البحث في الشعر العربي اليوم، كالشعر نفسه إشكالية مفتوحة على مصراعيها، بل هي إشكالية الإشكاليات جميعًا؛ لأنها التعبير الراهن، باللغة الشعرية، عن تأجّج الصراع على الهوية. في عالم وحلي مفترس، وفي رياح التوجس والتوحش.. إن الحرية والذات والموت والمقاومة، شأنها شأن الخبز والنفط والماء والتراب… شأنها شأن الحب والخديعة والخوف والضجر… هي مسائل لا تستطيع القصيدة العربية الراهنة، مهما كانت خاصة وخفية، هامشية أو هاربة… لا تستطيع الإفلات من شباكها. فأنى لذبابة الشعر الذهبية الطائرة هذه أن تفلت من عنكبوت الحصار؟
المشهد الشعري الراهن
من العصر الجاهلي كانت جماعات العرب ترى القصيدة جرحًا من جروحها في الغيب الصحراوي الطويل، وسابقت القصائد بعد ذلك الجيوش الغازية في الفتوح، واختلطت بالشعوب، وتغربت وشهدت نهوض العواصم وسقوطها، ثم جلست على عتبات العصور لتنوح مناحات الشعراء الطويلة. فمن خصائص العرب، على ما رأى ابن خلدون، تحطيم الهدايا وتخريب العمار، هكذا تنفتح الستارة على المشهد العربي الراهن. والراهن يمتد لسنوات طويلة تعد بالعشرات. فالشعر الذي كان صدح في حناجر متعددة في أواسط القرن السابق، على عادته التاريخية، ما لبث أن تمزق وتشرد في بلاد كثيرة وبعيدة، واندس في لغات أخرى. يلوح لي أحيانًا مشهد الشعراء العرب المتسكعين على أرصفة عواصمهم أو عواصم العالم، أشبه ما يكون بأحصنة تموت على أرصفة بعيدة. تعرف مرام مصري (شاعرة سورية من اللاذقية تقيم الآن في فرنسا) نفسها بأنها شاعرة فرنسية من أصل سوري. ويعرف سعدي يوسف نفسه بأنه شاعر بريطاني من أصل عراقي. وشاعر فلسطيني بأنه شاعر هولندي من أصل فلسطيني.. وهلم جرًّا. حسنًا، المسألة ليست أخلاقية على ما يظن. هي أشد وأصعب من ذلك. إن من الشعرية أحيانًا إعلان اليأس حتى من الشعر نفسه، ذلك الذي سماه الماغوط «الجيفة الخالدة» وأعلن كرهه له في لحظة احتدام المشهد الدموي على بوابة لبنان. لكن الانحلال التام لهوية الشاعر مسألة فيها نظر.
بعض الهويات العربية الآن تقتل أصحابها لتنجب من جثثهم أشخاصًا آخرين ذوي ملامح خلاسية أو مختلطة، وأحيانًا مشوهة وعجائبية، ومع ذلك فالشعر مسؤول عن كل شيء، والمسؤولية هنا ليست أخلاقية ولا سياسية، إنها أخطر من ذلك. إنها مسؤولية وجودية؛ لأنه في الشعر واحتداماته تتجلى علامات الصراع على الوجود. فالشاعر ليس حارسًا على باب الأخلاق لكنه بالتأكيد حارس على باب الهوية. ومن ألف عام خلت قال الأصمعي: «الشعر نكد بابه الشر، فإن دخل في الخير ضعف»؛ يقصد الصراع.
اللحظة الراهنة
الإمساك باللحظة الشعرية الراهنة عمل متقص وصعب، يقتضي إرهاف الحواس جميعًا لإيقاع الحياة الدائرة فينا وحولنا من خلال اللغة والاستعارة الشعرية؛ من النملة الدابة على التراب إلى المحراب… ومن انتظام الشوارع والمدن إلى الخراب… فلكل شيء لغة، واللغة هنا تتجاوز مفهوم التقليد والقاموس لتندرج في سيميولوجيا الإشارة العلامة (signe) وبمقدار ما هي اللحظة الشعرية لحظة إشارية برقية وحسية.. إلا أنها أيضًا إشارة في الروح، بارقة ميتافيزيقية، وما يقوله بريغوجين «نال جائزة نوبل في الكيمياء عام 1977م) المتوفى 2003م في كتابه «بين الزمن والأبدية» يصح عن الشعر صحته على العلم: «إن الكون ينتج عن حالة عدم استقرار خلاق يمكن له أن يتكرر إلى ما لا نهاية. وهنا نرى الأبدية».
مع التطور تغدو علاقة القصيدة باللغة أكثر تفوقًا وخصبًا. هذا التطور الذي يصل اليوم إلى اللحظة العنكبوتية للعالم؛ الإشارة والبارقة والرقم وما إلى ذلك، ما يجعل الشعر من أكثر الفنون قلقًا. وما نشهده اليوم هو التحول في مفهوم اللغة وانتقالها من البلاغة الكلاسيكية إلى برق الإشارة، ومن مفهوم الوزن إلى متاهة الإيقاع؛ إذ يختلط النسق بالفوضى، والشعر بالنثر، والشاعر بالمتلقي. حتى إن باحثًا هو الدكتور نبيل علي اقترح تغيير اسم المتلقي الحديث إلى «المتلكي»، ونشأت مع التطور الإلكتروني قصائد الفيسبوك، والقصائد الفورية، ونص الموبايل، والنص الجماعي، والنص الرقمي التفاعلي أو الهايبر تكست… هي تجارب كثيرة على كل حال. تحاول اليوم أن تغير من مفهوم ارتباط القصيدة باللغة والوزن والإيقاع وهو ارتباط تاريخي وثني أو ديني إلى حدود كبيرة. وتسعى لاعتبار الشعر هباء الإشارة الإلكترونية. إنها تحاول…
من خمسينيات القرن الفائت إلى اليوم
Nazik_al_Malayka (1)_opt
نازك الملائكة
في خمسينيات القرن الفائت، وعلى وجه التحديد في عام 1949م، قالت نازك الملائكة في مقدمة ديوانها «شظايا ورماد» الصادر بطبعته الأولى عام 1945م: «لن يبقى من الأوزان القديمة شيء؛ فالأوزان والقوافي والأساليب والمذاهب ستتزعزع قواعدها جميعًا». وكأن هذا الحصان الجامح للشعر العربي الذي أطلقته نازك الملائكة، كان أكثر شراسة ومغامرة ممن أطلقه، فما لبثت أن ترجلت عنه لينطلق هو بأكثر مما تنبأت له صاحبته الأولى… وليصل في جموحه إلى اللحظة الشعرية العربية الراهنة. لحظة التبدد الخطير وانفلاج دم القصيدة وتحلل أعضائها، لحظة التفتيت الهائلة.
