- "الشاعر يهبط على وحيه،
لا وحيه هو الذي يهبط عليه"
كلون ولسن
تصدير
إذا كان العالم عرف عبد الفتاح إسماعيل بأنه سياسي من الطراز الأول فإن الحقيقة غير ذلك إنه شاعر بالدرجة الأولى، ويتوجب علينا أن نفهمه بأنه شاعر صوفي، قابل الحياة بذهن منفتح على الطبيعة، وبصدر مغرم بالوقوف ضد الظلم والطغيان والأحقاد والأباطيل.
ويبدو أنه تأثر بطقوس الحياة الصوفية والشعر الصوفي في وقت مبكر من حياته حيث أننا نجد قصائده، معبأة بالمفردات الصوفية ونجدها متضمنة للآيات القرآنية والأحاديث النبوية ومن مثل ذلك قوله تعالى " لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر" وقول رسول الله " المؤمن لايلدغ من جحر مرتين" ولعل الذين رافقوا حياته ومواقفه يعرفون جيدا سمو أخلاقه وعلو همته والتصاقه بسلوك الصوفيين:-
يقول في ديوان "نجمة تقود البحر") الصادر عام 1989م عن دار ابن خلدون، وفي قصيدة "حوارية للتأمل" يقول:
قالوا امتشقت من مولد الفجر أنغامه
يصدح قلبك فتسمح الآذان كلها
أغنية مقاماتها تخصب في التربة البكر
قمحاً ونخلاً
تحيل العبوس، والبؤس
في الضفتين بسمة لرياح النهار.
فإذا تفحصنا هذا المقطع وجدناه صوفياً بامتياز وشاهدنا على ذلك المفردات الخاصة بقاموس الصوفية ومثل ذلك"مولد الفجر-أغنية مقاماتها" فالموالد والمقامات طقوس صوفية
مضافا إلى ذلك عنوان القصيدة الذي يشكل مفتاح القراءة، فالعنوان هو (حوارية للتأمل والتأمل كما نعرف ظاهرة وطقس صوفي، وأضاف إليه الشاعر مفرده حواريه فاللحظة الصوفية في هذا المقام ليست جامدة وإنما صاخبة .. حوارية .. فاعلة وهذا يعيد إلى أذهاننا مقولة "كولن ولسون " من أن الشعر والتأمل متشابهان في أساسهما فلهما نفس الهدف"1"
مدخل
ربما تحتاج هذه الورقة إلى اتفاق مبدئي قابل للنقاش لذا أود أن أقول لقارئي لنتفق أولاً على جملة من الشروط:-
1- ليس كل من يعلن بأنه متصوف، يعد متصوفاً، فالمتصوف إنسان لا يعلن عن نفسه ولا يكشف سره.. لأن كشف الأسرار في التصوف يعني الموت وفي ذلك يقول السهروردي:-
بالسر إن باحوا تباح دمائهم وكذا دماء البائحين تباح
وقد عاب بعض المتصوفه على الحلاج كشفه للسر الذي وصل إليه جنونه
2- التصوف: سلوك، فإذا كان المتصوف شاعراً ظهرت الصوفية وبانت في أداءه الشعري والكتابي كما هي في نثريات النفري والبسطامي وأشعار ابن علوان وابن عربي وابن عجيل والحلاج.
3- إن التصوف لحظة متكررة داخل الروح فالروح التي تخرج من نفسها، تعود لتتحد بنفسها، وبين الخروج والعودة يحدث ذلك التطهير الذي نسميه أحياناً الصفاء وأحياناً المحبة وأحياناً الإبداع وأحياناً التصوف وأحياناً اللحظة الشعرية أو ما يسميه الصوفيين اللحظة الإشرافية، وهي اللحظة التي يذهب معها صاحبها إلى تجسيد تجربته الحياتية على شكل نص شعري كما هي عند شاعرنا عبد الفتاح إسماعيل التي يمكنني أن اسمي لحظات كتابته للشعر لحظات البهاء والتجلي لما تكتنزه من قوة في الخيال ودقة في التصوير وتدفق في المشاعر المتوحدة بفكرة واحدة عنوانها " محبة الأرض والإنسان ".
إذاً فاللحظة التي يختلي بها الإنسان مع نفسه من أجل العبادة أو الكتابة هي لحظة تصوف إذ يتنقى فيها الإنسان من شوائب الحياة وضجيجها وملابساتها.
لا شك أن هذه العبارة الأخيرة تمثل ذروة القول فيما نريد طرحه في ما نذهب إليه من أن الإنسان يستطيع أن يخلق لحظات صوفية خاصة به، فالصوفي لم يعد ذلك الإنسان الذي ينقطع عن الناس للعبادة والصوم .. عن الأكل والكلام وليس ذلك الذي يرتدي الثياب الممزقة المرقعة المتسخة ولكن على العكس من ذلك، لأن الصوفية تعددت اليوم بمعانيه ومدركاتها وطرقاتها تعددت في مضامينها وأفكارها ووسائلها وصار المهندس والطبيب والمؤرخ والرحالة والأديب جميعهم يخلقون لحظاتهم التوحيدية في معاملاتهم ومسارات حياتهم، فالإنسان الذي يحب عمله إلى درجة العشق يقال له صوفي فالشاعر أو الأديب الذي يخلص لتجربة يصبح صوفياً.. الشاعر المعتاد على الذهاب إلى دوائره الإبداعية من حيث يدري ولا يدري يعد مبدعاً.
ولعل لحظة الإبداع هي لحظة الإشراف المعروفة لدى الصوفيين تلك اللحظة التي تأخذ صاحبها إلى عالم آخر .. نأخذه من كل شي.. من ملذات الحياة ومن صخبها وجمالها ورونقها إلى عالم آخر مزيج من الوعي واللاوعي يقول شاعرنا في قصيدة "خواطر في مستشفى هافانا")).
