بدا الإرهاق واضحا على " أبو المكارم " ؛ بيده المرتعشة يتكئ على عصاه لتعينه على المشي . تسكب الشمس ضوءها على وجهه تنفث لهيبا في حين تزحف الترام العجوز على القضبان بعد أن استباح زحام المدينة وقتها فلا هي واقفة ولا هي على قضبانها تسير . تمر من أمامه متهالكة شاحبة فيرى بداخلها بقايا أشباح أنهكها تعنت الأيام ، وما أن توقفت حتى أمسك بالعمود الصدئ الذي يتوسط بابها المحطم ليصعد درجتي الباب ، فإذا بالترام مسرعة ينبعث النسيم اللطيف في ردهة الترام ، يرفع أبو المكارم رأسه للكمساري فإذا به يجلس في حلة صفراء أنيقة بأزرار نحاسية لامعة يعتمر قبعة نظيفة . يمد يده للكمساري بعشرة جنيهات بلاستيكية . يمسكها الكمساري يتأملها وقد ارتسمت على قسمات وجهه علامات الدهشة .
- ما هذا يا أفندي ؟
- أريد تذكرة وهات الباقي .
الكمساري مبتسما :
- ليس عندي فكة التذكرة بمليمين .
يندهش أبو المكارم فإذا بشاب أنيق يقف خلفه يقدم للكمساري أربعة مليمات .
- تذكرتين من فضلك .
يستدير أبو المكارم له فيبتسم الشاب قائلا :
- لم غبت عن المصلحة اليوم يا أبو المكارم أفندي ؟ لعل المانع خير؟
الدهشة تخرس أبا المكارم لما في الترام من رونق وكأنها خرجت من الفابريقة لتوها . يصحبه الشاب ليجلسا فيلفت نظره نظافة الترام . الركاب جلوس بين مسن مطربش وريفي معمم وشباب حاسر الرأس بعض الفتيات في فساتين زاهية تكشف عن أذرعهن المرمرية ونسوة تغطي أجسادهن ملاءات اللف السوداء ، وأصوات هامسة تتحدث في رقي . ترتفع جلجلة صوت آلة تنبيه الترام .
- يا أبو المكارم أفندي ( يناديه الشاب )
يلتفت أبو المكارم إليه مندهشا
- تصدق يا أبو المكارم أفندي رطل اللحمة اليوم في التسعيرة بثمانية عشر قرشا ! .
برأس مشوش المنطق والتفكير يسأل نفسه :
- ربما تلك مجرد أوهام وخيالات . لكن ماذا لو كان ما أنا فيه حقيقة !؟
ينظر حوله ورأسه يفور عليه ؛ ينتفض يبحث عن عصاه فلا يجدها ؛ ينطلق مثل شاب في العشرين . تقف الترام يغادرها ، وما أن وطأت قدماه الأرض فإذا بعصاه في يده يتوكأ عليها . يقف على الرصيف ينظر حوله فيجد الطريق ضائعة في تشابكها والتفافها ، والأرض مرهقة ، والأجواء صاخبة ؛ يمشي في بطء يحاول النجاة من صخب الشوارع ليبلغ حافة البحر فيستريح على شاطئه ، ولكنه لا يراه وبخطوات متعثرة يسير باحثا عنه ، وعلى وجهه ابتسامة بائسة :
- أين البحر؟ لا أشم ريحه .
تحت شجرة محطّمة يجلس أبو المكارم باكيا أحلامه التي حطمتها العواصف القوية . لا يؤلمه تقدم السن قدر ما يؤلمه قلب شاخ ، وأمنيات مستحيلة . يبصق في وجه الزمان الذي غير وجه الطفل البرئ إلى وجه شيخ بائس .
سمير لوبه
من المجموعة القصصية #ليه_يا_بنفسج
- ما هذا يا أفندي ؟
- أريد تذكرة وهات الباقي .
الكمساري مبتسما :
- ليس عندي فكة التذكرة بمليمين .
يندهش أبو المكارم فإذا بشاب أنيق يقف خلفه يقدم للكمساري أربعة مليمات .
- تذكرتين من فضلك .
يستدير أبو المكارم له فيبتسم الشاب قائلا :
- لم غبت عن المصلحة اليوم يا أبو المكارم أفندي ؟ لعل المانع خير؟
الدهشة تخرس أبا المكارم لما في الترام من رونق وكأنها خرجت من الفابريقة لتوها . يصحبه الشاب ليجلسا فيلفت نظره نظافة الترام . الركاب جلوس بين مسن مطربش وريفي معمم وشباب حاسر الرأس بعض الفتيات في فساتين زاهية تكشف عن أذرعهن المرمرية ونسوة تغطي أجسادهن ملاءات اللف السوداء ، وأصوات هامسة تتحدث في رقي . ترتفع جلجلة صوت آلة تنبيه الترام .
- يا أبو المكارم أفندي ( يناديه الشاب )
يلتفت أبو المكارم إليه مندهشا
- تصدق يا أبو المكارم أفندي رطل اللحمة اليوم في التسعيرة بثمانية عشر قرشا ! .
برأس مشوش المنطق والتفكير يسأل نفسه :
- ربما تلك مجرد أوهام وخيالات . لكن ماذا لو كان ما أنا فيه حقيقة !؟
ينظر حوله ورأسه يفور عليه ؛ ينتفض يبحث عن عصاه فلا يجدها ؛ ينطلق مثل شاب في العشرين . تقف الترام يغادرها ، وما أن وطأت قدماه الأرض فإذا بعصاه في يده يتوكأ عليها . يقف على الرصيف ينظر حوله فيجد الطريق ضائعة في تشابكها والتفافها ، والأرض مرهقة ، والأجواء صاخبة ؛ يمشي في بطء يحاول النجاة من صخب الشوارع ليبلغ حافة البحر فيستريح على شاطئه ، ولكنه لا يراه وبخطوات متعثرة يسير باحثا عنه ، وعلى وجهه ابتسامة بائسة :
- أين البحر؟ لا أشم ريحه .
تحت شجرة محطّمة يجلس أبو المكارم باكيا أحلامه التي حطمتها العواصف القوية . لا يؤلمه تقدم السن قدر ما يؤلمه قلب شاخ ، وأمنيات مستحيلة . يبصق في وجه الزمان الذي غير وجه الطفل البرئ إلى وجه شيخ بائس .
سمير لوبه
من المجموعة القصصية #ليه_يا_بنفسج