في القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين ، كان ظهور قصص الشطار ، وهي تصف العادات والتقاليد للطبقات الدنيا في المجتمع الأوربي ، وأول قصة معروفة من هذا اللون في الأدب الأسباني قصة عنوانها (حياة لاساريودي تورمس : حظوظه ومحنه) ، وهي تعبر عن واقع الحياة في الطبقات الدنيا خلال تلك الآونة.
ويتبين من البحث المقارن تأثر هذا اللون القصصي بفن المقامات العربية عند بديع الزمان الهمذاني وأبي القاسم الحريري .
والمعروف للباحثين أن رائد كتابة فن المقامات العربية الحقيقي هو بديع الزمان الهمذاني ، وإن ذهب البعض إلى أن ابن دريد العالم اللغوي هو صاحب السبق إليها ، ولكن واقع الحال يؤكد على الفرق الكبير بينهما ، فأحاديث ابن دريد أحاديث تعليمية صرفة مليئة بغريب الألفاظ ، وهي حيناً قصيدة شعر أو قول منثور ، والإطار القصصي فيها غامض بصفة عامة .
أما بديع الزمان فقد أنشأ 52 مقامة أو أكثر ، استمد موضوعاتها من مجتمعه الذي يعيش فيه ، فقد تحدث عن الشحاذين والمتسولين وقطاع الطرق ، وأبرز بجلاء النزعات الثقافية والفكرية والتاريخية في عصره ، وقد نهج نهجه كتاب المقامات الذين جاءوا بعده مثل : الحريري والسيوطي وغيرهما .
وقد انتقلت المقامات العربية إلى الآداب الأخرى كالفارسية على يد القاضي / حميد الدين الكرماني ، وإلى العبرية حيث ألف / شلومو الحريزي مقامات باللغة العبرية .
وللمقامات راوية وبطل ، وراوية الهمذاني عيسى بن هشام ، وبطله أبو الفتح السكندري ، وتتميز المقامة بأنها قصة قصيرة تستمد وقائعها أو أحداثها من طبيعة العصر وأخلاق أهله ، وشاعت فيها الحيلة والمكر والدهاء ، ومثال على ذلك الشطار الذين يقطعون الطرق على الناس بوسائل شتى لا تخلو من ذكاء اجتماعي ، كما تشتمل على الحكمة والأمثال ، وفيها اقتباس من القرآن الكريم ، ومن الأحاديث النبوية المطهرة ، ومن الشعر العربي .
ومر قرن من الزمان ولم ينشط أحد الكتاب لكتابة المقامات بعد الهمذاني ، حتى جاء عبد الله بن محمد بن ناقيا البغدادي ، سنة 485 هـ ، فكتب عدداً من المقامات ، ولكنها اختلفت عن مقامات بديع الزمان الهمذاني في أنه أجرى حديثه على ألسنة الحيوان ، فكانت أقرب إلى حكايات كليلة ودمنة .
ثم جاء أبو القاسم الحريري الذي ولد سنة 546 هـ ، وتوفي سنة 616 هـ ، فأنشأ مقاماته الخمسين ، التي نالت شهرة واسعة لأنها كانت مليئة بغريب الألفاظ ، وإن اتجهت اتجاه الهمذاني في الموضوعات المعالجة .
وقد تم ترجمة مقامات الحريري إلى اللغة الإنجليزية ، واللغة الألمانية ، واللغة الفرنسية .. وغيرها من اللغات الغربية والشرقية .
وجاء بعد ذلك الكاتب المصري / محمد المويلحي في العصر الحديث ليكتب لنا كتابه (حديث عيسى بن هشام ) على نهج المقامات العربية .
وترشد الأدلة التاريخية والأدبية إلى أن أوربا في قصص الشطار تأثرت بالمقامات العربية ، فالثابت تاريخياً أن مقامات الحريري تم ترجمتها إلى العبرية ، وشاعت وذاعت بين العبريين والمسيحيين .
كما أن المقامات العربية عرفت في الأدب العربي في الأندلس ، ولم تكن مجهولة لدى المبدعين والمثقفين الأسبان .
