ليس صحيحًا أن كل العهر آثم وغير مشروع، المتطلعون إلى نسائم تتحرر معها أرواحهم يتوقون إلى العهر المشروع، يبحثون عنه فى كل امرأة اكتمل وعيها بإنسانيتها وتتوق إلى إطلاق سراح روحها.
المرأة فى مخزوننا المعرفى الإنسانى مركز الحياة، جعلها الإنسان الأول إلهًا للخصب والنماء وربة للجمال، لذلك لا غرابة أن تكون المرأة (ورد عمار) فى رواية (مصنع السكر) مركزًا يدور فى فلكه الحالمون، ليس فقط بالعشق، وإنما الطامحون إلى الحب بحرية، أو بالأحرى الباحثون عن تحرر أرواحهم. تقول (ورد) لحبيبها (زياد) دون وجل أو تحفظ: أحب العهر معك، لست بعاهرة، لكن ليس كل العهر جسدا مقابل المال، العهر هنا الدلال مع الحبيب والمقابل مدفوع مقدمًا، نظرة ورغبة وتوق وعشق، سمه إن أردت (العهر المشروع).
كان هذا حديث «ورد» ببعض التصرف كما أورده صاحب رواية (مصنع السكر) الكاتب الصحفى والأديب محمد شعير. (زياد) أيضًا كان يبحث عن هذا الحب الذى يطمئنه بالسماح والسماحة، السماح بحرية ارتكاب الخطأ وإن لم يقترفه، والسماحة إن هو ارتكبه، أو هكذا حلل صديقه الصحفى (نادر سليم) علاقته مع (ورد).
تستطيع قراءة رواية (مصنع السكر) التى صدرت مؤخرًا عن «دار غراب للنشر والتوزيع» باعتبارها قصة حب افتراضية وملتهبة اندلعت معاركها فى العالم الافتراضى عبر فيسبوك بين مصمم أغلفة الكتب المصرى الفنان «زياد ثابت» ومنسقة الأنشطة والندوات الثقافية بمديرية الثقافة بمدينة حمص السورية «ورد ناصر عمار»، وقد تستمر معك هذه القراءة بطول وعرض الرواية التى جاءت فى 300 صفحة من القطع المتوسط، حتى إذا أدركت فصلها الأخير عندها ستكتشف أن (شهد) ابنة الفنان (زياد ثابت)، قد كتبتها فى عام 2050م، أى بعد نحو 30 عاما من وقوع أحداثها أثناء تواجدها بمدينة سالزبورج النمساوية التى يقع فيها منزل الموسيقار العالمى موتزارت.
الرواية مليئة بمشاهد العهر المشروع وغير المشروع، تزدحم فيها أفكار ورؤى أبطالها لمفهوم الحب والعشق والحرية داخل مؤسسة الزواج وكل مؤسسة، وقد تقرأها باعتبارها محاولة جادة لكتابة أدب الحرب فى سرد الكاتب لوقائع معاناة الشعب السورى فى تلك السنوات المظلمات عبر رصده الدقيق لعدد من المعلومات سواء الخاصة بالتاريخ السورى المعاصر أو أسعار السلع فى زمن الحرب، أو حتى وصفه المذهل لحال المدن والشوارع التى دمرتها قذائف المدافع.
من هذه الناحية سوف تستفيد بالكم الهائل من المعلومات الواردة فى الرواية، عن تفاصيل كل الأماكن التى ارتبطت بأحداثها، وجانب من خصوصية العلاقة بين كل من مصر وسوريا، ولا غرابة فى ذلك فكاتبها الأديب فى الأساس صحفى بجريدة الأهرام، أى أن تتبع المعلومة وتدقيقها ورصد كل التفاصيل المحيطة بها صنعته الأساسية، ويدرك أهمية هذه التفاصيل لإعطاء القارئ خلفية كافية تشرح طبيعة معاناة الشخصيات وتفسر مستوى وعيها بالمعانى والأفكار وكذلك سلوكها وردات فعلها، كما يساعد على فهم الصراعات الدائرة داخلها.