رغم عالمي الجميل الجديد، شردت، في الأفق ، لكي
أرى .. ولا أرى
حيث الحدود بلا حدود
والوعي .. واللاوعي
لا يستطيع أحدهما أن يقود الآخر
والصراع يهدأ لكي يعود
فالوعي رغم الحضور تبدد وذاب
وأحياناً تكمن الحقيقة في اللاوعي
واللاوعي حاضر رغم الغياب"ص 35 "
ما التصوف
ما هو التصوف ومن هم الصوفيون.. وما هي صفات الصوفي، وماذا يريد المتصوفة، ما هي أوصافهم العامة.. الظاهرة والباطنة.. أين يتواجدون وكيف يمكن تمييزهم عن بقية الخلق.. هل هم كثيرون أم قليلون.. يحتفي بهم العالم أم يزدريهم..؟
كل هذه الأسئلة يمكننا أن نقترب منها ونلامسها:
فالتصوف مصدر الفعل الخماسي المصوغ من"صوف" للدلالة على لبس الصوفي، ومن ثم كان المتجرد لحياة الصوفية يسمى في الإسلام صوفياً"2".
وورد لفظ الصوفي لقباً مفرداً لأول مرة من التاريخ في النصف الثاني من القرن الثامن الميلادي إذا نُعت به جابر بن حيان، وهو صاحب كيمياء شيعي من أهل الكوفة له من الزهد مذهب خاص3.
وأرجح الأقوال وأقربها إلى العقل: مذهب القائلين بأن الصوفي نسبة إلى الصوف وأن المتصوف مأخوذ منه – أيضاً – فيقال تصوف إذا لبس الصوف كما يقال تقمص إذا لبس المقيمس فلهذا القول وجه سائغ في الاشتقاق وهو مختار كبار العلماء من الصوفية مثل صاحب اللمع وشارح الرسالة القشيرية ومن غيرهم كإبن خلدون وابن تيمية "4".
وهناك ألفين تعريف للصوفية.. حيث يستطيع كل صوفي أن ينتهج تعريفاً خاصاً به فهناك من يرى بأن الصوفية: سلوك أخذ من منهج الرسول صلى الله عليه وسلم – وهناك من يرى بأن الصوفية: سلوك متصل بالعمل والقلب وهو سلوك يوصل إلى الله. وهناك من يري بأن التصوف علم يختص بترقيق القلوب والعقول .. وهناك من يرى بأن الصوفية توحد مع الله والكون.
والتصوف ظاهرة موجودة في جميع الأديان، والمؤمنون بها موجودون في كل مكان تختلف طرائقهم في الحياة عن بقية الخلق، فهم أكثر قدرة على التأمل وأكثر قدرة على الاستفادة من لحظات خلواتهم، ويتصفون بالصبر والمثابرة من أجل الوصول إلى الهدف وهدفهم السامي هو الوصول إلى لحظة فناء.. لحظة يسميها البوذيين (النارفانا) وتعني حالة السعادة القصوى أو منتهى الرضا والقناعة ولعلنا نستطيع القول أن اللغة العربية استطاعت أن تختزل الصوفية بمعنى عالمي ومكثف ويعني (التخلي عن الرذائل والتحلي بالفضائل.. ثم التجلي .
إن من أهم مقامات المتصوفه: الزهد، والتوكل والمحبة وهي مقامات نستطيع استخلاصها من الديوان المفتوح بين أيدينا خاصة إذا عرفنا أن الفن : محاولة من الإنسان لامتلاك تثبيت التجربة كما يمكن إعادة خلقها" 3)) ص51.
الزهد
نعرف جميعا أن الزهد ارتبط شعرياً بالشاعر الزاهد أبو العتاهية حيث ذهب إلى الإعلاء من قيم تهذيب النفس، ولا شك أن لكل إنسان عالمه الخاص به، المتوحد معه، عالمه الذي يشعر أن فيه خلاصه، وهو عالم يشعر فيه الإنسان –أحياناً– أنه متسق معه، ومنسجم مع مفرادته: الناس، الطبيعة، الكون، الحلم، الأمل، والشعر.
إن اختيار القصيدة هو في الحقيقة زُهد، لأن الإنسان كلما كان قريباً من الشعر وأخلص له نسي ملذات كثيرة، وتوحد بعالم خالٍ من الزيف والذاتية.
يقتنع الشاعر بالقليل من مقومات الحياة وذلك لأنه مشغول بالتقاط اللحظات والصور والأنفاس الطائرة في فضاءات الروح والجسد.
يستولي على الشاعر دائماً شعور بأن هناك من يشاركه خصوصيته، وهو إيحاء يضعه الله في مجاهل النفس مثل خيط من النور وعرق من الدم المضيء، ونتيجة لذلك يحس الشاعر أن عليه مسؤوليات تجاه هذا العالم.
ومن الشعراء الزهاد شاعرنا الذي رأى أن حياته لن تتسق وتمتد وترسل إشعاعها إلا إذا ساهم في البحث عن جوانب الحياة فيها تلك الجوانب التي تكنز في أعماقها أدوات النجاة للجموع.
يقول:
"الأيدي يمكن أن تحجب النور
حقا هناك من يزرعون الوباء
جرثومة.. درهماً.. غدرا أو فتنة
وما قد يدغدغ بعض الحواس
ومن حيث لا يدركون أو يدركون
يرتد سهم ذلك الوباء إلى نحرهم
فالحب حين يضاجع الأرض، والبسطاء
معتجناً الكلم بالفعل،
سيتحد الجرح ورغم المعاناة يشفى". ص11.
يقول الشاعر هنا وهو المجرب: نعم هناك أيدٍ تحاول حجب النور وربما استطاعت بعض الشيء مستخدمة الإغراءات حيناً والغدر حيناً، والإغراء بالدراهم، والغدر بالفتن، الترغيب والترهيب، بكل ما قد يضعف الإنسان ويخيفه، ولكن ما يحدث هو أن سهامهم تعود إلى نحورهم أما هو فقد زهد عن متع الحياة.
إن مفردتي "سيتحد الجرح" في نهاية المقطع السابق لا تعني شيئا قدر ما تعني أن الشاعر لا يبحث عن حل له وحده وإنما له ولمن حوله وخاصة البسطاء، والأرض التي يتيه فيها حباً.
من الزهد التنكر للذات. فالقصائد لا تتحدث عن الذات المفرد الواحدة، وإنما معظم قصائد الديوان تُغيب الذات معلية من شأن الجماعة.
"وها أنا ذا بصلابة قلب خنادقكم
في النصر وعند هزائمكم
وبسُمكِ ارتفاع أحداق أسواركم
وعند الشدائد، قشطت بسيفي الركام القديم
الجديد
فتحت نافذة المقبرة
لمخاض الربيع الآتي إليكم". ص17.