تحركت القصيدة الحرة العربية بعد نازك والسياب والبياتي والحيدري مع جماعة مجلة شعر وشعراء مجلة الآداب بكل أساليبها ولغاتها على أرض واسعة مفتوحة كثيرة الفسوخ والمطبات. وقد ظهر الصراع الأسلوبي في القصيدة العربية الحرة والحديثة قريبًا مما قاله عبدالقاهر الجرجاني حول «الجمع بين رقاب المتنافرات» القصيدة تحاور ذاتها وتحاور سواها على امتداد الرقعة والزمن. إن من أسباب انفجار البنية الإيقاعية، إضافة إلى تطور الحياة غريزة التجاوز أو التغيير بسبب الملل. إن الضجر من الإيقاعات القديمة أدى إلى ولادة القصيدة الحديثة ولم لا؟ دعك من تسمية التجديد بالمروق واللعنة والفضيحة… إلى غير ذلك، إنه بكل بساطة الجديد. وهو صراع على سلطة اللغة التي هي سلطة الحياة نفسها. لم تشأ مثلًا جماعة مجلة شعر اللبنانية أن تتسلم السلطة الشعرية الجديدة بسلاسة؛ بل سلكت أساليب عرفها الغرب فيها التشويش والتخريب حتى القتل (المعنوي). ولم لا؟ كل تجديد خروج على النسق ORDRE من خلال اللانسق DESORDRE. يسمونه بالفرنسية الكاوس أي الخلل أو الفوضى في النظام. والعبارة علمية أكثر مما هي أدبية أشار إليها عالم الكيمياء بريغوجين.
اهتم جان جينيه في الغرب بالمرضى والمهمشين والشواذ. وهو ما تحاول علوم ما بعد الحداثة في الطب والفلك والفيزياء والرياضيات الانتباه إليه اليوم، ونحن نرى في العربية أن الخروج على الأصول قديم. وجد الباحثون في الشعر القديم 13 نصًّا خارجًا عن أوزان الخليل بن أحمد الفراهيدي؛ من بينها قصائد لشعراء فحول كما ورد في لامية لامرئ القيس، وفي بائية مشهورة لعبيد بن الأبرص مطلعها: «أقفر من أهله ملحوب فالقطبيات فالذنوب» رأى ابن رشيق أن القصيدة غير موزونة. كذلك ميمية للمرقش الأكبر، ولامية لعدي بن زيد العبادي، وأبيات لأمية بن أبي الصلت، كلها صنف في باب الشاذ والمختل والمضطرب، وهي لشعراء فحول. حتى إن شاعرًا متواضعًا كأبي العتاهية كان يقول: «أنا أكبر من العروض» ويعلل ذلك بمحاكاة شعره لأصوات يسمعها «يراجع كتاب الإبداع العربي للدكتور عبدالمجيد زراقط، وكتاب الاختلالات العروضية في السكون المتحرك للدكتور علوي الهاشمي، اتحاد الكتاب في الإمارات، 1992م».
فإذا كان الشعر العربي الحديث بأساليبه وأشكاله ولغاته يتركب من أنظمة إيقاعية متاّلفة أو متنافرة… وفيه كثير من الخروج عن القاعدة، فلم لا؟
mahmoud-darwish2_opt
محمود درويش
القصيدة الجديدة. أجيال وتجارب جديدة
«وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة» «سورة يوسف، الآية 67». التجربة الشعرية العربية الحديثة والمعاصرة حقل خصب ومتنوع في الإيقاع والأسلوب. لكنه يكاد يكون حقلًا مهجورًا، وهو حقل متطور أيضًا من حيث المعاني. من وجهة النظر الموازية الفكرية والنقدية. لن تعثر سوى على اسم واحد ابتكر مفردة هي مفتاح قصائد بدر شاكر السياب الخائفة الرحمية الملتجئة للموت أو الكهف، كمخرج من ظلمات الحياة ومن خراب الجسد المرضي، هو إحسان عباس. قال باختصار: «قصائد السياب قصائد كهفية». لكننا لو نظرنا إلى تجارب شعرية ضخمة كتجارب أدونيس والبياتي والحيدري وعبدالصبور وأنسي الحاج والماغوط وخليل حاوي مثلًا، وهم من الرياديين الأوائل، فأي عمارة نقدية أو عمائر نقدية نشأت في مقابلهم؟ أقصد هنا مقارنة افتراضية تتناول سطور الحداثة الشعرية الغربية وما رافقها من تطور فكري فلسفي في العمارة النقدية، فالمستقبلية والدادائية والسريالية مثلًا، كما الوجودية، تساوي تناظرًا مزدوجًا في وقت واحد: الإبداع الفني المتنوع من شعر ورسم ومسرح وسينما وغير ذلك. والإبداع النظري المرافق في الفكر والفلسفة. سارتر روائي وفيلسوف وجودي في وقت واحد. وفي مقابل بروتون وإليوت وإيلوار ورينيه شار وأراغون، سنجد رولان بارت وجوليا كريستينا وتودوروف…
على حين أن طائر الإبداع العربي يكاد يحلق بجناح واحد، جاء أمل دنقل بين شاعرين معدودين في مصر؛ صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي، جاء بشعر حاد وكابوسي وغرائبي.
وهو شاعر جنائزي عمل على ذلك «الإلماح البودليري الذي يصل ما بين الغناء والرغبة» «ع. بيضون السفير عدد 30 مايو 2003م»، وينطوي على شطح سريالي وصورية سينمائية تعبيرية وحشية توازن بين الانتهاك والمخيلة السوداء. نلحظ في شعر أمل دنقل قسوة هائلة كفأس قاطعة. وشعره كضريح من بلور وعظام مسننة. فيه مزاج السم (كداء ودواء) كما وصفه الأبنودي. ولد عام 1940م، ومات بالسرطان في جسد الهزيمة العربية. في أشعاره شحنة نقدية يتفجر العذاب والنواح في خلايا النص. يقف عاريًا ويعري البلاد المهزومة، وبدأ يضرب ضرباته القوية منذ قصيدة «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة» في 13 يونيو 1967م؛ حيث أدخل التاريخ في قصيدته لا كورود حجرية بل كألغام قابلة للتفجير، نقل أمل دنقل تجربة التأمل الميتافيزيقي لعبدالصبور من الغيب إلى التراب، إلى صعيد مصر والشوارع والمقاهي والناس. وشعره وإن كان هادئًا في شكله وتركيبه ولغته، إلا أنه في العمق صاخب وقادر على لغم الصورة بكلمات قليلة «الزهور تحمل أسماء قاتليها في بطاقة» واستعمل الأقنعة التاريخية؛ ليقدم قصيدة عربية حديثة مشحونة ونقدية.
