د. جورج سلوم - جواز السفر الكاذب

- إنها معلومات دقيقة وموثّقة، ورسميّة وقانونية، تلك المكتوبة في جواز سفرك. ولذا لا يمكن لجواز السفر أن يكون كاذباَ كما تتّهمه. إنه كالهويّة الشخصية، لا بل هو أقوى من الهوية، إذ يتّخذ صفة العالمية العابرة للحدود، وتبقى البطاقة الشخصية مربوطة الإزار ضمن حدود بلادك. وطعنك الغريب بمعلوماته سيجعله مزوّراً، لكن السؤال، لماذا تنعته بالكذب؟
-نعم إنه يكذب في السطر الثالث منه!
وانتقلتُ بعيوني إلى السطر الثالث من الصفحة الأولى بجواز السفر، إنه مجرّد تاريخ الصلاحية، وبالضبط حتى الشهر الرابع من العام الثاني والثلاثين بعد الألفين. ثم انتقلتُ إلى وجهه مستفهماً، وأجاب:
-نعم، هنا الكذب والدجل والافتراء والتجديف، وقلت ذلك للموظف الغبيّ الذي سطّر ذاك التاريخ. قلت له، وكيف تضمن أني سأعيش لبعد عشر سنوات من الآن، وأنت لا تضمن بأنك وأني قد نصبح غداً من رقاد نومنا؟ يجب أن تضيف عبارة بإذن الله بين قوسين.
-نعم، وماذا جرى بعد ذلك؟
-لا شيء، ضحك الموظف منّي، وعليّ، كما تستضحك أنت الآن.
-نعم، نعم، صدقت، كل شيء بمشيئة الله، ولكن لا يمكنه كتابة ذلك على جواز السفر. قلت لك إنها بطاقة عالمية، والإضافة تلك، ستكون مضحكة أو ملفتة لو وقع جواز سفرك بيدٍ أجنبية.
-ولماذا؟ ألا يؤمنون بما نؤمن به بأنّ الأعمار بيد الله؟ لقد حاولتُ إضافة تلك العبارة المقدسة بجانب ذلك التاريخ، ولم أستطع، لتعذّر الكتابة على الورق المغطّى باللاصق الشفاف، فخدشته، وكشفته حتى تمكّنتُ من إضافتها بخط يدي، وها هم الآن يعتبرون جواز سفري مرفوضاً بحجّة أنه مزوّر! صارت إضافة اسم الله تهمة يُحاسِب عليها القانون، تخيّل ذلك.
-وإلى أين كنت ستسافر؟... بإذن الله طبعاً؟
-مالكَ تضيفها ـ هكذا ـ خجلاً أو ساخراً أو مسايرةً لي؟ .. سأسافر إلى الديار المقدّسة ، إلى الحج بإذن الله، ولم أستطع الخروج من حدودنا بسبب الخدش والإضافة الكتابية على صفحة جواز السفر. أنا مصاب بالسرطان وأتممت جميع علاجاتي المقترحة طبياً من جراحة وأشعة وكيمياء، ومع ذلك فالسرطان متفشٍّ في جسدي، ويتوقّع الأطباء بأني لن أتجاوز الأشهر الستة في دنياكم التافهة هذه. فكيف يعطوني جواز سفر صالح لسنوات عشر، اكتبوا بإذن الله على الأقل، عسى أن يكذّب الله كل أطبائي ويمتدّ بي العمر.