وفي مقطع آخر يقول:
"لذا قالوا إني داعي النبوة للكفر والبدعة والزندقة
لأني لفضت سموم الطوائف
مفخرة الابتزاز
حيث ترزق الآلهة من تشاء
بغير حساب
في سفرة الميمنة
وذوبت أحشاء روحي
مع البسطاء غذاء لشمع البشارة". ص16.
إن الإنسان الذي يختار الشعر طريقاً ودرباً له يعد صادقاً، فالشعر هو أن تكون ضمير الناس، والشعر هو أن تقول الحقيقة. ولعلنا قد لمسنا شكوى الشاعر مما يقوله الخصوم عنه، فهذه عادة الخصوم، وإنما يقولون ذلك لأنه زهد عن التملق لملوك الطوائف، ولمن يفخرون بالابتزاز ولكل أصحاب الثروات واختار أحشاء الروح لكي يحس من هناك ومن موقعه الزاهد بآلام الفقراء وليكون زهده عن كل الملذات غذاءً وبشارة للمستقبل.
في مقطع آخر يقول:
"فهذا الخيار
اختبار لنا وأي اختبار
شداد ما كان يوماً بأسطورة
ولا إرم ذات العماد". ص16.
إن الزهد هو في الحقيقة درجة من درجات الإيمان ومن يصل إلى هذه الدرجة يذهب إلى اختبار قواه الإيمانية. يقول لنا الشاعر: لكي نصل إلى بطولة شداد المعروف في التاريخ العربي ولكي نصل إلى (المدينة المثالية) إرم ذات العماد فعلينا أن نختبر أنفسنا وشهواتنا، وعلينا أن نزهد عن بهارج هذه الحياة الفانية.
لنتأمل هذا المقطع الذي يجسد فيه الشاعر صورة الزاهد المغني المحب الذي برحه الشوق بسبب معاناته وتقشفه، وحروبه المستمرة مع النفس والآخرين:
"بوجه أطل عليكم
بوجه ودود
براه عذاب صراع الزمان
طولاً وعرضاً". ص16.
التوكل
ليست الصوفية مرادفاً للكسل والخمول، وهي ليست الانقطاع عن الخلق في بيوت العبادة، لا. الصوفية كفاح، وعمل، وجهاد، واجتهاد... كد وسعي وسهر وعطش. إنها عمل شاق يجرب من خلاله المحب كل أهوال الحياة، للوصول إلى اللحظة الأخيرة التي ربما تكون لحظة تجربة صوفية. وهذه اللحظة تكثفت في خاتمة قصيدة "الثورة والموت والميلاد":
"عالمنا اليوم، يركض فوق صهوة خيل
نحو الشرق
يمخر عباب البحر،
يتحدى الإعصار،
يمضي ليعانق شمس الحرية الكبرى
يزرع بديلاً للعبث واليأس، والأمل الأخضر
في كل مكان ليحقق ما كان أحلاماً
ينشر بسمته في المدن والأديان
بين البسطاء، بين العشاق". ص40.
إن خيط النور، الذي يتحرك في أعماق الشاعر يقول له: توكل، اذهب إلى الناس، تفاعل مع قضاياهم، مع أحلامهم واتجاهاتهم. ولا شك أن ذلك الخيط هو نفسه الذي كان يقول له من حيث يدري ولا يدري: ساهم في تحرير بلدك من الإنجليز، قاتل مع أهلك ومحبيك وأبناء جلدتك، قاتل بالكلمة والموقف والسلاح. وكانت هذه اللحظات الإشرافية الصادقة تتناثر على شكل فعل وأداء سلوكي ومقاطع شعرية تعكس طبيعة الإنسان في تلك المرحلة.
إن التوكل الذي عنيته في هذه المادة هو أن كل قول شعري كان في الحقيقة ناتجاً عن موقف عملي جسده الشاعر في موروثه الإبداعي. ورأى وهو الزاهد المتوكل المحب أن كل شر يُوجب المواجهة. إن الكثير من المقاطع الشعرية أفصحت عن محارب ليس مقدروه سوى تحطيم المخاطر المحدقة بعالمه الصامت. وربما نستشف ذلك من تلك القصيدة التي رثى بها رفيقه عبد الله با ذيب:
"زبانية الليل يبتسمون، فهل نبكي!؟
جذلون، فهل نحزن
على من حمل الحرف الوضاء، الحرف السيف.
وحمل القلب على كتفيه ينز النور!؟". ص42.
التصوف –كما يعرفه الدكتور على الخطيب– في حقيقته إيثار وتضحية، هو نزوع فطري إلى الكمال الإنساني، والتسامي، والمعرفة.
ونجد في هذه الخلاصة شيء من الإيثار والتضحية والبحث عن الكمال.
"لكن ثقي يا حبيبتي مهما كانت أو تكن مخاوفي
ومهاما ساورني القلق بعد اليقين
ثقي بأن حبنا واعد كما تعد الرعود
وحبنا زاهر كما تعد براعم الثمر
وحبنا خالد كنور الشمس والقمر
ثقي يا حبيبتي بأن حالتي كيف ما تكون
تظلين بالنسبة إلى حبي الكبير
تظلين بالنسبة إلى نور العين". ص63.
المحبة
تناول الشعراء العرب الكبار التراث الصوفي في أعمالهم، واسقطوا مواجيدهم وأقنعتهم وأفكارهم على شخصيات صوفية بعينها ومنهم على سبيل المثال صلاح عبد الصبور في مسرحية "مأساة الحلاج"، واد ونيس في تماثلاته مع النفري، والدكتور عبدالعزيز المقالح في حواراته مع ابن عربي في "أبجدية الروح"، وعبدالوهاب البياتي في ابن الرومي، وكثيرون غيرهم.
وشاعرنا كان نتيجة لهم جميعا حين كان هو الشخصية والتجربة والقناع فقد عاش اللحظة الصوفية بتفاصيلها وعبر عنها بلواعجها وأشجانها..
ما أحوجنا اليوم إلى أن نحيي في الناس جذوة الشعر وما أحوج نخبة المثقفين والسياسيين اليوم إلى حثهم على اكتشاف جوانب المحبة التصوف في أعماقهم..