يشيد محمود درويش بالتجربة اللغوية في دواوينه الأخيرة «لماذا تركت الحصان وحيدًا» و«كزهر اللوز أو أبعد» و«جدارية» إلى مناطق جديدة من خلال التدوير الإيقاعي والقوافي في القوافي، ويكتب القصيدة كلعبة لغوية بارعة؛ حتى يتحول شعره إلى نقر إيقاعي في اللغة. يقول في الجدارية: «واسمي إذا أخطأت لفظ اسمي بخمسة أحرف أفقية التكوين لي/ميم المتيم والميتم والمتمم ما مضى حاء الحديقة والحبيبة حيرتان وحسرتان/ ميم المغامر والمعد المستعد لموته الموعود منفيًّا مريض المشتهى/ واو الوداع، الوردة الوسطى/ ولاء للولادة أينما وجُدت، ووعد الوالدين/ دال الدليل، الدرب، دمعة/ دارةٍ درستْ، ودوري يدللني ويُدْميني وهذا الاسم لي/ أما أنا وقد امتلأت/ بكل أسباب الرحيل/ فلست لي/ أنا لست لي/ أنا لست لي».
في التجربة الشعرية العربية المؤسسة على الإيقاع الوزني من بعد الرواد، نذكر تجربة الشاعر السوري عبدالقادر الحصني وهو في مجموعته «كأني أرى» «من منشورات اتحاد الكتاب العرب 2006م» يضرب على وتر عميق وصاف كعيون الماء في الجبال «دعاني إلى نفسه بالذي يستطيع من النخل والورد/ أهرق جرة خمر بروحي/ وسرح غزلانه في سفوحي/ ونادى علي بأوصافه في المرايا/ فكان كأن سواه ينادي سوايا/ وقال أقل وأكثر/ ولكنني لم أكن أتذكر/ نصف الحقيقة أني رأيت/ ونصف الحقيقة أني نسيت» «من قصيدة ماء كوثر». هذه النماذج المتنوعة التي إذا شددناها لآخرها على صعيد عربي «وأستثني التجربة اللبنانية وهي خصبة» تصل آنيًّا إلى الشاعر الشاب الفلسطيني المقيم في الإمارات عبدالله أبو بكر، والسعودي المقيم في الولايات المتحدة الأميركية إياد الحكمي تبين أن البنية الإيقاعية للشعر العربي في لحظته الراهنة المؤسسة على الوزن والتفعيلة هي بنية متطورة بخاصية الخصب والتوليد.
Fadhil-Al-Azzawi2_opt
فاضل العزاوي
في الجهة الثانية من التجارب الشعرية الجديدة، وبفسحة واسعة من حرية التجريب، بسبب التحلل من الوزن والقافية، نعثر على حساسيات شعرية كثيرة مفارقة كليًّا أو جزئيًّا لحساسيات آباء قصيدة النثر العربية. مخففة مهمشة طريفة أو ساخرة يومية ومن دون ادعاءات بنيوية، بشرية وأكثر يومية. قصائد منازل ومقهى وشارع ومكتب ويدوية أكثر مما هي ذهنية نثرية، إخبارية أكثر مما هي غنائية أو بلاغية؛ وأكثر مما هي أخلاقية وتبشيرية. وفي بعض الأصوات الأخيرة مثل سوزان عليوان نعثر على بصمات الإنترنت وظلال الأرقام والإشارات وفي نصوص الشاعر المصري الشاب عماد أبو صالح نعثر على روح متصعلكة مشردة ومتمردة أيضًا «خراف راقدة تلمس ضوء القمر المخنوق/ نسوة جالسات على العتبات/ ينظرن بفرح/ للجلاليب المشنوقة على المسامير/ ويتخيلن الأزواج داخلها» من قصيدة ليلة الدلتا من مجموعة «كلب ينبح ليقتل الوقت» طبعة خاصة ومحدودة القاهرة 1996م. وقصائد هذا الشاعر تفيض بألم كاسر عبثي وفائض عن الاحتمال. إصداراته على العموم خاصة ومحدودة وهي: عجوز تؤلمه الضحكات/ جمال كافر/ مهندس العالم/ قبور واسعة/أنا خائف/ كلب ينبح ليقتل الوقت».
Sirkon-Polis_opt
سركون بولص
في العراق انفرطت البلاد. وشكلت تجربة فاضل العزاوي في ألمانيا، وتجربة سركون بولص في نيويورك ما يمكن أن نسميه التشظي الشعري ودمار الأصل، فاضل العزاوي يفرع القصيدة ويكرها كشريط تسجيلي من صور وإيقاعات… وسركون بولص يمزق الجملة الشعرية تمزيقًا يشبه تمزق الجسد العراقي المتناثر في الديار البعيدة… وتتحول اللغة في شعره إلى قشعريرة. وقد استخدم الرسوم والأرقام والدوائر وقطع الكلمات تقطيعًا في الجملة من أجل العبور إلى الجهة الثانية من الكلام «بقول جلال الدين الرومي» إنه يكتب الكتابة المضطربة للمعنى.. المعنى العابر الذي كما يقول «دائمًا يدخن منتظرًا». وفي قصيدة «حانة الكلب» بصمات من آلية أميركية تظهر في التقطيع والرصد العددي واستعمال الأرقام والصورة الهندسية البصرية.. يكتب «قصيدة اللكمة» حيث لا جفن عاطفيًّا للشعر. وفي قصائده ما نسميه سرد السرد، والشعر ضد الشعر، وبرمجة كتابية للنص،وهو ضغط من الآلية الأميركية على أصابعه. أحيانًا يفلت من خلال استخدام الميثولوجيا أو الثيولوجيا «لو كنت في مركب نوح»، ويلجأ إلى إشارات شبيهة برقم أور وإيماءات من مشرق سعدي الشيرازي «بين القصبات المحطمة طائر أحمر يجري أو يحلق نحو نقطة مجهولة»… «قصيدة مشهد باتجاه واحد».. لكن كل ذلك هو شكل من التذكر في النسيان.