وقد شرح مقامات الحريري الكثير من الأدباء العرب الأسبان ، ومن أشهرهم / عقيل بن عطية ، الذي توفي سنة 1211 م ، وأبو العباس أحمد الشربشي ، المتوفى سنة 1323 م .
وقد تأثر الكتاب الأوربيون بالكتاب الأسبان ، ومن هؤلاء / شارل سورل الفرنسي في قصته (فرانسيون الحقيقي الهازل) ، وهي قصة من قصص الشطار في فرنسا ، تم نشرها سنة 1622 م ، ثم نسج غير هذا الكاتب على المنوال السابق ، وبذلك قضي على قصص الرعاة ، كما قضي من قبل على قصص الفروسية والحب الشريف .
وفي أواخر القرن الثامن عشر تحولت القصة إلى نهج آخر فاتجهت إلى معالجة المشكلات والقضايا التي يعاني منها المجتمع ، مع الإسهام في توجيه الحضارة الحديثة لصالح الناس .
وفي العهد الرومانسي نشأت القصة التاريخية ، ويعد الإنجليزي / ولتر سكوت ، الأب الحقيقي للقصة التاريخية في أوربا ، وكان له أثره الكبير فيمن جاء بعده من كتاب سلكوا مسلك الكتابة في القصة التاريخية ، أو فلنقل : كتابة التاريخ بأسلوب أدبي .
وبعد الرومانسيين كملت للقصة جوانبها الفنية في ظل المذهب الواقعي ، والمذاهب الفنية والأدبية الأخرى التي أعقبت الاتجاه الرومانسي.
أما المقامات العربية فقد ظهرت ـ كما أسلفنا ـ على يد الهمذاني والحريري ، وهي عبارة عن حكاية قصيرة تحكى فيما يسمى بالمجلس ، ويسودها شبه حوار درامي ، وتحتوي على مغامرات يرويها راو عن بطل ، ويعد هذا النوع الأدبي ذا قيمة مهمة تتجلى في إبراز ونقد العادات والتقاليد والمسائل الاجتماعية والثقافية في العصر الذي كتبت فيه هذه المقامة ، وتؤدي ما تؤديه القصة والمسرحية في الآداب الغربية ، إلا أنها غلبت عليها المحاكاة اللفظية والألغاز اللغوية .
ولذلك ذهب بعض النقاد المحدثين إلى أن الأقصوصة أو القصة القصيرة ولدت من رحم المقامة ، وبمعنى آخر فإن الأقصوصة ابنة شرعية للمقامة ، أو المقامة نواة لفن القصة القصيرة العربية في العصر الحديث .
ومع احترامنا لهذه الآراء التي تحاول بحسن نية أن تجعل فن القصة القصيرة في العصر الحديث فناً عربي المولد والنشأة ، وليس فناً غربياً جاء لنا في العصر الحديث مع بداية اتصال البلاد العربية مع الغرب ، مع احترامنا لهذا التوجه فإن بعض الباحثين أنه : لا يمكن اعتبار المقامة قصة قصيرة لأن هناك العديد من الفروق الجوهرية الفنية بين الفنين .
وإذا كان الهمذاني المتوفى سنة 398 هـ هو أول مخترع حقيقي لفن المقامة ، فقد تأثر في كتابتها بشاعر معاصر له هو (أبو دلف الخارجي) ، وقد ضمن مقاماته بعض أشعاره التي أعجب بها الهمذاني إعجاباً كبيراً .
وكما ذكرنا فإن أبا القاسم الحريري ألف مقاماته محاذياً مقامات الهمذاني ، ولكنه في واقع الأمر قد تفوق عليه كثيراً .
وكان لهذه المقامات العربية النشأة أثرها الكبير على الأدب الفارسي ، فقد سار حميد الدين البلخي عمر بن محمود ، المتوفى عام 559 هـ على نمط الهمذاني والحريري ، وقد ذكر ذلك صراحة في المقدمة التي كتبها لمقاماته باللغة الفارسية .
وكما أكدت الدراسات المقارنية فإن للمقامات العربية أثرها في الأدب الأوربي ، والذي بدا جلياً في قصص الشطار الأسبانية ، وبعدها انتقل إلى الآداب الأوربية الأخرى ، وكان ذلك سبباً مباشراً في القضاء على قصص الرعاة ، وتقريب القصة الغربية بوجه عام من واقع الحياة المعاشة .
