1
أينما وليت،
ثمة وجه للحزن،
ودعوة للغضب.
أينما وليت، ثمة وجه للوطن.
2
صباح السبت،
الثالث عشر عن أغسطس (آب) عام 1991،
وبينما العربة التي تقل الوفد المصري تغادر (البيضا) بالجبل الأخضر، وتندفع عبر غابات الصنوبر وأشجار التفاح على ارتفاع مئات الأقدام من سطح الحر، وعلى مدى مائتي كيلو من بنغازي التي نتجه إليها، امتدت يد السائق تعبث بزر المذياع حتى تمهل المؤشر عند محطة تذيع مجموعة من الأخبار الخفيفة التي تخللها فقرات سريعة من الموسيقى الراقصة.
كنا نتحدث ونمرح،
وانتبهت قليلا على صوت المذيعة وهي تقول،
إن أولى هذه المجموعات كان اسمها (أرخص ليالي).
وقد صدرت عام 1954.
وأنا لم أتوجس شرا بما سمعت،
فصاحبنا حاضر دائما، والصوت النسائي لم تتغير نبرته المرحة، وهو ينتقل عبر الموسيقى من خبر إلى آخر. ومع اللحن المميز لنهاية البرنامج، كنا نواصل الحديث، عندما مال السائق الأقرب إلى المذياع، والذي تابع البرنامج من أوله، والتفت إلينا بجانب وجهه وهو يتابع الطريق،
"هذا الكاتب يوسف إدريس،
توفاه الله".
اختلط صوته الأجش بالصوت المنغم الناعم،
"إذاعة الشرق الأوسط،
من القاهرة".
(3)
ويسألونك فلا تدري ماذا تقول.
تكتشف فجأة أن يوسف هذا لا يلائمه الرثاء،
وأن كل حديث عن عمله الذي منحنا إياه،
حديث معاد.
تلك حقيقة أكبر سطوعا من أن تكون بحاجة إلى برهان،
منذ ارتفع صوته قبل أربعين عاما معبرا عن كل من لا صوت له في هذا الوطن.
لقد فتح أفقا.
وكان مثالا عبقريا على سرد الحكايا التي أفصحت عن دلالاتها الجارحة بتلقائية مذهلة.
ذلك هو ميراثنا الثمين،
ولن يضيع.
ولكن إدريس لم يكن ذلك الحكاء العظيم فقط،
لقد كان حالة ثقافية كاملة، قوامها الكبرياء،
والمناكفة.
كان رمزا لزمن،
بكل طموحاته وخيبات آماله، بكل إنجازاته.
وكل خطاياه.
وفي كل الأحوال،
كان نوبة الصحيان التي لا تهدأ،
تدعوك لليقظة، في الصباح،
وفي انتصاف الليالي.
(4)
مثل هذه الحكايا، التي تشابه ظواهر الطبيعة وتقلبات الفصول، عندما تنقضي لا نرثيها، بل نرثي أنفسنا.
(5)
ها هي الثمار الغالية تخبو، تتساقط.
قسمات جميلة تغيب عن وجه الوطن،
كان يوسف إدريس بينها هو طابع الحسن المميز على خد هذا الوجه النحيل، العليل،
الباقي.
أينما وليت،
ثمة وجه للحزن،
ودعوة للغضب.
أينما وليت، ثمة وجه للوطن.
2
صباح السبت،
الثالث عشر عن أغسطس (آب) عام 1991،
وبينما العربة التي تقل الوفد المصري تغادر (البيضا) بالجبل الأخضر، وتندفع عبر غابات الصنوبر وأشجار التفاح على ارتفاع مئات الأقدام من سطح الحر، وعلى مدى مائتي كيلو من بنغازي التي نتجه إليها، امتدت يد السائق تعبث بزر المذياع حتى تمهل المؤشر عند محطة تذيع مجموعة من الأخبار الخفيفة التي تخللها فقرات سريعة من الموسيقى الراقصة.
كنا نتحدث ونمرح،
وانتبهت قليلا على صوت المذيعة وهي تقول،
إن أولى هذه المجموعات كان اسمها (أرخص ليالي).
وقد صدرت عام 1954.
وأنا لم أتوجس شرا بما سمعت،
فصاحبنا حاضر دائما، والصوت النسائي لم تتغير نبرته المرحة، وهو ينتقل عبر الموسيقى من خبر إلى آخر. ومع اللحن المميز لنهاية البرنامج، كنا نواصل الحديث، عندما مال السائق الأقرب إلى المذياع، والذي تابع البرنامج من أوله، والتفت إلينا بجانب وجهه وهو يتابع الطريق،
"هذا الكاتب يوسف إدريس،
توفاه الله".
اختلط صوته الأجش بالصوت المنغم الناعم،
"إذاعة الشرق الأوسط،
من القاهرة".
(3)
ويسألونك فلا تدري ماذا تقول.
تكتشف فجأة أن يوسف هذا لا يلائمه الرثاء،
وأن كل حديث عن عمله الذي منحنا إياه،
حديث معاد.
تلك حقيقة أكبر سطوعا من أن تكون بحاجة إلى برهان،
منذ ارتفع صوته قبل أربعين عاما معبرا عن كل من لا صوت له في هذا الوطن.
لقد فتح أفقا.
وكان مثالا عبقريا على سرد الحكايا التي أفصحت عن دلالاتها الجارحة بتلقائية مذهلة.
ذلك هو ميراثنا الثمين،
ولن يضيع.
ولكن إدريس لم يكن ذلك الحكاء العظيم فقط،
لقد كان حالة ثقافية كاملة، قوامها الكبرياء،
والمناكفة.
كان رمزا لزمن،
بكل طموحاته وخيبات آماله، بكل إنجازاته.
وكل خطاياه.
وفي كل الأحوال،
كان نوبة الصحيان التي لا تهدأ،
تدعوك لليقظة، في الصباح،
وفي انتصاف الليالي.
(4)
مثل هذه الحكايا، التي تشابه ظواهر الطبيعة وتقلبات الفصول، عندما تنقضي لا نرثيها، بل نرثي أنفسنا.
(5)
ها هي الثمار الغالية تخبو، تتساقط.
قسمات جميلة تغيب عن وجه الوطن،
كان يوسف إدريس بينها هو طابع الحسن المميز على خد هذا الوجه النحيل، العليل،
الباقي.