3إياد-حكمي_opt
إياد الحكمي
عمدًا لا أخوض في التجربة الشعرية اللبنانية وهي خصبة قبل الرواد وبعدهم حتى الآن. إن لي فيها بحثًا منفصلًا على حدة. كذلك التجربة السعودية عبر أجيالها، وتدخل في هاتين التجربتين إلى جانب الفصحى العامية والزجل في لبنان والشعر النبطي في المملكة.
يسعى السوري بندر عبدالحميد لاسترجاع ابن الموسيقا المجنون «العصفور» في شعره وفي الطرف المقابل يقف الشاعر السوري نوري الجراح شاعرًا دراميًّا بالحس والمعنى. قصائده كاللهاث. يقول: «لأنني مجوف وسهل الاصطياد/ لم يبق من السلم على السلم غير زلة القدم» «من قصيدة السم في المطر»، ويرى أن الشاعر «يولد انتحاريًّا ويولد منتحرًا» «موقع جهة الشعر على الإنترنت». ثمة ورثة يظهرون في زمن غير شعري. يكتب الفلسطيني زكريا محمد: «عبأنا مصايرنا في أكياس ورميناها في الشاحنات». ويقول في ضربة شمس «المؤسسة العربية 2002م»: «بكاؤنا يخصنا». كثيرون يطبعون دواوينهم على حسابهم بنسخ محدودة، يوزعونها باليد على أصدقائهم أو ينشرون قصائدهم من خلال مواقع الإنترنت، يقدمون حساسيات شعرية مؤلمة ونفاذة وخاصة. يقول مازن معروف في ديوان له بعنوان «الكاميرا لا تلتقط العصافير» دار الأنوار 2004م: «والعصافير أيضًا تتغوط/ والمطر أيضًا يتسبب بفيضانات الصرف الصحي/ وأنا وأنت عكروتان تحت شجرة مليئة بالغبار والحشرات. (من قصيدة غرنكا) إنها كتابة أولية وخاصة. يقول: «أمتطي رأسي كمن يمتطي بغلا» وهي نصوص قصيرة مكتوبة بتقنية الصنارة في متابعة السمكة واصطيادها. وهي تصلح قصيدة نثر وقصة قصيرة مثل قصيدة الرصاصة: «رصاصة طائشة بعد أن عبرت غرفة الجلوس/ فالمكتبة فممر البيت/ فالصورة التي تجمعنا في رحلة نهر الكلب/ فالغسالة الأوتوماتيكية وأمي المرهقة/الرصاصة أحنت قليلًا مسارها/ بفعل الجاذبية/ واستقرت بأسفل رأسي في الخلف».
عبدالله-أبو-بكر_opt
عبدالله أبو بكر
القصيدة ميتة والشعراء متسكعون
في بعض قصائد النثر تختلط القصيدة بالقصة القصيرة وأحيانًا بشذرات الفيسبوك. غالبًا ما يرتفع السؤال: إنه زمن غير شعري. القصيدة ميتة والشعراء متسكعون على هوامش المدن والمنافي ولاجئون إلى الشبكة العنكبوتية. نعم، هذا صحيح. لم تعد الكتابة مهنة مشتهاة، وغاب ذلك الافتتان السابق بفكرة النخبة. لم يعد العمل التشكيلي مثلًا، صاحب سطوة. لا تجد الآن الشاعر النجم. وربما انكفأت الفنون الجميلة من شعر ورسم ومسرح ورقص تجاه النفايات… لم تعد لوحة كلوحة رامبرانت أو غويا أو فلاسكيز أو بيكاسو أو دالي تفعل فعلها. صارت تقنيات السعر والغاليريهات تتحكم باللوحة. وغدت الفنون هوايات خاصة «لا ضرر فيها»، أما أن تجمع الجميل والمفيد معًا أو الجميل والجليل على غرار ما كان يحصل في الماضي فأمر من الصعوبة بمكان. فلا بد من الاختيار، فإما الجميل الصعب الخاص والمعزول، وإما السريع المفلوش على الشاشات والعابر كفقاعة ماء.
mazen-maarouf_opt
مازن معروف
من المهم الإشارة كما يقول الشاعر والناقد الأميركي «ويستن أودن» في كتابه «محنة الشاعر في زمن المدن» (ترجمة سهيلة أسعد نيازي) إلى أن التطورات التقنية الاستهلاكية والاتصالات كونت مساحة بشرية جديدة لا تنطوي تحت خانة المساحات البشرية السابقة. لقد ولد ما سماه الفيلسوف الدانمركي كيركغارد (public) وهم غير محددين بمكان وزمان؛ بل ينتمون إلى وسائل الاتصال، لا هم مجتمع ولا جماعة ولا أفراد متميزون. إنهم «عملاق تجريدي موجود وعقيم، بمعنى أنه كل شيء ولا شيء في آن».
وهم يختلفون عن مفهوم الجماعة، وعن مفهوم الرعاع، وعن مفهوم العامة. هم تجمعات افتراضية تتوجه إليهم إشارات الاتصالات، وعليهم يعول في حركات جماهيرية كثيرة، وفي اتصالات واسعة، أداتها السرعة واللايك، والخفة والإشارة. وقد تجد الآن من يمارس كتابة النثر اليوم من خلال التغريدات المتبادلة؛حيث يدخل الشعر في لحظة الشواذ هذه… حيث كل واحد هو شاعر للحظة، وبطل للحظة، ومشهور للحظة، ومهم للحظة… والخلاصة، هل ثمة من خلاصة؟
يفر الشعر اليوم من اللغة المتعالية الأيديولوجيا وادعاءات الماضي في البطولة والخلود إلى المقهى والإنترنت والمترو. إنه يتذرر ويتصعلك ويطرق أبوابًا كثيرة ليفك عن نفسه عزلته الصعبة. ولعله يؤثر أحيانًا أن يترك عناوينه بلا تنسيب. فينسرح في شكل نثري يصلح لقصة أو مقالة أو تعليق، ولعل الشعر غدا قليلًا، فقد انحل في فنون أخرى كثيرة، وتوسع شأن اللغة في الحرف والإشارة. وحين كان هم النثر أن يكون مبذولًا للجميع بحيث إنه موجود لكي يحكي «من كليلة ودمنة إلى ألف ليلة وليلة إلى ثرثرات الباعة وربات المنزل والخدم… إلى سرد الروايات والقصص» صار هم بعض الشعراء اليوم أن يكون هكذا.. أن يلتحم بالنثر في سيولاته وسردياته التي لا تحد، لكن في الجانب الآخر من افتراس النثر للشعر «والافتراس المبين هو افتراس الرواية له» ما زال ثمة من يتخاطبون فيما بينهم ببرق الشعر وانخطاف اللغة، ويتداولون فيما بينهم شمس المجاز العظيم «كما يقول نيرود» شمس القصيدة.
