خالد جهاد - أرواح بلا ملامح

لربما بات من الصعب على أحدنا أن يرى (في الحياة عموماً) صورةً حقيقية، غير معدلة، لم تخضع للتحسين والتغيير والإزالة والإضافة، بغية (الظهور بأبهى حلةٍ)، وربما باتت الطبيعة البشرية أكثر تحفظاً وحذراً وتصنعاً مما يعرقل الولوج إلى أعماقها وسبر أغوارها واكتشاف حقيقتها، خاصةً أنها باتت تقوم بتصميم وتصنيع الصورة التي تود إيصالها للآخرين، لذا قد تقودنا بعض المصادفات لرؤية جانبٍ لم نعتده أو تعامينا عن رؤيته كي لا نغرق بين أسئلةٍ يؤلمنا مجرد التفكير في إجاباتها، قد نجدها في مستشفى عام أو حديقةٍ مهجورة أو حتى في مطعمٍ شعبي.. فالمرض والوحدة والجوع يقربون الإنسان من طبيعته التي خلعها أو سقطت منه تدريجياً بمرور الزمان..

تلك الطبيعة التي تستدعي وضوحه وتصرفه بعيداً عن (رقةٍ) فرضتها كاميرات الهواتف الذكية التي أحاط نفسه بها، وباتت جزءًا من (أمانه الوهمي) الذي بدأ بالتداعي أمام مفردات التقدم التي أعادت (تكوينه) إلى العصر الحجري.. حيث النزاع على (ما يمكن اعتباره) طريدةً أو وجبةً يشبع بها جوعه، حيث لا حروف ولا لغة، لا عناق.. لا تلامس.. لا مشاعر.. لا تراحم.. لا تواصل، حيث تكفي بعض الأصوات والإيماءات والرسومات لإختصار الرابط الذي عاش البشر قروناً لخلقه وقروناً أخرى لفهمه، بعد أن باتت كل كلمةٍ أو إبتسامةٍ تحتمل أكثر من معنىً ينزع عنها برائتها وعفويتها ويلقي بها في أتون الغربة لتحترق مراراً وتكراراً..

وقد لا يصدق الكثيرون ممن عاشوا حياتهم كضحايا أنهم مشوا على خطى جلاديهم، فالجلاد كالماء لا شكل له ولا لون ولكن منطقه يجذب أشباهه كما تنجذب أسماك القرش لرائحة الدم، الدم المنبعث من جرحٍ متفسخ اختلط فيه عذاب صاحبه بعذابات من أوجعهم دون أن نقدر على التمييز بينهم، فتحول الخوف المقترن بالعجز والضعف إلى مظلةٍ يجتمع تحتها أغلب البشر دون أن يصارح أيٌ منهم الآخر بأحلامه، رغباته أو نقاط ضعفه، لكن الهشاشة التي يتسمون بها أوضح من الشمس وأكبر من الكون الذي يتضاءل أمام ما فعله الإنسان بنفسه وبغيره، متكئاً في كل مرة على أعذارٍ تؤكد تبلد أحاسيسه الذي لا يجتهد حتى في نفيه، وبين خيبةٍ تتبع الأخرى بتناسقٍ تام لا يعود لجوازات السفر أو أدوات التمييز التي ابتكرها من قيمةٍ تذكر، فمعالم الصورة لن تختفي خلف بعض المؤثرات وقد لا تفرق في الجوهر بين طبقةٍ وأخرى، لكن الحقيقة أن الملامح التي ورثناها تلاشت منذ فقدنا قدرة الظهور على حقيقتنا فأمست الأرواح ضالةً..حائرةً.. تائهةً بلا ملامح..

خالد جهاد..
التفاعلات: هجيرة نسرين بن جدو

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...