ما أحوجنا اليوم إلى أن نحيي أشعار وأفكار هذا الرجل الشاعر المتصوف المثير للجدل. وما أحوجنا إلى أن نمد جسور معارفه إلى الحق الأكاديمي الدراسي والفكري خاصة وانه قصد فيما كتبه نشر قيم المحبة والإخاء البشري والإنساني .. وفي هذا المقطع من قصيدة "كوبا" نجد أنفاس ابن عربي كانت:
تحلم بحب إنساني آخر
يكسبها دوما عمرا اخضر
لا يميز أشكال الإنسان
لا يفرق بين الألوان
يتعانق فيها الأبيض والأسود والأسمر
وما كان أمل في الغيب
حلما أشقر
أصبح غيم ضياء"ص96
يتجلى نفس ابن عربي بفلسفته الصوفية وقدرته على إثارة الجدل بدعوته الدائمة إلى حرية الخلق في العبادة والمعتقد .. يتجلى ذلك في هذا المقطع الذي كتبه شاعرنا تحت عنوان قصيدة:
منطق
الكره والخير
والحب والشر
كل الأشياء تختلط، فليس من عجب
أن النقيض بالنقيض
مرتبط لكن من لا يعي جدلا
سر الحياة ينتابه الشطط
فالحقيقة تبرز واقفة على رأسها
والحال يبدو جليا
كله غلط" ص
في مسارات المحبة ودروب الضوء يتمشى شاعرنا حاملا بين جوانحه قناعات العصفور الممتشق سيف غنائه:
العصفور الذي لا يستطيع هجر شجرته فيطير إليها ليودعها أسراره التي لا ترى
أتخفين سرك عني؟، وأسرار سرك واسمك اسمي.
النار تشعلني من جمر قلبك والبرد
يقذف بي من حزن عينيك
برد ناري
ونار سلمي.
فكيف أقيس عذابي لأجلك
ووشم عذابي بجسمك
وجسمك جسمي
هناك عادة يمنية تحضرني الآن ومفادها أننا لا نلتفت الى إبداعات شعرائنا وكتابنا منطلقين من مبدأ شائع "لا كرامة لنبي في وطنه"، وذلك لأننا نسينا اهم شروط الحياة وهي المحبة اما اذا التفت اليهم الآخرون ونبهوا الى ابداعاتهم، فإننا نفكر بإنصافهم جزئيا، وربما لا نقتنع فكيف نتنكر لأصالتنا. ومثل هذا حدث مع شاعرنا الذي تنبه الى ابداعه الآخرون وأقصيناه نحن رغم شعريته الواضحة وذوبانه الشديد وحبه لامرأة واحدة تسمى "اليمن"
يدور الزمان ويوما تحرك نحوك
توقف عندك بكل الأماني إليك يشير
يجلجل يعلن ميلادك المحتمل
حضنت الأمل وكالجمر أزهر حبي الكبير ص29
من اجل هذه المحبة الاستثنائية لنتوقف هنا لكن القصيدة المتلفعة بالوجدان تشرئب من بين جوانحنا لأننا ربما عطاشى جائعين التذكر مثل هذا العلو لأن المحبة هنا اكتملت وهي محبة خالصة يختلط فيها نفس المحب مع نفس المحبوب حتى لا يعرف المحب اين روحه من روح المحبوب، يقول:
روحي معك
تغني وتبكي تضمك دوما
وحين تحلق فيك، نحو أعالي تطير
فترعاك ليلا نهارا
قريبا بعيدا
وفيك شقلئي نعيما يصير
وقلبي يشرق منك ويغرب فيك
كدقات قلبي ومن
عمق حبي
أخاف أغار عليك
وكل الذي في يديك
جذوب طروب مثير. ص30
المحبة هي أصل جميع المقامات حسب ابن الدباغ يصل الإنسان الصوفي عبرها إلى مقامات أخرى كمقام الحرية التي ينتفي فيها الشعور بالثنائية تماما وتصير فيها الأنفاس متحدة في شهيقها وزفيرها ويتمظهر ما يسمى بالإحلال، وهذا يتجسد في:
قصيدة فكرت فيك
فكرت فيك كثيرا
احتار فكري
نظرت إليك
غريبا نظرت لذاتي
التفت فيك لمحت غرابة أمري
أدركت باني
بدونك لأوجه لي
حدقت فيك رسمتك
تغير شكلي
أصبح وجهك وجهي
مقام العشق
انه المقام الذي افتدى فيه الشاعر عبدالفتاح إسماعيل حبيبته بدمه .. النهاية الأخيرة لمعراج الجسد والبداية المهرجانية لبداية الحياة
يقول في قصيدة "آزال ولعبة الألوان":
هل يكفي ذلك ياتربة حبي؟
وها إني احمل مطرقتي، فأسي
لأحطم إبريق السم وعلب لفافات الأفيون
لأحطم هذي "الأوثان" الألوان ..
وأقدم نفسي للنار،
فلأحترق الساعة كي ينبعث آزال العصر
من الجسد المحروق، كتلة جمر
تحرق لعب الألوان وتكون اللون لترابك،
وأنا القربان". ص70
وفي مقطع آخر يظهر الشاعر المتصوف وهو في لحظة عشق يرى مالا يراه الآخرون مخترقا الزمان والمكان وفي تلك المراسيم التي يواري فيها جسد رفيقه "باذيب الثرى" في تلك اللحظة البهية يرى قامته المديدة وهي تختفي بين النهدين منطلقة إلى دورة جديدة في الحياة..
ياقلعة المجد، الحب،
ويا أغنية الخصب، يابلادي:
ابنك وضع القلب بين النهدين
وسافر
يحم في ساحات النور
بيد، عينيك، وبالأخرى رايات
حبك.