المشهد الشعري الراهن
من العصر الجاهلي كانت جماعات العرب ترى القصيدة جرحًا من جروحها في الغيب الصحراوي الطويل، وسابقت القصائد بعد ذلك الجيوش الغازية في الفتوح، واختلطت بالشعوب، وتغربت وشهدت نهوض العواصم وسقوطها، ثم جلست على عتبات العصور لتنوح مناحات الشعراء الطويلة. فمن خصائص العرب، على ما رأى ابن خلدون، تحطيم الهدايا وتخريب العمار، هكذا تنفتح الستارة على المشهد العربي الراهن. والراهن يمتد لسنوات طويلة تعد بالعشرات. فالشعر الذي كان صدح في حناجر متعددة في أواسط القرن السابق، على عادته التاريخية، ما لبث أن تمزق وتشرد في بلاد كثيرة وبعيدة، واندس في لغات أخرى. يلوح لي أحيانًا مشهد الشعراء العرب المتسكعين على أرصفة عواصمهم أو عواصم العالم، أشبه ما يكون بأحصنة تموت على أرصفة بعيدة. تعرف مرام مصري (شاعرة سورية من اللاذقية تقيم الآن في فرنسا) نفسها بأنها شاعرة فرنسية من أصل سوري. ويعرف سعدي يوسف نفسه بأنه شاعر بريطاني من أصل عراقي. وشاعر فلسطيني بأنه شاعر هولندي من أصل فلسطيني.. وهلم جرًّا. حسنًا، المسألة ليست أخلاقية على ما يظن. هي أشد وأصعب من ذلك. إن من الشعرية أحيانًا إعلان اليأس حتى من الشعر نفسه، ذلك الذي سماه الماغوط «الجيفة الخالدة» وأعلن كرهه له في لحظة احتدام المشهد الدموي على بوابة لبنان. لكن الانحلال التام لهوية الشاعر مسألة فيها نظر.
بعض الهويات العربية الآن تقتل أصحابها لتنجب من جثثهم أشخاصًا آخرين ذوي ملامح خلاسية أو مختلطة، وأحيانًا مشوهة وعجائبية، ومع ذلك فالشعر مسؤول عن كل شيء، والمسؤولية هنا ليست أخلاقية ولا سياسية، إنها أخطر من ذلك. إنها مسؤولية وجودية؛ لأنه في الشعر واحتداماته تتجلى علامات الصراع على الوجود. فالشاعر ليس حارسًا على باب الأخلاق لكنه بالتأكيد حارس على باب الهوية. ومن ألف عام خلت قال الأصمعي: «الشعر نكد بابه الشر، فإن دخل في الخير ضعف»؛ يقصد الصراع.
اللحظة الراهنة
الإمساك باللحظة الشعرية الراهنة عمل متقص وصعب، يقتضي إرهاف الحواس جميعًا لإيقاع الحياة الدائرة فينا وحولنا من خلال اللغة والاستعارة الشعرية؛ من النملة الدابة على التراب إلى المحراب… ومن انتظام الشوارع والمدن إلى الخراب… فلكل شيء لغة، واللغة هنا تتجاوز مفهوم التقليد والقاموس لتندرج في سيميولوجيا الإشارة العلامة (signe) وبمقدار ما هي اللحظة الشعرية لحظة إشارية برقية وحسية.. إلا أنها أيضًا إشارة في الروح، بارقة ميتافيزيقية، وما يقوله بريغوجين «نال جائزة نوبل في الكيمياء عام 1977م) المتوفى 2003م في كتابه «بين الزمن والأبدية» يصح عن الشعر صحته على العلم: «إن الكون ينتج عن حالة عدم استقرار خلاق يمكن له أن يتكرر إلى ما لا نهاية. وهنا نرى الأبدية».
مع التطور تغدو علاقة القصيدة باللغة أكثر تفوقًا وخصبًا. هذا التطور الذي يصل اليوم إلى اللحظة العنكبوتية للعالم؛ الإشارة والبارقة والرقم وما إلى ذلك، ما يجعل الشعر من أكثر الفنون قلقًا. وما نشهده اليوم هو التحول في مفهوم اللغة وانتقالها من البلاغة الكلاسيكية إلى برق الإشارة، ومن مفهوم الوزن إلى متاهة الإيقاع؛ إذ يختلط النسق بالفوضى، والشعر بالنثر، والشاعر بالمتلقي. حتى إن باحثًا هو الدكتور نبيل علي اقترح تغيير اسم المتلقي الحديث إلى «المتلكي»، ونشأت مع التطور الإلكتروني قصائد الفيسبوك، والقصائد الفورية، ونص الموبايل، والنص الجماعي، والنص الرقمي التفاعلي أو الهايبر تكست… هي تجارب كثيرة على كل حال. تحاول اليوم أن تغير من مفهوم ارتباط القصيدة باللغة والوزن والإيقاع وهو ارتباط تاريخي وثني أو ديني إلى حدود كبيرة. وتسعى لاعتبار الشعر هباء الإشارة الإلكترونية. إنها تحاول…
من خمسينيات القرن الفائت إلى اليوم
Nazik_al_Malayka (1)_opt
نازك الملائكة
في خمسينيات القرن الفائت، وعلى وجه التحديد في عام 1949م، قالت نازك الملائكة في مقدمة ديوانها «شظايا ورماد» الصادر بطبعته الأولى عام 1945م: «لن يبقى من الأوزان القديمة شيء؛ فالأوزان والقوافي والأساليب والمذاهب ستتزعزع قواعدها جميعًا». وكأن هذا الحصان الجامح للشعر العربي الذي أطلقته نازك الملائكة، كان أكثر شراسة ومغامرة ممن أطلقه، فما لبثت أن ترجلت عنه لينطلق هو بأكثر مما تنبأت له صاحبته الأولى… وليصل في جموحه إلى اللحظة الشعرية العربية الراهنة. لحظة التبدد الخطير وانفلاج دم القصيدة وتحلل أعضائها، لحظة التفتيت الهائلة.