كلما كان النص الإبداعى يتيح أكثر من تأويل طال عمره لأنه وإن كان عملًا روائيًا خلق أحداثه وأبطاله خيال مؤلفه، يقدم لقارئه بعد مائة أو حتى ألف عام جانبا من تاريخنا الاجتماعى والسياسى والاقتصادى والثقافى، بل يسرد تطور شعورنا ونضج معاركنا أو بالأحرى نضج طريقتنا فى إدراك الأحداث والمعانى والإحساس بها، وهو ما قد يساعد من يأتون بعدنا على حل الكثير من مشكلاتهم ومعاناتهم، كما يتضح فى رسالة (شهد) لأبيها (زياد)، أثناء كتابتها رواية (مصنع السكر)، التى تقدم تاريخ عائلتها بما فى ذلك علاقة أبيها المضطربة مع والدتها (علياء الجمال)، المحاسبة فى أحد البنوك، والتى لا تجيد سوى لغة الأرقام، وإن كانت قد ظهرت لنا أنها هى الأخرى أنثى تبحث عن الحب والحرية، ولكن بكثير من الاستبداد حتى ينضبط إيقاع الحياة.
أهم ما فى الرواية أنك تطالع عبر سردية أحداثها سرديتك الذاتية إلى الحد الذى يجعلك جزءًا من النقاش الدائر بين أبطال الرواية حول قضايا الحب والسياسة والحرية والحرب والجنس وعلاقة كل ذلك بقضية تجديد موروثنا الدينى والثقافى الذى وضع قيودًا على عقولنا ونمط تفكيرنا، بما أوجده من تابوهات دينية وثقافية واجتماعية، وفرض أغلالًا على مشاعرنا بما خلفه من تقسيمات طائفية وعرقية.
إنها تجعلك تدخل فى حوار مع شخصياتها، بمعنى آخر لن تكون يا عزيزى القارئ مجرد متفرج فى قاعة المسرح الذى يعرض على خشبته رواية (مصنع السكر)، شيئًا فشيئًا تجد نفسك تتوحد مع الخشبة، تقف إلى جانب الممثلين تقوم بدورك بشكل تلقائى، تعرف متى تتكلم ومتى تتحرك، وفى أى زاوية تجلس ولن تكون بحاجة إلى الملقن الجالس بـ «الكمبوشة» يذكرك بالنص.
مصنع السكر كان دائمًا الحلم ومصدر الدهشة والشعور باللذة لدى أبطال روايتنا، لكنه يتبدل بحسب طبيعة كل شخصية، فهو معمل السكر (بجسر الشغور) بمحافظة إدلب السورية الذى أدهش والدة ورد فى طفولتها بماكيناته الضخمة لتكتب فيه أحلامها فى سنوات براءتها، وحكاية موتها غير المؤكد معذبة أو مغتصبة فى سنوات الحرب الأخيرة، وهو مصدر الدهشة والتطلع لذلك المبهر المجهول عند (سهير السكرى) التى كانت تسكن إلى جوار مصنع السكر بالحوامدية بمصر، حيث قهرت وانتهكت طفولتها لتجبر على ممارسة العهر غير المشروع بالزواج من أثرياء عرب بمباركة وموافقة والدها القواد شهاب، وهناك أيضا عرفت كيف تقول: (لا) وتتحرر لتبدأ حياة جديدة تمارس فيها عهرًا مشروعًا من وجهة نظرها، لكنه على الأقل بإرادتها هذه المرة.
مصنع السكر كان أيضا ذلك الشغف بتحرر الروح الذى وجده الفنان (زياد ثابت) عندما التقى حبيبته السورية (ورد عمار) عبر فيسبوك، بعد أن حل الجفاء محل الحب والمودة بينه وبين زوجته (علياء الجمال) المستبدة التى قيدت روحه وحرمته من تحقيق أحلامه معها، وهى ببساطة أن يحبها بحرية فراح يبحث عن حب زائف وعهر غير مشروع مع غيرها، إلى أن التقى (ورد عمار) فى العالم الافتراضى فوجد حبه وحلمه يتجسد عبر رسائل (الماسنجر).