د. يسري عبد الغني / مصر
ويتبين من البحث المقارن تأثر هذا اللون القصصي بفن المقامات العربية عند بديع الزمان الهمذاني وأبي القاسم الحريري .
والمعروف للباحثين أن رائد كتابة فن المقامات العربية الحقيقي هو بديع الزمان الهمذاني ، وإن ذهب البعض إلى أن ابن دريد العالم اللغوي هو صاحب السبق إليها ، ولكن واقع الحال يؤكد على الفرق الكبير بينهما ، فأحاديث ابن دريد أحاديث تعليمية صرفة مليئة بغريب الألفاظ ، وهي حيناً قصيدة شعر أو قول منثور ، والإطار القصصي فيها غامض بصفة عامة .
أما بديع الزمان فقد أنشأ 52 مقامة أو أكثر ، استمد موضوعاتها من مجتمعه الذي يعيش فيه ، فقد تحدث عن الشحاذين والمتسولين وقطاع الطرق ، وأبرز بجلاء النزعات الثقافية والفكرية والتاريخية في عصره ، وقد نهج نهجه كتاب المقامات الذين جاءوا بعده مثل : الحريري والسيوطي وغيرهما .
وقد انتقلت المقامات العربية إلى الآداب الأخرى كالفارسية على يد القاضي / حميد الدين الكرماني ، وإلى العبرية حيث ألف / شلومو الحريزي مقامات باللغة العبرية .
وللمقامات راوية وبطل ، وراوية الهمذاني عيسى بن هشام ، وبطله أبو الفتح السكندري ، وتتميز المقامة بأنها قصة قصيرة تستمد وقائعها أو أحداثها من طبيعة العصر وأخلاق أهله ، وشاعت فيها الحيلة والمكر والدهاء ، ومثال على ذلك الشطار الذين يقطعون الطرق على الناس بوسائل شتى لا تخلو من ذكاء اجتماعي ، كما تشتمل على الحكمة والأمثال ، وفيها اقتباس من القرآن الكريم ، ومن الأحاديث النبوية المطهرة ، ومن الشعر العربي .
ومر قرن من الزمان ولم ينشط أحد الكتاب لكتابة المقامات بعد الهمذاني ، حتى جاء عبد الله بن محمد بن ناقيا البغدادي ، سنة 485 هـ ، فكتب عدداً من المقامات ، ولكنها اختلفت عن مقامات بديع الزمان الهمذاني في أنه أجرى حديثه على ألسنة الحيوان ، فكانت أقرب إلى حكايات كليلة ودمنة .
ثم جاء أبو القاسم الحريري الذي ولد سنة 546 هـ ، وتوفي سنة 616 هـ ، فأنشأ مقاماته الخمسين ، التي نالت شهرة واسعة لأنها كانت مليئة بغريب الألفاظ ، وإن اتجهت اتجاه الهمذاني في الموضوعات المعالجة .
وقد تم ترجمة مقامات الحريري إلى اللغة الإنجليزية ، واللغة الألمانية ، واللغة الفرنسية .. وغيرها من اللغات الغربية والشرقية .
وجاء بعد ذلك الكاتب المصري / محمد المويلحي في العصر الحديث ليكتب لنا كتابه (حديث عيسى بن هشام ) على نهج المقامات العربية .
وترشد الأدلة التاريخية والأدبية إلى أن أوربا في قصص الشطار تأثرت بالمقامات العربية ، فالثابت تاريخياً أن مقامات الحريري تم ترجمتها إلى العبرية ، وشاعت وذاعت بين العبريين والمسيحيين .
كما أن المقامات العربية عرفت في الأدب العربي في الأندلس ، ولم تكن مجهولة لدى المبدعين والمثقفين الأسبان .
وقد شرح مقامات الحريري الكثير من الأدباء العرب الأسبان ، ومن أشهرهم / عقيل بن عطية ، الذي توفي سنة 1211 م ، وأبو العباس أحمد الشربشي ، المتوفى سنة 1323 م .