تحركت القصيدة الحرة العربية بعد نازك والسياب والبياتي والحيدري مع جماعة مجلة شعر وشعراء مجلة الآداب بكل أساليبها ولغاتها على أرض واسعة مفتوحة كثيرة الفسوخ والمطبات. وقد ظهر الصراع الأسلوبي في القصيدة العربية الحرة والحديثة قريبًا مما قاله عبدالقاهر الجرجاني حول «الجمع بين رقاب المتنافرات» القصيدة تحاور ذاتها وتحاور سواها على امتداد الرقعة والزمن. إن من أسباب انفجار البنية الإيقاعية، إضافة إلى تطور الحياة غريزة التجاوز أو التغيير بسبب الملل. إن الضجر من الإيقاعات القديمة أدى إلى ولادة القصيدة الحديثة ولم لا؟ دعك من تسمية التجديد بالمروق واللعنة والفضيحة… إلى غير ذلك، إنه بكل بساطة الجديد. وهو صراع على سلطة اللغة التي هي سلطة الحياة نفسها. لم تشأ مثلًا جماعة مجلة شعر اللبنانية أن تتسلم السلطة الشعرية الجديدة بسلاسة؛ بل سلكت أساليب عرفها الغرب فيها التشويش والتخريب حتى القتل (المعنوي). ولم لا؟ كل تجديد خروج على النسق ORDRE من خلال اللانسق DESORDRE. يسمونه بالفرنسية الكاوس أي الخلل أو الفوضى في النظام. والعبارة علمية أكثر مما هي أدبية أشار إليها عالم الكيمياء بريغوجين.
اهتم جان جينيه في الغرب بالمرضى والمهمشين والشواذ. وهو ما تحاول علوم ما بعد الحداثة في الطب والفلك والفيزياء والرياضيات الانتباه إليه اليوم، ونحن نرى في العربية أن الخروج على الأصول قديم. وجد الباحثون في الشعر القديم 13 نصًّا خارجًا عن أوزان الخليل بن أحمد الفراهيدي؛ من بينها قصائد لشعراء فحول كما ورد في لامية لامرئ القيس، وفي بائية مشهورة لعبيد بن الأبرص مطلعها: «أقفر من أهله ملحوب فالقطبيات فالذنوب» رأى ابن رشيق أن القصيدة غير موزونة. كذلك ميمية للمرقش الأكبر، ولامية لعدي بن زيد العبادي، وأبيات لأمية بن أبي الصلت، كلها صنف في باب الشاذ والمختل والمضطرب، وهي لشعراء فحول. حتى إن شاعرًا متواضعًا كأبي العتاهية كان يقول: «أنا أكبر من العروض» ويعلل ذلك بمحاكاة شعره لأصوات يسمعها «يراجع كتاب الإبداع العربي للدكتور عبدالمجيد زراقط، وكتاب الاختلالات العروضية في السكون المتحرك للدكتور علوي الهاشمي، اتحاد الكتاب في الإمارات، 1992م».
فإذا كان الشعر العربي الحديث بأساليبه وأشكاله ولغاته يتركب من أنظمة إيقاعية متاّلفة أو متنافرة… وفيه كثير من الخروج عن القاعدة، فلم لا؟
mahmoud-darwish2_opt
محمود درويش
القصيدة الجديدة. أجيال وتجارب جديدة
«وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة» «سورة يوسف، الآية 67». التجربة الشعرية العربية الحديثة والمعاصرة حقل خصب ومتنوع في الإيقاع والأسلوب. لكنه يكاد يكون حقلًا مهجورًا، وهو حقل متطور أيضًا من حيث المعاني. من وجهة النظر الموازية الفكرية والنقدية. لن تعثر سوى على اسم واحد ابتكر مفردة هي مفتاح قصائد بدر شاكر السياب الخائفة الرحمية الملتجئة للموت أو الكهف، كمخرج من ظلمات الحياة ومن خراب الجسد المرضي، هو إحسان عباس. قال باختصار: «قصائد السياب قصائد كهفية». لكننا لو نظرنا إلى تجارب شعرية ضخمة كتجارب أدونيس والبياتي والحيدري وعبدالصبور وأنسي الحاج والماغوط وخليل حاوي مثلًا، وهم من الرياديين الأوائل، فأي عمارة نقدية أو عمائر نقدية نشأت في مقابلهم؟ أقصد هنا مقارنة افتراضية تتناول سطور الحداثة الشعرية الغربية وما رافقها من تطور فكري فلسفي في العمارة النقدية، فالمستقبلية والدادائية والسريالية مثلًا، كما الوجودية، تساوي تناظرًا مزدوجًا في وقت واحد: الإبداع الفني المتنوع من شعر ورسم ومسرح وسينما وغير ذلك. والإبداع النظري المرافق في الفكر والفلسفة. سارتر روائي وفيلسوف وجودي في وقت واحد. وفي مقابل بروتون وإليوت وإيلوار ورينيه شار وأراغون، سنجد رولان بارت وجوليا كريستينا وتودوروف…
على حين أن طائر الإبداع العربي يكاد يحلق بجناح واحد، جاء أمل دنقل بين شاعرين معدودين في مصر؛ صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي، جاء بشعر حاد وكابوسي وغرائبي.
وهو شاعر جنائزي عمل على ذلك «الإلماح البودليري الذي يصل ما بين الغناء والرغبة» «ع. بيضون السفير عدد 30 مايو 2003م»، وينطوي على شطح سريالي وصورية سينمائية تعبيرية وحشية توازن بين الانتهاك والمخيلة السوداء. نلحظ في شعر أمل دنقل قسوة هائلة كفأس قاطعة. وشعره كضريح من بلور وعظام مسننة. فيه مزاج السم (كداء ودواء) كما وصفه الأبنودي. ولد عام 1940م، ومات بالسرطان في جسد الهزيمة العربية. في أشعاره شحنة نقدية يتفجر العذاب والنواح في خلايا النص. يقف عاريًا ويعري البلاد المهزومة، وبدأ يضرب ضرباته القوية منذ قصيدة «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة» في 13 يونيو 1967م؛ حيث أدخل التاريخ في قصيدته لا كورود حجرية بل كألغام قابلة للتفجير، نقل أمل دنقل تجربة التأمل الميتافيزيقي لعبدالصبور من الغيب إلى التراب، إلى صعيد مصر والشوارع والمقاهي والناس. وشعره وإن كان هادئًا في شكله وتركيبه ولغته، إلا أنه في العمق صاخب وقادر على لغم الصورة بكلمات قليلة «الزهور تحمل أسماء قاتليها في بطاقة» واستعمل الأقنعة التاريخية؛ ليقدم قصيدة عربية حديثة مشحونة ونقدية.