فى ذات الرسائل وجدت (ورد عمار) مصنع سكرها، أو الحب الحالم المجنون الماجن المطمئن الواثق، وهى بنت الثمانية والثلاثين التى قررت غلق أبواب ونوافذ الحب، فجمالها كان سببا لاختراق جسدها بنظرات الذئاب البشرية، كما أنها عانت من ويلات الحرب التى اشتعلت فى بلدها فى 2011م وسرعان ما تحولت إلى فتنة طائفية بين العلويين الذين تنتمى إليهم عائلة والدها وبين السُّنة أهل والدتها التى ضاعف اختفاؤها الغامض وراء ضبابية قصص الاغتصاب والتعذيب والقتل من معاناة (ورد)، لاسيما بعد أن أفقدتها الحرب شقيقها ووالدها. (ورد) قاست مشاهد الخراب والدمار فى بلدها ومن قلب ذلك الحطام والركام ظهرت (لزياد ثابت) مصمم الأغلفة المصرى، ولأن تجربتها مختلفة كانت الأعمق وعيا من زوجته (علياء) فى فهم العلاقة الخفية بين قضية الحب والحرية، لذلك مثلت الحلم بالنسبة له.
اختيار المؤلف لكل من مصر وسوريا لتكونا بلدي البطلين الرئيسيين إشارة إلى أن أزمة الإنسان فى كلا البلدين متقاربة متشابهة فى كثير من جوانبها، متماثلة فى بعضها. أما قراره باختياره العالم الافتراضى للفيسبوك مسرحا لاندلاع قصة حب ملتهبة مثالية، فلأنه ربما أراد القول إن هذا النموذج المثالى للحب سيظل افتراضيا أو بالأحرى حلما يتوق إليه الإنسان فى مجتمعاتنا الشرق أوسطية.
الكاتب أخبرنا بحب بطله (زياد)، الذى ورثه عن والده (صبرى ثابت)، الشيخ المستنير، للمجدد والمفكر (عبد المتعال الصعيدى) عبر اقتناء كتبه التى كانت دائما موضوعا للحوار بينه وبين والده حول ما تحويه من أفكار ورؤى تنطوى على تجديد حقيقى لموروثنا الدينى خاصة، والثقافى عامة وعلاقة هذه القضية الملحة والمطروحة علينا بقضايا الحرية والحب والجنس، فكأنما أراد القول إن تجديد تراثنا وموروثنا شرط من شروط بلوغنا مستويات أعلى لإدراك مفاهيم الحرية ومعانى الحب والعشق الذى تتحرر معه الروح.
(سهير السكرى) الداعرة التى أصبحت شاعرة بما تملكه من أسلحة تمكنها من اجتياح غرائز بعض المنتسبين إلى أوساط المثقفين، و(هانى الدندراوى) الكاتب الصحفى اليسارى والمثقف الكبير المسيحى، الذى تناقض مع مبادئه وفقد استقلاله عندما ارتبطت مصالحه الوظيفية بما بات يبديه من مواقف لا تعبر عنه، كلاهما نموذج للتشوهات التى قد تصيب النفس البشرية عندما تفقد حريتها، أو بالأحرى عندما تعتقد أن نجاحها واستمرارها رهين بأغلال وقيود مفروضة على بيئة عملها.
ورد وزياد قدما بحبهما وعشقهما وعهرهما المشروع نموذجًا للحياة التى تستقر فيها العلاقة بين البشر داخل مؤسسة الزواج وكل مؤسسة، بما فى ذلك أنظمة الحكم، فالكل يمارس حريته دون خوف، والكل يخطئ لكنه ينعم بسماحة المؤسسة وغفرانها، حينها يعدل المخطئ عن خطئه، ومع تكرار الأخطاء واستمرار مبدأ السماحة تنمو وتتطور المؤسسة وتبتعد عنها عواصف الصراعات وأعاصير الحروب.
وفى المقابل يعبر زياد لورد عن الحال الذى آلت إليه مؤسسة الزواج مع علياء فقط لأنها استبدت وغلقت كل منافذ الحب بحرية ويقول: (كيف حل الجفاء محل الود؟.. كيف سكن السكون كل أرجاء البيت؟.. كيف بات التربص والحذر عنوان المسار؟.. أين اختفت ودفنت لذة الحوار؟.. ساد الخلاف حياتنا ففسدت وأفسدتنا وأنبتت أسوأ ما فينا.. ظهر وأزهر وترعرع صراخ وصراع وقلق.. نهش متبادل وجرح مشترك.. فقررنا أخيرًا أن نتوقف.. أن نصمت.. لنعيش.. عشنا فى الظاهر معا.. كل فى مسار..).