ويمثل العشق مرحت الجنون المطلق الذي يصل اليه المتصوف وقد استخدم الشاعر مفردة العشق كثيرا في هذا الديوان يقول:
من يعشق التوحد بالبحر
يعشق شواطئه الخضر". ص33
هناك سمات وملامح عامة واضحة في الديوان منها:
-ان الشاعر تمثل جدلية الحوار المتلمسة جنبات الباطن وأحراش الوجدان والشبيهة بالعذبات اللذيذة في أشعار الصوفيين التي تناجي الذات الإلهية عادة، خاصة تلك النبرة المتضمنة الشد والجذب بين حبيبين لأكلفت بينهما وقد نجد دلالة لذلك في قصيدة "السؤال"
- استخدم الشاعر الكثير من المفردات الخاصة بقاموس الصوفيين
- الصوفيون ليسوا رجالا عاديين يسهل قيادتهم والتأثير عليهم، وإنما توصلوا إلى ما هم عليه بعد مرورهم بالعديد من الإنصهارات الإيمانية وهم لا يتعبدون من الجنة أو الحصول على مكافأة وإنما من اجل المعرفة والمعرفة لديهم سعي إلى الخالق ويتجلى ذلك في قصيدة "الشك"
معذرة كيف لي أن اطمئن
وفي عمق صلب اليقين
مدى الشك
تنخر قلب اليقين
ويشتعل الشك نارا تموج في النفس
تمتد نيرانها تستكين،
وتوغل في الجذور".ص55
- يرى الصوفيون أن العناء يزول حين يذهب الفراق ويتم التوحد، وكان شاعرنا ينضر إلى وحدة الحبيبة هي المنتهى. ص32
- انعكست الثقافة الدينية في معظم قصائد الديوان وتجلت تلك النفحات في تضميناته لآيات من القرآن الكريم.
هامش:
- كولن ولسون: الشعر والتصوف، دار الآداب بيروت
- ماسنيون ومصطفى عبدالرزاق: التصوف، دار الكتاب اللبناني، 1984،
- د. على الخطيب: اتجاهات الأدب الصوفي بين الحلاج وابن عربي، دار المعارف
** هذه الورقة قدمت في الندوة التي أعدتها جماعة "إرباك وجنون" احتفاء بالشاعر الراحل.
لا وحيه هو الذي يهبط عليه"
كلون ولسن
تصدير
إذا كان العالم عرف عبد الفتاح إسماعيل بأنه سياسي من الطراز الأول فإن الحقيقة غير ذلك إنه شاعر بالدرجة الأولى، ويتوجب علينا أن نفهمه بأنه شاعر صوفي، قابل الحياة بذهن منفتح على الطبيعة، وبصدر مغرم بالوقوف ضد الظلم والطغيان والأحقاد والأباطيل.
ويبدو أنه تأثر بطقوس الحياة الصوفية والشعر الصوفي في وقت مبكر من حياته حيث أننا نجد قصائده، معبأة بالمفردات الصوفية ونجدها متضمنة للآيات القرآنية والأحاديث النبوية ومن مثل ذلك قوله تعالى " لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر" وقول رسول الله " المؤمن لايلدغ من جحر مرتين" ولعل الذين رافقوا حياته ومواقفه يعرفون جيدا سمو أخلاقه وعلو همته والتصاقه بسلوك الصوفيين:-
يقول في ديوان "نجمة تقود البحر") الصادر عام 1989م عن دار ابن خلدون، وفي قصيدة "حوارية للتأمل" يقول:
قالوا امتشقت من مولد الفجر أنغامه
يصدح قلبك فتسمح الآذان كلها
أغنية مقاماتها تخصب في التربة البكر
قمحاً ونخلاً
تحيل العبوس، والبؤس
في الضفتين بسمة لرياح النهار.
فإذا تفحصنا هذا المقطع وجدناه صوفياً بامتياز وشاهدنا على ذلك المفردات الخاصة بقاموس الصوفية ومثل ذلك"مولد الفجر-أغنية مقاماتها" فالموالد والمقامات طقوس صوفية
مضافا إلى ذلك عنوان القصيدة الذي يشكل مفتاح القراءة، فالعنوان هو (حوارية للتأمل والتأمل كما نعرف ظاهرة وطقس صوفي، وأضاف إليه الشاعر مفرده حواريه فاللحظة الصوفية في هذا المقام ليست جامدة وإنما صاخبة .. حوارية .. فاعلة وهذا يعيد إلى أذهاننا مقولة "كولن ولسون " من أن الشعر والتأمل متشابهان في أساسهما فلهما نفس الهدف"1"
مدخل
ربما تحتاج هذه الورقة إلى اتفاق مبدئي قابل للنقاش لذا أود أن أقول لقارئي لنتفق أولاً على جملة من الشروط:-
1- ليس كل من يعلن بأنه متصوف، يعد متصوفاً، فالمتصوف إنسان لا يعلن عن نفسه ولا يكشف سره.. لأن كشف الأسرار في التصوف يعني الموت وفي ذلك يقول السهروردي:-
بالسر إن باحوا تباح دمائهم وكذا دماء البائحين تباح
وقد عاب بعض المتصوفه على الحلاج كشفه للسر الذي وصل إليه جنونه
2- التصوف: سلوك، فإذا كان المتصوف شاعراً ظهرت الصوفية وبانت في أداءه الشعري والكتابي كما هي في نثريات النفري والبسطامي وأشعار ابن علوان وابن عربي وابن عجيل والحلاج.
3- إن التصوف لحظة متكررة داخل الروح فالروح التي تخرج من نفسها، تعود لتتحد بنفسها، وبين الخروج والعودة يحدث ذلك التطهير الذي نسميه أحياناً الصفاء وأحياناً المحبة وأحياناً الإبداع وأحياناً التصوف وأحياناً اللحظة الشعرية أو ما يسميه الصوفيين اللحظة الإشرافية، وهي اللحظة التي يذهب معها صاحبها إلى تجسيد تجربته الحياتية على شكل نص شعري كما هي عند شاعرنا عبد الفتاح إسماعيل التي يمكنني أن اسمي لحظات كتابته للشعر لحظات البهاء والتجلي لما تكتنزه من قوة في الخيال ودقة في التصوير وتدفق في المشاعر المتوحدة بفكرة واحدة عنوانها " محبة الأرض والإنسان ".
إذاً فاللحظة التي يختلي بها الإنسان مع نفسه من أجل العبادة أو الكتابة هي لحظة تصوف إذ يتنقى فيها الإنسان من شوائب الحياة وضجيجها وملابساتها.