يشيد محمود درويش بالتجربة اللغوية في دواوينه الأخيرة «لماذا تركت الحصان وحيدًا» و«كزهر اللوز أو أبعد» و«جدارية» إلى مناطق جديدة من خلال التدوير الإيقاعي والقوافي في القوافي، ويكتب القصيدة كلعبة لغوية بارعة؛ حتى يتحول شعره إلى نقر إيقاعي في اللغة. يقول في الجدارية: «واسمي إذا أخطأت لفظ اسمي بخمسة أحرف أفقية التكوين لي/ميم المتيم والميتم والمتمم ما مضى حاء الحديقة والحبيبة حيرتان وحسرتان/ ميم المغامر والمعد المستعد لموته الموعود منفيًّا مريض المشتهى/ واو الوداع، الوردة الوسطى/ ولاء للولادة أينما وجُدت، ووعد الوالدين/ دال الدليل، الدرب، دمعة/ دارةٍ درستْ، ودوري يدللني ويُدْميني وهذا الاسم لي/ أما أنا وقد امتلأت/ بكل أسباب الرحيل/ فلست لي/ أنا لست لي/ أنا لست لي».
في التجربة الشعرية العربية المؤسسة على الإيقاع الوزني من بعد الرواد، نذكر تجربة الشاعر السوري عبدالقادر الحصني وهو في مجموعته «كأني أرى» «من منشورات اتحاد الكتاب العرب 2006م» يضرب على وتر عميق وصاف كعيون الماء في الجبال «دعاني إلى نفسه بالذي يستطيع من النخل والورد/ أهرق جرة خمر بروحي/ وسرح غزلانه في سفوحي/ ونادى علي بأوصافه في المرايا/ فكان كأن سواه ينادي سوايا/ وقال أقل وأكثر/ ولكنني لم أكن أتذكر/ نصف الحقيقة أني رأيت/ ونصف الحقيقة أني نسيت» «من قصيدة ماء كوثر». هذه النماذج المتنوعة التي إذا شددناها لآخرها على صعيد عربي «وأستثني التجربة اللبنانية وهي خصبة» تصل آنيًّا إلى الشاعر الشاب الفلسطيني المقيم في الإمارات عبدالله أبو بكر، والسعودي المقيم في الولايات المتحدة الأميركية إياد الحكمي تبين أن البنية الإيقاعية للشعر العربي في لحظته الراهنة المؤسسة على الوزن والتفعيلة هي بنية متطورة بخاصية الخصب والتوليد.
Fadhil-Al-Azzawi2_opt
فاضل العزاوي
في الجهة الثانية من التجارب الشعرية الجديدة، وبفسحة واسعة من حرية التجريب، بسبب التحلل من الوزن والقافية، نعثر على حساسيات شعرية كثيرة مفارقة كليًّا أو جزئيًّا لحساسيات آباء قصيدة النثر العربية. مخففة مهمشة طريفة أو ساخرة يومية ومن دون ادعاءات بنيوية، بشرية وأكثر يومية. قصائد منازل ومقهى وشارع ومكتب ويدوية أكثر مما هي ذهنية نثرية، إخبارية أكثر مما هي غنائية أو بلاغية؛ وأكثر مما هي أخلاقية وتبشيرية. وفي بعض الأصوات الأخيرة مثل سوزان عليوان نعثر على بصمات الإنترنت وظلال الأرقام والإشارات وفي نصوص الشاعر المصري الشاب عماد أبو صالح نعثر على روح متصعلكة مشردة ومتمردة أيضًا «خراف راقدة تلمس ضوء القمر المخنوق/ نسوة جالسات على العتبات/ ينظرن بفرح/ للجلاليب المشنوقة على المسامير/ ويتخيلن الأزواج داخلها» من قصيدة ليلة الدلتا من مجموعة «كلب ينبح ليقتل الوقت» طبعة خاصة ومحدودة القاهرة 1996م. وقصائد هذا الشاعر تفيض بألم كاسر عبثي وفائض عن الاحتمال. إصداراته على العموم خاصة ومحدودة وهي: عجوز تؤلمه الضحكات/ جمال كافر/ مهندس العالم/ قبور واسعة/أنا خائف/ كلب ينبح ليقتل الوقت».
Sirkon-Polis_opt
سركون بولص
في العراق انفرطت البلاد. وشكلت تجربة فاضل العزاوي في ألمانيا، وتجربة سركون بولص في نيويورك ما يمكن أن نسميه التشظي الشعري ودمار الأصل، فاضل العزاوي يفرع القصيدة ويكرها كشريط تسجيلي من صور وإيقاعات… وسركون بولص يمزق الجملة الشعرية تمزيقًا يشبه تمزق الجسد العراقي المتناثر في الديار البعيدة… وتتحول اللغة في شعره إلى قشعريرة. وقد استخدم الرسوم والأرقام والدوائر وقطع الكلمات تقطيعًا في الجملة من أجل العبور إلى الجهة الثانية من الكلام «بقول جلال الدين الرومي» إنه يكتب الكتابة المضطربة للمعنى.. المعنى العابر الذي كما يقول «دائمًا يدخن منتظرًا». وفي قصيدة «حانة الكلب» بصمات من آلية أميركية تظهر في التقطيع والرصد العددي واستعمال الأرقام والصورة الهندسية البصرية.. يكتب «قصيدة اللكمة» حيث لا جفن عاطفيًّا للشعر. وفي قصائده ما نسميه سرد السرد، والشعر ضد الشعر، وبرمجة كتابية للنص،وهو ضغط من الآلية الأميركية على أصابعه. أحيانًا يفلت من خلال استخدام الميثولوجيا أو الثيولوجيا «لو كنت في مركب نوح»، ويلجأ إلى إشارات شبيهة برقم أور وإيماءات من مشرق سعدي الشيرازي «بين القصبات المحطمة طائر أحمر يجري أو يحلق نحو نقطة مجهولة»… «قصيدة مشهد باتجاه واحد».. لكن كل ذلك هو شكل من التذكر في النسيان.
3إياد-حكمي_opt
إياد الحكمي
عمدًا لا أخوض في التجربة الشعرية اللبنانية وهي خصبة قبل الرواد وبعدهم حتى الآن. إن لي فيها بحثًا منفصلًا على حدة. كذلك التجربة السعودية عبر أجيالها، وتدخل في هاتين التجربتين إلى جانب الفصحى العامية والزجل في لبنان والشعر النبطي في المملكة.