ورغم تأكيد الكاتب طوال الوقت أن هذا النوع من الحب بحرية قد يظل فى مجتمعاتنا مجرد حلم، إلا أن (شهد) تخبرنا بأن تحققه جزئيًا ممكن بشرط اعترافنا بأخطائنا، فها هى علياء الجمال تعترف بأنها أخطأت عندما أغلقت نوافذ الحب بحرية واستبدت بمؤسسة الزواج، فسارعت إلى فتح تلك النوافذ وإشاعة مبدأ السماح والسماحة، فغفرت لزياد خيانته لها مع ورد، وقدمت له زجاجة نبيذ فى رمزية إلى استعدادها لممارسة الحب، أو بالأحرى العهر المشروع مع زوجها. وتخبرنا شهد كيف هدأت نفس زياد بتلك السماحة وشعر بالطمأنينة واليقين تجاه علياء ورفض شرب النبيذ ليعلن أنه الآن يستطيع ممارسة الحب بحرية وإن شئت القول العهر المشروع مع زوجته دون حاجة للنبيذ أو البيرة.
تمثل «شهد» خلاصة مصنع سكر أبيها زياد، فابتعادها وانشغالها بالتراث الإنسانى مكنها من إعادة قراءة تاريخ عائلتها، وجعلها الأقدر على تحديد ملامح مصنع سكرها، هى الآن تملك التجربة الأنضج من تجارب زياد وورد، لأنها الأقدر على معالجة أسباب معاناتها فى زمانها، لذلك مضت تتذوق السكر مع حبيبها الخبير فى الذكاء الاصطناعى طارق العليمى.
استعد عندما تشرع فى قراءة رواية (مصنع السكر) فأنت مقبل على محاولة جادة للاقتراب من الإنسان كما هو أو بالأحرى منك أنت. فقد اختيرت كل مفردة بتعمد ومع سبق الإصرار. وتمت صياغة كل عبارة بعناية فائفة، ليس فقط حرصا على متعتك الشخصية، وإنما لمشاغلة عقلك طوال الوقت وتحريضه على طرح المزيد من التساؤلات. استعد لأنك وإن كنت ستقرأها فى كتاب مطبوع إلا أنك سترى وتسمع أبطالها ليس فى قاعة سينما أو مسرح مغلقة، وإنما على خشبة مسرحك أنت. استعد وكن فى كامل لياقتك وأناقتك العقلية والنفسية، لأنك ستلتقى (ورد) حلم كل عاشق للحرية والحب.
المرأة فى مخزوننا المعرفى الإنسانى مركز الحياة، جعلها الإنسان الأول إلهًا للخصب والنماء وربة للجمال، لذلك لا غرابة أن تكون المرأة (ورد عمار) فى رواية (مصنع السكر) مركزًا يدور فى فلكه الحالمون، ليس فقط بالعشق، وإنما الطامحون إلى الحب بحرية، أو بالأحرى الباحثون عن تحرر أرواحهم. تقول (ورد) لحبيبها (زياد) دون وجل أو تحفظ: أحب العهر معك، لست بعاهرة، لكن ليس كل العهر جسدا مقابل المال، العهر هنا الدلال مع الحبيب والمقابل مدفوع مقدمًا، نظرة ورغبة وتوق وعشق، سمه إن أردت (العهر المشروع).
كان هذا حديث «ورد» ببعض التصرف كما أورده صاحب رواية (مصنع السكر) الكاتب الصحفى والأديب محمد شعير. (زياد) أيضًا كان يبحث عن هذا الحب الذى يطمئنه بالسماح والسماحة، السماح بحرية ارتكاب الخطأ وإن لم يقترفه، والسماحة إن هو ارتكبه، أو هكذا حلل صديقه الصحفى (نادر سليم) علاقته مع (ورد).
تستطيع قراءة رواية (مصنع السكر) التى صدرت مؤخرًا عن «دار غراب للنشر والتوزيع» باعتبارها قصة حب افتراضية وملتهبة اندلعت معاركها فى العالم الافتراضى عبر فيسبوك بين مصمم أغلفة الكتب المصرى الفنان «زياد ثابت» ومنسقة الأنشطة والندوات الثقافية بمديرية الثقافة بمدينة حمص السورية «ورد ناصر عمار»، وقد تستمر معك هذه القراءة بطول وعرض الرواية التى جاءت فى 300 صفحة من القطع المتوسط، حتى إذا أدركت فصلها الأخير عندها ستكتشف أن (شهد) ابنة الفنان (زياد ثابت)، قد كتبتها فى عام 2050م، أى بعد نحو 30 عاما من وقوع أحداثها أثناء تواجدها بمدينة سالزبورج النمساوية التى يقع فيها منزل الموسيقار العالمى موتزارت.