لا شك أن هذه العبارة الأخيرة تمثل ذروة القول فيما نريد طرحه في ما نذهب إليه من أن الإنسان يستطيع أن يخلق لحظات صوفية خاصة به، فالصوفي لم يعد ذلك الإنسان الذي ينقطع عن الناس للعبادة والصوم .. عن الأكل والكلام وليس ذلك الذي يرتدي الثياب الممزقة المرقعة المتسخة ولكن على العكس من ذلك، لأن الصوفية تعددت اليوم بمعانيه ومدركاتها وطرقاتها تعددت في مضامينها وأفكارها ووسائلها وصار المهندس والطبيب والمؤرخ والرحالة والأديب جميعهم يخلقون لحظاتهم التوحيدية في معاملاتهم ومسارات حياتهم، فالإنسان الذي يحب عمله إلى درجة العشق يقال له صوفي فالشاعر أو الأديب الذي يخلص لتجربة يصبح صوفياً.. الشاعر المعتاد على الذهاب إلى دوائره الإبداعية من حيث يدري ولا يدري يعد مبدعاً.
ولعل لحظة الإبداع هي لحظة الإشراف المعروفة لدى الصوفيين تلك اللحظة التي تأخذ صاحبها إلى عالم آخر .. نأخذه من كل شي.. من ملذات الحياة ومن صخبها وجمالها ورونقها إلى عالم آخر مزيج من الوعي واللاوعي يقول شاعرنا في قصيدة "خواطر في مستشفى هافانا")).
رغم عالمي الجميل الجديد، شردت، في الأفق ، لكي
أرى .. ولا أرى
حيث الحدود بلا حدود
والوعي .. واللاوعي
لا يستطيع أحدهما أن يقود الآخر
والصراع يهدأ لكي يعود
فالوعي رغم الحضور تبدد وذاب
وأحياناً تكمن الحقيقة في اللاوعي
واللاوعي حاضر رغم الغياب"ص 35 "
ما التصوف
ما هو التصوف ومن هم الصوفيون.. وما هي صفات الصوفي، وماذا يريد المتصوفة، ما هي أوصافهم العامة.. الظاهرة والباطنة.. أين يتواجدون وكيف يمكن تمييزهم عن بقية الخلق.. هل هم كثيرون أم قليلون.. يحتفي بهم العالم أم يزدريهم..؟
كل هذه الأسئلة يمكننا أن نقترب منها ونلامسها:
فالتصوف مصدر الفعل الخماسي المصوغ من"صوف" للدلالة على لبس الصوفي، ومن ثم كان المتجرد لحياة الصوفية يسمى في الإسلام صوفياً"2".
وورد لفظ الصوفي لقباً مفرداً لأول مرة من التاريخ في النصف الثاني من القرن الثامن الميلادي إذا نُعت به جابر بن حيان، وهو صاحب كيمياء شيعي من أهل الكوفة له من الزهد مذهب خاص3.
وأرجح الأقوال وأقربها إلى العقل: مذهب القائلين بأن الصوفي نسبة إلى الصوف وأن المتصوف مأخوذ منه – أيضاً – فيقال تصوف إذا لبس الصوف كما يقال تقمص إذا لبس المقيمس فلهذا القول وجه سائغ في الاشتقاق وهو مختار كبار العلماء من الصوفية مثل صاحب اللمع وشارح الرسالة القشيرية ومن غيرهم كإبن خلدون وابن تيمية "4".
وهناك ألفين تعريف للصوفية.. حيث يستطيع كل صوفي أن ينتهج تعريفاً خاصاً به فهناك من يرى بأن الصوفية: سلوك أخذ من منهج الرسول صلى الله عليه وسلم – وهناك من يرى بأن الصوفية: سلوك متصل بالعمل والقلب وهو سلوك يوصل إلى الله. وهناك من يري بأن التصوف علم يختص بترقيق القلوب والعقول .. وهناك من يرى بأن الصوفية توحد مع الله والكون.
والتصوف ظاهرة موجودة في جميع الأديان، والمؤمنون بها موجودون في كل مكان تختلف طرائقهم في الحياة عن بقية الخلق، فهم أكثر قدرة على التأمل وأكثر قدرة على الاستفادة من لحظات خلواتهم، ويتصفون بالصبر والمثابرة من أجل الوصول إلى الهدف وهدفهم السامي هو الوصول إلى لحظة فناء.. لحظة يسميها البوذيين (النارفانا) وتعني حالة السعادة القصوى أو منتهى الرضا والقناعة ولعلنا نستطيع القول أن اللغة العربية استطاعت أن تختزل الصوفية بمعنى عالمي ومكثف ويعني (التخلي عن الرذائل والتحلي بالفضائل.. ثم التجلي .
إن من أهم مقامات المتصوفه: الزهد، والتوكل والمحبة وهي مقامات نستطيع استخلاصها من الديوان المفتوح بين أيدينا خاصة إذا عرفنا أن الفن : محاولة من الإنسان لامتلاك تثبيت التجربة كما يمكن إعادة خلقها" 3)) ص51.
الزهد
نعرف جميعا أن الزهد ارتبط شعرياً بالشاعر الزاهد أبو العتاهية حيث ذهب إلى الإعلاء من قيم تهذيب النفس، ولا شك أن لكل إنسان عالمه الخاص به، المتوحد معه، عالمه الذي يشعر أن فيه خلاصه، وهو عالم يشعر فيه الإنسان –أحياناً– أنه متسق معه، ومنسجم مع مفرادته: الناس، الطبيعة، الكون، الحلم، الأمل، والشعر.
إن اختيار القصيدة هو في الحقيقة زُهد، لأن الإنسان كلما كان قريباً من الشعر وأخلص له نسي ملذات كثيرة، وتوحد بعالم خالٍ من الزيف والذاتية.
يقتنع الشاعر بالقليل من مقومات الحياة وذلك لأنه مشغول بالتقاط اللحظات والصور والأنفاس الطائرة في فضاءات الروح والجسد.
يستولي على الشاعر دائماً شعور بأن هناك من يشاركه خصوصيته، وهو إيحاء يضعه الله في مجاهل النفس مثل خيط من النور وعرق من الدم المضيء، ونتيجة لذلك يحس الشاعر أن عليه مسؤوليات تجاه هذا العالم.
ومن الشعراء الزهاد شاعرنا الذي رأى أن حياته لن تتسق وتمتد وترسل إشعاعها إلا إذا ساهم في البحث عن جوانب الحياة فيها تلك الجوانب التي تكنز في أعماقها أدوات النجاة للجموع.