يسعى السوري بندر عبدالحميد لاسترجاع ابن الموسيقا المجنون «العصفور» في شعره وفي الطرف المقابل يقف الشاعر السوري نوري الجراح شاعرًا دراميًّا بالحس والمعنى. قصائده كاللهاث. يقول: «لأنني مجوف وسهل الاصطياد/ لم يبق من السلم على السلم غير زلة القدم» «من قصيدة السم في المطر»، ويرى أن الشاعر «يولد انتحاريًّا ويولد منتحرًا» «موقع جهة الشعر على الإنترنت». ثمة ورثة يظهرون في زمن غير شعري. يكتب الفلسطيني زكريا محمد: «عبأنا مصايرنا في أكياس ورميناها في الشاحنات». ويقول في ضربة شمس «المؤسسة العربية 2002م»: «بكاؤنا يخصنا». كثيرون يطبعون دواوينهم على حسابهم بنسخ محدودة، يوزعونها باليد على أصدقائهم أو ينشرون قصائدهم من خلال مواقع الإنترنت، يقدمون حساسيات شعرية مؤلمة ونفاذة وخاصة. يقول مازن معروف في ديوان له بعنوان «الكاميرا لا تلتقط العصافير» دار الأنوار 2004م: «والعصافير أيضًا تتغوط/ والمطر أيضًا يتسبب بفيضانات الصرف الصحي/ وأنا وأنت عكروتان تحت شجرة مليئة بالغبار والحشرات. (من قصيدة غرنكا) إنها كتابة أولية وخاصة. يقول: «أمتطي رأسي كمن يمتطي بغلا» وهي نصوص قصيرة مكتوبة بتقنية الصنارة في متابعة السمكة واصطيادها. وهي تصلح قصيدة نثر وقصة قصيرة مثل قصيدة الرصاصة: «رصاصة طائشة بعد أن عبرت غرفة الجلوس/ فالمكتبة فممر البيت/ فالصورة التي تجمعنا في رحلة نهر الكلب/ فالغسالة الأوتوماتيكية وأمي المرهقة/الرصاصة أحنت قليلًا مسارها/ بفعل الجاذبية/ واستقرت بأسفل رأسي في الخلف».
عبدالله-أبو-بكر_opt
عبدالله أبو بكر
القصيدة ميتة والشعراء متسكعون
في بعض قصائد النثر تختلط القصيدة بالقصة القصيرة وأحيانًا بشذرات الفيسبوك. غالبًا ما يرتفع السؤال: إنه زمن غير شعري. القصيدة ميتة والشعراء متسكعون على هوامش المدن والمنافي ولاجئون إلى الشبكة العنكبوتية. نعم، هذا صحيح. لم تعد الكتابة مهنة مشتهاة، وغاب ذلك الافتتان السابق بفكرة النخبة. لم يعد العمل التشكيلي مثلًا، صاحب سطوة. لا تجد الآن الشاعر النجم. وربما انكفأت الفنون الجميلة من شعر ورسم ومسرح ورقص تجاه النفايات… لم تعد لوحة كلوحة رامبرانت أو غويا أو فلاسكيز أو بيكاسو أو دالي تفعل فعلها. صارت تقنيات السعر والغاليريهات تتحكم باللوحة. وغدت الفنون هوايات خاصة «لا ضرر فيها»، أما أن تجمع الجميل والمفيد معًا أو الجميل والجليل على غرار ما كان يحصل في الماضي فأمر من الصعوبة بمكان. فلا بد من الاختيار، فإما الجميل الصعب الخاص والمعزول، وإما السريع المفلوش على الشاشات والعابر كفقاعة ماء.
mazen-maarouf_opt
مازن معروف
من المهم الإشارة كما يقول الشاعر والناقد الأميركي «ويستن أودن» في كتابه «محنة الشاعر في زمن المدن» (ترجمة سهيلة أسعد نيازي) إلى أن التطورات التقنية الاستهلاكية والاتصالات كونت مساحة بشرية جديدة لا تنطوي تحت خانة المساحات البشرية السابقة. لقد ولد ما سماه الفيلسوف الدانمركي كيركغارد (public) وهم غير محددين بمكان وزمان؛ بل ينتمون إلى وسائل الاتصال، لا هم مجتمع ولا جماعة ولا أفراد متميزون. إنهم «عملاق تجريدي موجود وعقيم، بمعنى أنه كل شيء ولا شيء في آن».
وهم يختلفون عن مفهوم الجماعة، وعن مفهوم الرعاع، وعن مفهوم العامة. هم تجمعات افتراضية تتوجه إليهم إشارات الاتصالات، وعليهم يعول في حركات جماهيرية كثيرة، وفي اتصالات واسعة، أداتها السرعة واللايك، والخفة والإشارة. وقد تجد الآن من يمارس كتابة النثر اليوم من خلال التغريدات المتبادلة؛حيث يدخل الشعر في لحظة الشواذ هذه… حيث كل واحد هو شاعر للحظة، وبطل للحظة، ومشهور للحظة، ومهم للحظة… والخلاصة، هل ثمة من خلاصة؟
يفر الشعر اليوم من اللغة المتعالية الأيديولوجيا وادعاءات الماضي في البطولة والخلود إلى المقهى والإنترنت والمترو. إنه يتذرر ويتصعلك ويطرق أبوابًا كثيرة ليفك عن نفسه عزلته الصعبة. ولعله يؤثر أحيانًا أن يترك عناوينه بلا تنسيب. فينسرح في شكل نثري يصلح لقصة أو مقالة أو تعليق، ولعل الشعر غدا قليلًا، فقد انحل في فنون أخرى كثيرة، وتوسع شأن اللغة في الحرف والإشارة. وحين كان هم النثر أن يكون مبذولًا للجميع بحيث إنه موجود لكي يحكي «من كليلة ودمنة إلى ألف ليلة وليلة إلى ثرثرات الباعة وربات المنزل والخدم… إلى سرد الروايات والقصص» صار هم بعض الشعراء اليوم أن يكون هكذا.. أن يلتحم بالنثر في سيولاته وسردياته التي لا تحد، لكن في الجانب الآخر من افتراس النثر للشعر «والافتراس المبين هو افتراس الرواية له» ما زال ثمة من يتخاطبون فيما بينهم ببرق الشعر وانخطاف اللغة، ويتداولون فيما بينهم شمس المجاز العظيم «كما يقول نيرود» شمس القصيدة.