الرواية مليئة بمشاهد العهر المشروع وغير المشروع، تزدحم فيها أفكار ورؤى أبطالها لمفهوم الحب والعشق والحرية داخل مؤسسة الزواج وكل مؤسسة، وقد تقرأها باعتبارها محاولة جادة لكتابة أدب الحرب فى سرد الكاتب لوقائع معاناة الشعب السورى فى تلك السنوات المظلمات عبر رصده الدقيق لعدد من المعلومات سواء الخاصة بالتاريخ السورى المعاصر أو أسعار السلع فى زمن الحرب، أو حتى وصفه المذهل لحال المدن والشوارع التى دمرتها قذائف المدافع.
من هذه الناحية سوف تستفيد بالكم الهائل من المعلومات الواردة فى الرواية، عن تفاصيل كل الأماكن التى ارتبطت بأحداثها، وجانب من خصوصية العلاقة بين كل من مصر وسوريا، ولا غرابة فى ذلك فكاتبها الأديب فى الأساس صحفى بجريدة الأهرام، أى أن تتبع المعلومة وتدقيقها ورصد كل التفاصيل المحيطة بها صنعته الأساسية، ويدرك أهمية هذه التفاصيل لإعطاء القارئ خلفية كافية تشرح طبيعة معاناة الشخصيات وتفسر مستوى وعيها بالمعانى والأفكار وكذلك سلوكها وردات فعلها، كما يساعد على فهم الصراعات الدائرة داخلها.
كلما كان النص الإبداعى يتيح أكثر من تأويل طال عمره لأنه وإن كان عملًا روائيًا خلق أحداثه وأبطاله خيال مؤلفه، يقدم لقارئه بعد مائة أو حتى ألف عام جانبا من تاريخنا الاجتماعى والسياسى والاقتصادى والثقافى، بل يسرد تطور شعورنا ونضج معاركنا أو بالأحرى نضج طريقتنا فى إدراك الأحداث والمعانى والإحساس بها، وهو ما قد يساعد من يأتون بعدنا على حل الكثير من مشكلاتهم ومعاناتهم، كما يتضح فى رسالة (شهد) لأبيها (زياد)، أثناء كتابتها رواية (مصنع السكر)، التى تقدم تاريخ عائلتها بما فى ذلك علاقة أبيها المضطربة مع والدتها (علياء الجمال)، المحاسبة فى أحد البنوك، والتى لا تجيد سوى لغة الأرقام، وإن كانت قد ظهرت لنا أنها هى الأخرى أنثى تبحث عن الحب والحرية، ولكن بكثير من الاستبداد حتى ينضبط إيقاع الحياة.
أهم ما فى الرواية أنك تطالع عبر سردية أحداثها سرديتك الذاتية إلى الحد الذى يجعلك جزءًا من النقاش الدائر بين أبطال الرواية حول قضايا الحب والسياسة والحرية والحرب والجنس وعلاقة كل ذلك بقضية تجديد موروثنا الدينى والثقافى الذى وضع قيودًا على عقولنا ونمط تفكيرنا، بما أوجده من تابوهات دينية وثقافية واجتماعية، وفرض أغلالًا على مشاعرنا بما خلفه من تقسيمات طائفية وعرقية.
إنها تجعلك تدخل فى حوار مع شخصياتها، بمعنى آخر لن تكون يا عزيزى القارئ مجرد متفرج فى قاعة المسرح الذى يعرض على خشبته رواية (مصنع السكر)، شيئًا فشيئًا تجد نفسك تتوحد مع الخشبة، تقف إلى جانب الممثلين تقوم بدورك بشكل تلقائى، تعرف متى تتكلم ومتى تتحرك، وفى أى زاوية تجلس ولن تكون بحاجة إلى الملقن الجالس بـ «الكمبوشة» يذكرك بالنص.