يقول:
"الأيدي يمكن أن تحجب النور
حقا هناك من يزرعون الوباء
جرثومة.. درهماً.. غدرا أو فتنة
وما قد يدغدغ بعض الحواس
ومن حيث لا يدركون أو يدركون
يرتد سهم ذلك الوباء إلى نحرهم
فالحب حين يضاجع الأرض، والبسطاء
معتجناً الكلم بالفعل،
سيتحد الجرح ورغم المعاناة يشفى". ص11.
يقول الشاعر هنا وهو المجرب: نعم هناك أيدٍ تحاول حجب النور وربما استطاعت بعض الشيء مستخدمة الإغراءات حيناً والغدر حيناً، والإغراء بالدراهم، والغدر بالفتن، الترغيب والترهيب، بكل ما قد يضعف الإنسان ويخيفه، ولكن ما يحدث هو أن سهامهم تعود إلى نحورهم أما هو فقد زهد عن متع الحياة.
إن مفردتي "سيتحد الجرح" في نهاية المقطع السابق لا تعني شيئا قدر ما تعني أن الشاعر لا يبحث عن حل له وحده وإنما له ولمن حوله وخاصة البسطاء، والأرض التي يتيه فيها حباً.
من الزهد التنكر للذات. فالقصائد لا تتحدث عن الذات المفرد الواحدة، وإنما معظم قصائد الديوان تُغيب الذات معلية من شأن الجماعة.
"وها أنا ذا بصلابة قلب خنادقكم
في النصر وعند هزائمكم
وبسُمكِ ارتفاع أحداق أسواركم
وعند الشدائد، قشطت بسيفي الركام القديم
الجديد
فتحت نافذة المقبرة
لمخاض الربيع الآتي إليكم". ص17.
وفي مقطع آخر يقول:
"لذا قالوا إني داعي النبوة للكفر والبدعة والزندقة
لأني لفضت سموم الطوائف
مفخرة الابتزاز
حيث ترزق الآلهة من تشاء
بغير حساب
في سفرة الميمنة
وذوبت أحشاء روحي
مع البسطاء غذاء لشمع البشارة". ص16.
إن الإنسان الذي يختار الشعر طريقاً ودرباً له يعد صادقاً، فالشعر هو أن تكون ضمير الناس، والشعر هو أن تقول الحقيقة. ولعلنا قد لمسنا شكوى الشاعر مما يقوله الخصوم عنه، فهذه عادة الخصوم، وإنما يقولون ذلك لأنه زهد عن التملق لملوك الطوائف، ولمن يفخرون بالابتزاز ولكل أصحاب الثروات واختار أحشاء الروح لكي يحس من هناك ومن موقعه الزاهد بآلام الفقراء وليكون زهده عن كل الملذات غذاءً وبشارة للمستقبل.
في مقطع آخر يقول:
"فهذا الخيار
اختبار لنا وأي اختبار
شداد ما كان يوماً بأسطورة
ولا إرم ذات العماد". ص16.
إن الزهد هو في الحقيقة درجة من درجات الإيمان ومن يصل إلى هذه الدرجة يذهب إلى اختبار قواه الإيمانية. يقول لنا الشاعر: لكي نصل إلى بطولة شداد المعروف في التاريخ العربي ولكي نصل إلى (المدينة المثالية) إرم ذات العماد فعلينا أن نختبر أنفسنا وشهواتنا، وعلينا أن نزهد عن بهارج هذه الحياة الفانية.
لنتأمل هذا المقطع الذي يجسد فيه الشاعر صورة الزاهد المغني المحب الذي برحه الشوق بسبب معاناته وتقشفه، وحروبه المستمرة مع النفس والآخرين:
"بوجه أطل عليكم
بوجه ودود
براه عذاب صراع الزمان
طولاً وعرضاً". ص16.
التوكل
ليست الصوفية مرادفاً للكسل والخمول، وهي ليست الانقطاع عن الخلق في بيوت العبادة، لا. الصوفية كفاح، وعمل، وجهاد، واجتهاد... كد وسعي وسهر وعطش. إنها عمل شاق يجرب من خلاله المحب كل أهوال الحياة، للوصول إلى اللحظة الأخيرة التي ربما تكون لحظة تجربة صوفية. وهذه اللحظة تكثفت في خاتمة قصيدة "الثورة والموت والميلاد":
"عالمنا اليوم، يركض فوق صهوة خيل
نحو الشرق
يمخر عباب البحر،
يتحدى الإعصار،
يمضي ليعانق شمس الحرية الكبرى
يزرع بديلاً للعبث واليأس، والأمل الأخضر
في كل مكان ليحقق ما كان أحلاماً
ينشر بسمته في المدن والأديان
بين البسطاء، بين العشاق". ص40.
إن خيط النور، الذي يتحرك في أعماق الشاعر يقول له: توكل، اذهب إلى الناس، تفاعل مع قضاياهم، مع أحلامهم واتجاهاتهم. ولا شك أن ذلك الخيط هو نفسه الذي كان يقول له من حيث يدري ولا يدري: ساهم في تحرير بلدك من الإنجليز، قاتل مع أهلك ومحبيك وأبناء جلدتك، قاتل بالكلمة والموقف والسلاح. وكانت هذه اللحظات الإشرافية الصادقة تتناثر على شكل فعل وأداء سلوكي ومقاطع شعرية تعكس طبيعة الإنسان في تلك المرحلة.
إن التوكل الذي عنيته في هذه المادة هو أن كل قول شعري كان في الحقيقة ناتجاً عن موقف عملي جسده الشاعر في موروثه الإبداعي. ورأى وهو الزاهد المتوكل المحب أن كل شر يُوجب المواجهة. إن الكثير من المقاطع الشعرية أفصحت عن محارب ليس مقدروه سوى تحطيم المخاطر المحدقة بعالمه الصامت. وربما نستشف ذلك من تلك القصيدة التي رثى بها رفيقه عبد الله با ذيب:
"زبانية الليل يبتسمون، فهل نبكي!؟
جذلون، فهل نحزن
على من حمل الحرف الوضاء، الحرف السيف.
وحمل القلب على كتفيه ينز النور!؟". ص42.
التصوف –كما يعرفه الدكتور على الخطيب– في حقيقته إيثار وتضحية، هو نزوع فطري إلى الكمال الإنساني، والتسامي، والمعرفة.
ونجد في هذه الخلاصة شيء من الإيثار والتضحية والبحث عن الكمال.
