كانت مشاعره العفوية كثيرا ما تُصيب من حوله بالذهولِ، فيكتفون منها بشيء من السُّخريةِ والتَّندرِ، فكلامه عن تَشاكسه مع عِجليّ النُّورج ، وجدالهما المستمر ، وخصامهما المحتدم ، وصراخ أخشاب المحراث حيِنَ يُقبِّل وجهَ الأرض بأسنانهِ الحِداد هي من قَبيلِ الخَبل.
وبمرور الوقت أدركوا أنَّ مَشاعره تَصدر عن سَذاجٍة ليس أكثر فاعتادوها، جَاءت به أمه تحمله صَغيرا ، بعد أن ألقى والده عليها يمين الطلاق ، لم تجد غير بيت أخيها الشيخ "حسن" ورحابة صدره ، فاستقبلها وأحسن وفادتها وصغيرها ، تَعلَّم " عبدالعليم " كيَفَ يُوقِّر خَاله ، دَرَّبته أمه طويلا على تبَجيله ، وواظبت على تلقينه عبارات الطاعة للعَائلِ الشَّهم ، الذي انتشلهما من ضَياعٍ محتوم.
عَاشَ عمره يُردِّد كطيور السماء مع كُلِّ صباح نشيد الولاء ، أن يحفظ الله خاله، وأن يَهبه من العَافيةِ كي يرد جميله، كَانَ الفتى فَحلا قويَّا ، صَلبَ العود، مَشدود العضل ذو بأسٍ شديد ، حَاد الملامح في صَرامةٍ ، غَير أنَّ قلبه الغَضّ، ورِقة طبعه ، اكسباه القَبول لدى أهل القرية ، أبهرهم كيف أن عِملاقا مثله ، قد يبكيه صوت " قِمرية" تصدح فَوقَ غُصِ شجرة.
وجد سلوته في أرغولٍ خَشبي قالت عنه أمه إنَّه لجده ، لا يُفارق يده ،ما إن يخلو بنفسه حتّى تنساب أنغامه عذبة ، تراه وقد اتخذ مكانا أوان الحَصاد ، ومن حَوله تحلَّق الفَلاحون ينصتون في استسلام ٍ، وكَأنّ تقاسيمه تتهادى لحنا شَهيا من ألحانِ السماء ،تمَلأ الأجواء بعبقٍ فتان، يظل الناس معه في طَربٍ وعمل خَلفَ النَّوارج ، هكذا حتى انقضاء الموسم.
ترعرعت " سكينة " ابنة خَاله ، وتَرعرعَ حُبّها في قلبه حدائق واسعة، يَسقيها من حَنانه كمَا يسقي شجرة " الحناء" التي غرسها صَبيا بجوارِ النافذةِ ، ما إن يَراها حتى يَشبّ حَريقَ الوجَد في أحشائهِ ، يصطلي في صَمتٍ ، وكأنما يتلذذ بنيرانه المتأججة ، مُبكِّرا تنبهت فتاته لحبه وإلتياعه ، كَما تَنبَّهت من قبلِ لكَريمِ سَجاياه ونُبل خصاله ، لم يكن خاله بمعزلٍ عن هذا الحب النابت ، لكنَّه تَوهّم أنَّ مشاعرهما البريئة ستزول ، فابنته من رباتِ العفاف ، و"عبدالعليم " شاب عاقل يصون المعروف ، وفوق هذا وذاك لا يبرح حقله ونورجه ، والأيام كفيلة بطي ما نَشبَ بينهما من عَاطفةٍ.
غَابَ عن الشيخ أنَّ الحُبّ مَخلوق مُتمرد ، لا يخضع لسلطانِ ، ولا يَلقي بالا لحسابات المجتمع ، انزوى فَتانا على نفسه يهدهد أمانيه ، تطوف بمخيلته صورة حبيبته ، فتسري في بدنه قشعريرة ، ويزداد وجيب قلبه ، فيعمد إلى أرغوله يَسكب عليه من لواعج وجدانه المَشبوب ، ويهبه طَرفا من مُهجته الحارة ، فتشبّ انغامه سِحرا حلالا.
ها هو يُغرِق نفسه في العمل ، يَطوف بمحراثهِ الغِيطان من مِيلادِ النَّهار وحَتَّى المَغيب ، يُجلجِل صَوته في هِمةٍ :" شي..يلا أمال " ،حتَّى كانت أُمسية صّيفية رَجعَ فيها كعَادتهِ ، ليجد الدارَ وقد غَاصت بزوارها ، وكُؤوس الشَّربات تَطوف ، وابتسامة تحدي تَكسو وجه خاله ، لقد خُطبِت " سكينة " لوجيهٍ من ذوي الأطيان ، دَارت الأرض بهِ ، وغامت الدنيا في عينيه ، جَاهدَ طويلا ، يُغالب نَزيفَ قلبه ، ومَدامع لولا المَلامة لانفجرت منه دما.
انفض السامر ، لكن أحزانه لم تنفضّ، رَاودته نفسه كَي يَصمد ويواجه ، لكنَّه آثر السَّلامة ، وعند الفَجرِ حَزمَ ملابسه ، وهَجَرَ عشه الآمن دون أن يتركَ خبر ، قالت " وداد " الدَّلالة إنَّها رأته يَجرّ عَربة بضاعة في شارع الموسكي ، وقال " مفتاح " سائق البيجو إنَّه يعمل في مَطعمٍ بالتَّحرير ، ويقول بعض الخبثاء لقد انهى حياته بيده بعدما خَابَ ظَنَّه في خَالهِ.