مصنع السكر كان دائمًا الحلم ومصدر الدهشة والشعور باللذة لدى أبطال روايتنا، لكنه يتبدل بحسب طبيعة كل شخصية، فهو معمل السكر (بجسر الشغور) بمحافظة إدلب السورية الذى أدهش والدة ورد فى طفولتها بماكيناته الضخمة لتكتب فيه أحلامها فى سنوات براءتها، وحكاية موتها غير المؤكد معذبة أو مغتصبة فى سنوات الحرب الأخيرة، وهو مصدر الدهشة والتطلع لذلك المبهر المجهول عند (سهير السكرى) التى كانت تسكن إلى جوار مصنع السكر بالحوامدية بمصر، حيث قهرت وانتهكت طفولتها لتجبر على ممارسة العهر غير المشروع بالزواج من أثرياء عرب بمباركة وموافقة والدها القواد شهاب، وهناك أيضا عرفت كيف تقول: (لا) وتتحرر لتبدأ حياة جديدة تمارس فيها عهرًا مشروعًا من وجهة نظرها، لكنه على الأقل بإرادتها هذه المرة.
مصنع السكر كان أيضا ذلك الشغف بتحرر الروح الذى وجده الفنان (زياد ثابت) عندما التقى حبيبته السورية (ورد عمار) عبر فيسبوك، بعد أن حل الجفاء محل الحب والمودة بينه وبين زوجته (علياء الجمال) المستبدة التى قيدت روحه وحرمته من تحقيق أحلامه معها، وهى ببساطة أن يحبها بحرية فراح يبحث عن حب زائف وعهر غير مشروع مع غيرها، إلى أن التقى (ورد عمار) فى العالم الافتراضى فوجد حبه وحلمه يتجسد عبر رسائل (الماسنجر).
فى ذات الرسائل وجدت (ورد عمار) مصنع سكرها، أو الحب الحالم المجنون الماجن المطمئن الواثق، وهى بنت الثمانية والثلاثين التى قررت غلق أبواب ونوافذ الحب، فجمالها كان سببا لاختراق جسدها بنظرات الذئاب البشرية، كما أنها عانت من ويلات الحرب التى اشتعلت فى بلدها فى 2011م وسرعان ما تحولت إلى فتنة طائفية بين العلويين الذين تنتمى إليهم عائلة والدها وبين السُّنة أهل والدتها التى ضاعف اختفاؤها الغامض وراء ضبابية قصص الاغتصاب والتعذيب والقتل من معاناة (ورد)، لاسيما بعد أن أفقدتها الحرب شقيقها ووالدها. (ورد) قاست مشاهد الخراب والدمار فى بلدها ومن قلب ذلك الحطام والركام ظهرت (لزياد ثابت) مصمم الأغلفة المصرى، ولأن تجربتها مختلفة كانت الأعمق وعيا من زوجته (علياء) فى فهم العلاقة الخفية بين قضية الحب والحرية، لذلك مثلت الحلم بالنسبة له.
اختيار المؤلف لكل من مصر وسوريا لتكونا بلدي البطلين الرئيسيين إشارة إلى أن أزمة الإنسان فى كلا البلدين متقاربة متشابهة فى كثير من جوانبها، متماثلة فى بعضها. أما قراره باختياره العالم الافتراضى للفيسبوك مسرحا لاندلاع قصة حب ملتهبة مثالية، فلأنه ربما أراد القول إن هذا النموذج المثالى للحب سيظل افتراضيا أو بالأحرى حلما يتوق إليه الإنسان فى مجتمعاتنا الشرق أوسطية.
الكاتب أخبرنا بحب بطله (زياد)، الذى ورثه عن والده (صبرى ثابت)، الشيخ المستنير، للمجدد والمفكر (عبد المتعال الصعيدى) عبر اقتناء كتبه التى كانت دائما موضوعا للحوار بينه وبين والده حول ما تحويه من أفكار ورؤى تنطوى على تجديد حقيقى لموروثنا الدينى خاصة، والثقافى عامة وعلاقة هذه القضية الملحة والمطروحة علينا بقضايا الحرية والحب والجنس، فكأنما أراد القول إن تجديد تراثنا وموروثنا شرط من شروط بلوغنا مستويات أعلى لإدراك مفاهيم الحرية ومعانى الحب والعشق الذى تتحرر معه الروح.