قد يكون المقصود بصلاحية جواز السفر لعشر سنوات أني سأستعمله عند تجاوز حدود دنياكم، خسئتم والله، فلا يحتاج الملائكة أوراقاً ثبوتية لجواز العبور والمرور إليهم. والسفر من هذه الدنيا متاح مجاناً قبل اختراع فلسفة جواز السفر، والسفر سيكون سريعاً كخطف الأرواح، ومعمولاً به مذ وجد الإنسان على الأرض، والإنسان، ما الإنسان، إلا مشروعُ مسافر إلى أحد مكانين لا ثالث لهما. وعندما يطلقون عليه اسماً ما بُعيد ولادته، فهو السطر الأول من جواز سفره، ويبقى تحديد وجهته حسب دينه الذي وُلد عليه وصلاحه في دنياه. أما تأشيرة الخروج فهي بيد ملاك الموت، وفيزا الدخول بيد الملائكة فإما يشفعون له ويدخل، وإما يرفضونه من دخول الجنة. والطائرة التي يسافر بها ابن آدم من الدنيا لا تعيد الركاب المرفوضين إلى أديمهم، فإلى أين؟ ولا يوجد انتظار على الحدود بين الجنة والنار، ولا يوجد لجوء لطالبي اللجوء إلى الجنة، ولا يوجد مسالك للدخول بطرق التهريب مهما ركبت أيها الإنسان من زوارق الموت!
وأضاف بعد تنهّد عميق:
ولذلك أعددت حقائبي لسفرتي المقدّسة، وها هي جاهزة!
-ممتاز يا أخي، وماذا وضعت فيها؟
-أفرغتها، أتلفتها، وحتى ثيابي خفّفتها، انظر ماذا ألبس الآن
-ما تلبسه يشبه ثياب الحجيج البيضاء مع أنك ما زلت في ديارك!
-نعم، ثيابي هي مشروع أكفان، لذلك أنا جاهز كما قلت لك
-اتق الله يا رجل، فما من أنسيّ عالم بساعته، وحتى أطباؤك يتحزّرون بتنبؤاتهم، وكذب المنجّمون كما تعلم. وقد يكون جواز سفرك صادقاً ويمتد معك لسنوات عشر، وقد تجدّده ثانية وثالثة، من يدري!
-سبحان الذي أسرى بعبده، إنه صورة عن السفر المقدّس، السريع، الخاطف بلا جواز للسفر. منعوني من الحج لهذا العام بسبب جواز سفري المزوّر، لكني أظن أني سأسافر بلا جواز للسفر، لا بل أثق.
-يمكنك تجديد جواز سفرك خلال بضعة ساعات، ولا حيف عليك، وكفاك تعقيداً للأمور
-هل أفعلها وأجدّده ؟ ... قد أفعلها إن شاء الله. أريد صلاحية تاريخه لستة أشهر فقط ، ولا يوجد عندهم ذاك الخيار، فإما سنة أو خمس أو عشر.
-فليكن لسنة يا أخي، كحلٍّ وسطي، ولا تجعلهم يصطنعون قانوناً خاصاً بك، وانطلق لحجّك، وسعياً مشكوراً وحجاً مبروراً، سلفاً وبإذن الله.
عندما عاد من الحج مبروراً، التقيته وكان إنساناً مختلفاً، مسروراً، محبوراً، وكأنه مغتسل لتوّه من أدران الخطيئة، وقال لي بوجه يطفح بالطمأنينة والرضى والثقة بالنفس:
-أخطأت إذ أخذت جواز سفر يصلح لسنة فقط، ما زال كاذباً بمعلوماته، كان يجب أن تكون صلاحيته لعشر سنوات وأكثر، فأنا أشعر وكلي ثقة بأني سأعيش طويلاً، طويلاً جداً، جداً حتى تمام العمر.. أنا إنسانٌ جديد الآن، سأتزوّج ثانية، سأعبّ من أنفاس الدنيا ملء رئتيّ، سأطوف بقاع الأرض كسائح، سأغيّر سيارتي العتيقة، وسوف...
كنت ما أزال ممسكاً بيده وأهزّها بعد مصافحتي الطويلة، وقطعت سلسلة أمنياته الأرضية مبتسماً:
-قل بإذن الله يا أخي الإنسان الجديد، لكن نصيحتي أن تحافظ الآن على ملفاتك النظيفة، نظيفة!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...