخر: ثانوي على المقطع الأخير في «مفاعيلن». وقد رمزنا للارتكاز الأساسي بالعلامة (-) وللارتكاز الثانوي بالعلامة (//). ومن المعلوم أن الارتكاز لا يقع إلا على مقطع طويل، ومن ثم نلاحظ أن هذا الوزن لا بد أن يسلم منه دائمًا مقطع طويل بعد المقطع الأول القصير، فإذا لم يحدث ذلك انكسر البيت، فالمجموعة (ب//) الموجود في أول كل تفعيل من البحر الطويل هي النواة الموسيقية للبيت، وهي عبارة عن وتد مجموعة في لغة الخليل.
ومن عودة الارتكاز على هذا المقطع من كل تفعيل يتكون الإيقاع؛ لأنه كما قلنا عبارة عن عودة ظاهرة صوتية ما على مسافات زمنية محددة.
وإذن، فاستقامة الوزن أو عدم استقامته لا تعود إلى الكم الذي تؤثر فيه الزحافات والعلل تأثيرًا ظاهريًّا فقط، إلا إذا نتج عن هذه الزحافات والعلل فقدان للنواة الموسيقية التي تحمل الارتكاز.
ولكن، هل ينتج عن ذلك أن الشعر العربي شعر ارتكازي؛ بمعنى أن مقاطعه تتميز بأنها تحمل ارتكاز ضغط أو لا تحمله؟ الجواب أيضًا بالنفي، فالمقاطع العربية كما تحمل الارتكاز تتميز بالكم كذلك، وإذن فالشعر العربي يجمع بين الكم والارتكاز وربما كان هذا سبب تعقد أوزانه.
ونلخص طبيعة الأوزان العربية بأنها تتكون من وحدات زمنية متساوية أو متجاوبة هي التفاعيل، وأن هذه التفاعيل تتساوى أو تتجاوب في الواقع عند النطق بها بفضل عمليات التعويض، سواء أكانت مزحفة معلولة أو لم تكن، وأن الإيقاع يتولد في الشعر العربي من تردد ارتكاز يقع على مقطع طويل في كل تفعيل ويعود على مسافات زمنية محددة النسب، وعلى سلامة هذا الإيقاع تقوم سلامة الوزن.
وهكذا ننتهي في هذا الحديث إلى ما انتهينا إليه في الحديث السابق من قيام جميع الأشعار على عنصري الكم والإيقاع، وأما موضع الاختلاف بين الأشعار المختلفة فهو في كيفية تحقيق هذين العنصرين.
Khaled Mohamed Mandour
Khaled Mohamed Mandour is on Facebook. Join Facebook to connect with Khaled Mohamed Mandour and others you may know. Facebook gives people the power to share and makes the world more open and connected.
www.facebook.com