محمد فيض خالد / مصر
وبمرور الوقت أدركوا أنَّ مَشاعره تَصدر عن سَذاجٍة ليس أكثر فاعتادوها، جَاءت به أمه تحمله صَغيرا ، بعد أن ألقى والده عليها يمين الطلاق ، لم تجد غير بيت أخيها الشيخ "حسن" ورحابة صدره ، فاستقبلها وأحسن وفادتها وصغيرها ، تَعلَّم " عبدالعليم " كيَفَ يُوقِّر خَاله ، دَرَّبته أمه طويلا على تبَجيله ، وواظبت على تلقينه عبارات الطاعة للعَائلِ الشَّهم ، الذي انتشلهما من ضَياعٍ محتوم.
عَاشَ عمره يُردِّد كطيور السماء مع كُلِّ صباح نشيد الولاء ، أن يحفظ الله خاله، وأن يَهبه من العَافيةِ كي يرد جميله، كَانَ الفتى فَحلا قويَّا ، صَلبَ العود، مَشدود العضل ذو بأسٍ شديد ، حَاد الملامح في صَرامةٍ ، غَير أنَّ قلبه الغَضّ، ورِقة طبعه ، اكسباه القَبول لدى أهل القرية ، أبهرهم كيف أن عِملاقا مثله ، قد يبكيه صوت " قِمرية" تصدح فَوقَ غُصِ شجرة.
وجد سلوته في أرغولٍ خَشبي قالت عنه أمه إنَّه لجده ، لا يُفارق يده ،ما إن يخلو بنفسه حتّى تنساب أنغامه عذبة ، تراه وقد اتخذ مكانا أوان الحَصاد ، ومن حَوله تحلَّق الفَلاحون ينصتون في استسلام ٍ، وكَأنّ تقاسيمه تتهادى لحنا شَهيا من ألحانِ السماء ،تمَلأ الأجواء بعبقٍ فتان، يظل الناس معه في طَربٍ وعمل خَلفَ النَّوارج ، هكذا حتى انقضاء الموسم.
ترعرعت " سكينة " ابنة خَاله ، وتَرعرعَ حُبّها في قلبه حدائق واسعة، يَسقيها من حَنانه كمَا يسقي شجرة " الحناء" التي غرسها صَبيا بجوارِ النافذةِ ، ما إن يَراها حتى يَشبّ حَريقَ الوجَد في أحشائهِ ، يصطلي في صَمتٍ ، وكأنما يتلذذ بنيرانه المتأججة ، مُبكِّرا تنبهت فتاته لحبه وإلتياعه ، كَما تَنبَّهت من قبلِ لكَريمِ سَجاياه ونُبل خصاله ، لم يكن خاله بمعزلٍ عن هذا الحب النابت ، لكنَّه تَوهّم أنَّ مشاعرهما البريئة ستزول ، فابنته من رباتِ العفاف ، و"عبدالعليم " شاب عاقل يصون المعروف ، وفوق هذا وذاك لا يبرح حقله ونورجه ، والأيام كفيلة بطي ما نَشبَ بينهما من عَاطفةٍ.
غَابَ عن الشيخ أنَّ الحُبّ مَخلوق مُتمرد ، لا يخضع لسلطانِ ، ولا يَلقي بالا لحسابات المجتمع ، انزوى فَتانا على نفسه يهدهد أمانيه ، تطوف بمخيلته صورة حبيبته ، فتسري في بدنه قشعريرة ، ويزداد وجيب قلبه ، فيعمد إلى أرغوله يَسكب عليه من لواعج وجدانه المَشبوب ، ويهبه طَرفا من مُهجته الحارة ، فتشبّ انغامه سِحرا حلالا.
ها هو يُغرِق نفسه في العمل ، يَطوف بمحراثهِ الغِيطان من مِيلادِ النَّهار وحَتَّى المَغيب ، يُجلجِل صَوته في هِمةٍ :" شي..يلا أمال " ،حتَّى كانت أُمسية صّيفية رَجعَ فيها كعَادتهِ ، ليجد الدارَ وقد غَاصت بزوارها ، وكُؤوس الشَّربات تَطوف ، وابتسامة تحدي تَكسو وجه خاله ، لقد خُطبِت " سكينة " لوجيهٍ من ذوي الأطيان ، دَارت الأرض بهِ ، وغامت الدنيا في عينيه ، جَاهدَ طويلا ، يُغالب نَزيفَ قلبه ، ومَدامع لولا المَلامة لانفجرت منه دما.
انفض السامر ، لكن أحزانه لم تنفضّ، رَاودته نفسه كَي يَصمد ويواجه ، لكنَّه آثر السَّلامة ، وعند الفَجرِ حَزمَ ملابسه ، وهَجَرَ عشه الآمن دون أن يتركَ خبر ، قالت " وداد " الدَّلالة إنَّها رأته يَجرّ عَربة بضاعة في شارع الموسكي ، وقال " مفتاح " سائق البيجو إنَّه يعمل في مَطعمٍ بالتَّحرير ، ويقول بعض الخبثاء لقد انهى حياته بيده بعدما خَابَ ظَنَّه في خَالهِ.
محمد فيض خالد / مصر