(سهير السكرى) الداعرة التى أصبحت شاعرة بما تملكه من أسلحة تمكنها من اجتياح غرائز بعض المنتسبين إلى أوساط المثقفين، و(هانى الدندراوى) الكاتب الصحفى اليسارى والمثقف الكبير المسيحى، الذى تناقض مع مبادئه وفقد استقلاله عندما ارتبطت مصالحه الوظيفية بما بات يبديه من مواقف لا تعبر عنه، كلاهما نموذج للتشوهات التى قد تصيب النفس البشرية عندما تفقد حريتها، أو بالأحرى عندما تعتقد أن نجاحها واستمرارها رهين بأغلال وقيود مفروضة على بيئة عملها.
ورد وزياد قدما بحبهما وعشقهما وعهرهما المشروع نموذجًا للحياة التى تستقر فيها العلاقة بين البشر داخل مؤسسة الزواج وكل مؤسسة، بما فى ذلك أنظمة الحكم، فالكل يمارس حريته دون خوف، والكل يخطئ لكنه ينعم بسماحة المؤسسة وغفرانها، حينها يعدل المخطئ عن خطئه، ومع تكرار الأخطاء واستمرار مبدأ السماحة تنمو وتتطور المؤسسة وتبتعد عنها عواصف الصراعات وأعاصير الحروب.
وفى المقابل يعبر زياد لورد عن الحال الذى آلت إليه مؤسسة الزواج مع علياء فقط لأنها استبدت وغلقت كل منافذ الحب بحرية ويقول: (كيف حل الجفاء محل الود؟.. كيف سكن السكون كل أرجاء البيت؟.. كيف بات التربص والحذر عنوان المسار؟.. أين اختفت ودفنت لذة الحوار؟.. ساد الخلاف حياتنا ففسدت وأفسدتنا وأنبتت أسوأ ما فينا.. ظهر وأزهر وترعرع صراخ وصراع وقلق.. نهش متبادل وجرح مشترك.. فقررنا أخيرًا أن نتوقف.. أن نصمت.. لنعيش.. عشنا فى الظاهر معا.. كل فى مسار..).
ورغم تأكيد الكاتب طوال الوقت أن هذا النوع من الحب بحرية قد يظل فى مجتمعاتنا مجرد حلم، إلا أن (شهد) تخبرنا بأن تحققه جزئيًا ممكن بشرط اعترافنا بأخطائنا، فها هى علياء الجمال تعترف بأنها أخطأت عندما أغلقت نوافذ الحب بحرية واستبدت بمؤسسة الزواج، فسارعت إلى فتح تلك النوافذ وإشاعة مبدأ السماح والسماحة، فغفرت لزياد خيانته لها مع ورد، وقدمت له زجاجة نبيذ فى رمزية إلى استعدادها لممارسة الحب، أو بالأحرى العهر المشروع مع زوجها. وتخبرنا شهد كيف هدأت نفس زياد بتلك السماحة وشعر بالطمأنينة واليقين تجاه علياء ورفض شرب النبيذ ليعلن أنه الآن يستطيع ممارسة الحب بحرية وإن شئت القول العهر المشروع مع زوجته دون حاجة للنبيذ أو البيرة.
تمثل «شهد» خلاصة مصنع سكر أبيها زياد، فابتعادها وانشغالها بالتراث الإنسانى مكنها من إعادة قراءة تاريخ عائلتها، وجعلها الأقدر على تحديد ملامح مصنع سكرها، هى الآن تملك التجربة الأنضج من تجارب زياد وورد، لأنها الأقدر على معالجة أسباب معاناتها فى زمانها، لذلك مضت تتذوق السكر مع حبيبها الخبير فى الذكاء الاصطناعى طارق العليمى.
استعد عندما تشرع فى قراءة رواية (مصنع السكر) فأنت مقبل على محاولة جادة للاقتراب من الإنسان كما هو أو بالأحرى منك أنت. فقد اختيرت كل مفردة بتعمد ومع سبق الإصرار. وتمت صياغة كل عبارة بعناية فائفة، ليس فقط حرصا على متعتك الشخصية، وإنما لمشاغلة عقلك طوال الوقت وتحريضه على طرح المزيد من التساؤلات. استعد لأنك وإن كنت ستقرأها فى كتاب مطبوع إلا أنك سترى وتسمع أبطالها ليس فى قاعة سينما أو مسرح مغلقة، وإنما على خشبة مسرحك أنت. استعد وكن فى كامل لياقتك وأناقتك العقلية والنفسية، لأنك ستلتقى (ورد) حلم كل عاشق للحرية والحب.