وقد تأثر الكتاب الأوربيون بالكتاب الأسبان ، ومن هؤلاء / شارل سورل الفرنسي في قصته (فرانسيون الحقيقي الهازل) ، وهي قصة من قصص الشطار في فرنسا ، تم نشرها سنة 1622 م ، ثم نسج غير هذا الكاتب على المنوال السابق ، وبذلك قضي على قصص الرعاة ، كما قضي من قبل على قصص الفروسية والحب الشريف .
وفي أواخر القرن الثامن عشر تحولت القصة إلى نهج آخر فاتجهت إلى معالجة المشكلات والقضايا التي يعاني منها المجتمع ، مع الإسهام في توجيه الحضارة الحديثة لصالح الناس .
وفي العهد الرومانسي نشأت القصة التاريخية ، ويعد الإنجليزي / ولتر سكوت ، الأب الحقيقي للقصة التاريخية في أوربا ، وكان له أثره الكبير فيمن جاء بعده من كتاب سلكوا مسلك الكتابة في القصة التاريخية ، أو فلنقل : كتابة التاريخ بأسلوب أدبي .
وبعد الرومانسيين كملت للقصة جوانبها الفنية في ظل المذهب الواقعي ، والمذاهب الفنية والأدبية الأخرى التي أعقبت الاتجاه الرومانسي.
أما المقامات العربية فقد ظهرت ـ كما أسلفنا ـ على يد الهمذاني والحريري ، وهي عبارة عن حكاية قصيرة تحكى فيما يسمى بالمجلس ، ويسودها شبه حوار درامي ، وتحتوي على مغامرات يرويها راو عن بطل ، ويعد هذا النوع الأدبي ذا قيمة مهمة تتجلى في إبراز ونقد العادات والتقاليد والمسائل الاجتماعية والثقافية في العصر الذي كتبت فيه هذه المقامة ، وتؤدي ما تؤديه القصة والمسرحية في الآداب الغربية ، إلا أنها غلبت عليها المحاكاة اللفظية والألغاز اللغوية .
ولذلك ذهب بعض النقاد المحدثين إلى أن الأقصوصة أو القصة القصيرة ولدت من رحم المقامة ، وبمعنى آخر فإن الأقصوصة ابنة شرعية للمقامة ، أو المقامة نواة لفن القصة القصيرة العربية في العصر الحديث .
ومع احترامنا لهذه الآراء التي تحاول بحسن نية أن تجعل فن القصة القصيرة في العصر الحديث فناً عربي المولد والنشأة ، وليس فناً غربياً جاء لنا في العصر الحديث مع بداية اتصال البلاد العربية مع الغرب ، مع احترامنا لهذا التوجه فإن بعض الباحثين أنه : لا يمكن اعتبار المقامة قصة قصيرة لأن هناك العديد من الفروق الجوهرية الفنية بين الفنين .
وإذا كان الهمذاني المتوفى سنة 398 هـ هو أول مخترع حقيقي لفن المقامة ، فقد تأثر في كتابتها بشاعر معاصر له هو (أبو دلف الخارجي) ، وقد ضمن مقاماته بعض أشعاره التي أعجب بها الهمذاني إعجاباً كبيراً .
وكما ذكرنا فإن أبا القاسم الحريري ألف مقاماته محاذياً مقامات الهمذاني ، ولكنه في واقع الأمر قد تفوق عليه كثيراً .
وكان لهذه المقامات العربية النشأة أثرها الكبير على الأدب الفارسي ، فقد سار حميد الدين البلخي عمر بن محمود ، المتوفى عام 559 هـ على نمط الهمذاني والحريري ، وقد ذكر ذلك صراحة في المقدمة التي كتبها لمقاماته باللغة الفارسية .
وكما أكدت الدراسات المقارنية فإن للمقامات العربية أثرها في الأدب الأوربي ، والذي بدا جلياً في قصص الشطار الأسبانية ، وبعدها انتقل إلى الآداب الأوربية الأخرى ، وكان ذلك سبباً مباشراً في القضاء على قصص الرعاة ، وتقريب القصة الغربية بوجه عام من واقع الحياة المعاشة .
د. يسري عبد الغني / مصر