"لكن ثقي يا حبيبتي مهما كانت أو تكن مخاوفي
ومهاما ساورني القلق بعد اليقين
ثقي بأن حبنا واعد كما تعد الرعود
وحبنا زاهر كما تعد براعم الثمر
وحبنا خالد كنور الشمس والقمر
ثقي يا حبيبتي بأن حالتي كيف ما تكون
تظلين بالنسبة إلى حبي الكبير
تظلين بالنسبة إلى نور العين". ص63.
المحبة
تناول الشعراء العرب الكبار التراث الصوفي في أعمالهم، واسقطوا مواجيدهم وأقنعتهم وأفكارهم على شخصيات صوفية بعينها ومنهم على سبيل المثال صلاح عبد الصبور في مسرحية "مأساة الحلاج"، واد ونيس في تماثلاته مع النفري، والدكتور عبدالعزيز المقالح في حواراته مع ابن عربي في "أبجدية الروح"، وعبدالوهاب البياتي في ابن الرومي، وكثيرون غيرهم.
وشاعرنا كان نتيجة لهم جميعا حين كان هو الشخصية والتجربة والقناع فقد عاش اللحظة الصوفية بتفاصيلها وعبر عنها بلواعجها وأشجانها..
ما أحوجنا اليوم إلى أن نحيي في الناس جذوة الشعر وما أحوج نخبة المثقفين والسياسيين اليوم إلى حثهم على اكتشاف جوانب المحبة التصوف في أعماقهم..
ما أحوجنا اليوم إلى أن نحيي أشعار وأفكار هذا الرجل الشاعر المتصوف المثير للجدل. وما أحوجنا إلى أن نمد جسور معارفه إلى الحق الأكاديمي الدراسي والفكري خاصة وانه قصد فيما كتبه نشر قيم المحبة والإخاء البشري والإنساني .. وفي هذا المقطع من قصيدة "كوبا" نجد أنفاس ابن عربي كانت:
تحلم بحب إنساني آخر
يكسبها دوما عمرا اخضر
لا يميز أشكال الإنسان
لا يفرق بين الألوان
يتعانق فيها الأبيض والأسود والأسمر
وما كان أمل في الغيب
حلما أشقر
أصبح غيم ضياء"ص96
يتجلى نفس ابن عربي بفلسفته الصوفية وقدرته على إثارة الجدل بدعوته الدائمة إلى حرية الخلق في العبادة والمعتقد .. يتجلى ذلك في هذا المقطع الذي كتبه شاعرنا تحت عنوان قصيدة:
منطق
الكره والخير
والحب والشر
كل الأشياء تختلط، فليس من عجب
أن النقيض بالنقيض
مرتبط لكن من لا يعي جدلا
سر الحياة ينتابه الشطط
فالحقيقة تبرز واقفة على رأسها
والحال يبدو جليا
كله غلط" ص
في مسارات المحبة ودروب الضوء يتمشى شاعرنا حاملا بين جوانحه قناعات العصفور الممتشق سيف غنائه:
العصفور الذي لا يستطيع هجر شجرته فيطير إليها ليودعها أسراره التي لا ترى
أتخفين سرك عني؟، وأسرار سرك واسمك اسمي.
النار تشعلني من جمر قلبك والبرد
يقذف بي من حزن عينيك
برد ناري
ونار سلمي.
فكيف أقيس عذابي لأجلك
ووشم عذابي بجسمك
وجسمك جسمي
هناك عادة يمنية تحضرني الآن ومفادها أننا لا نلتفت الى إبداعات شعرائنا وكتابنا منطلقين من مبدأ شائع "لا كرامة لنبي في وطنه"، وذلك لأننا نسينا اهم شروط الحياة وهي المحبة اما اذا التفت اليهم الآخرون ونبهوا الى ابداعاتهم، فإننا نفكر بإنصافهم جزئيا، وربما لا نقتنع فكيف نتنكر لأصالتنا. ومثل هذا حدث مع شاعرنا الذي تنبه الى ابداعه الآخرون وأقصيناه نحن رغم شعريته الواضحة وذوبانه الشديد وحبه لامرأة واحدة تسمى "اليمن"
يدور الزمان ويوما تحرك نحوك
توقف عندك بكل الأماني إليك يشير
يجلجل يعلن ميلادك المحتمل
حضنت الأمل وكالجمر أزهر حبي الكبير ص29
من اجل هذه المحبة الاستثنائية لنتوقف هنا لكن القصيدة المتلفعة بالوجدان تشرئب من بين جوانحنا لأننا ربما عطاشى جائعين التذكر مثل هذا العلو لأن المحبة هنا اكتملت وهي محبة خالصة يختلط فيها نفس المحب مع نفس المحبوب حتى لا يعرف المحب اين روحه من روح المحبوب، يقول:
روحي معك
تغني وتبكي تضمك دوما
وحين تحلق فيك، نحو أعالي تطير
فترعاك ليلا نهارا
قريبا بعيدا
وفيك شقلئي نعيما يصير
وقلبي يشرق منك ويغرب فيك
كدقات قلبي ومن
عمق حبي
أخاف أغار عليك
وكل الذي في يديك
جذوب طروب مثير. ص30
المحبة هي أصل جميع المقامات حسب ابن الدباغ يصل الإنسان الصوفي عبرها إلى مقامات أخرى كمقام الحرية التي ينتفي فيها الشعور بالثنائية تماما وتصير فيها الأنفاس متحدة في شهيقها وزفيرها ويتمظهر ما يسمى بالإحلال، وهذا يتجسد في:
قصيدة فكرت فيك
فكرت فيك كثيرا
احتار فكري
نظرت إليك
غريبا نظرت لذاتي
التفت فيك لمحت غرابة أمري
أدركت باني
بدونك لأوجه لي
حدقت فيك رسمتك
تغير شكلي
أصبح وجهك وجهي
مقام العشق
انه المقام الذي افتدى فيه الشاعر عبدالفتاح إسماعيل حبيبته بدمه .. النهاية الأخيرة لمعراج الجسد والبداية المهرجانية لبداية الحياة
يقول في قصيدة "آزال ولعبة الألوان":
هل يكفي ذلك ياتربة حبي؟
وها إني احمل مطرقتي، فأسي
لأحطم إبريق السم وعلب لفافات الأفيون
لأحطم هذي "الأوثان" الألوان ..
وأقدم نفسي للنار،
فلأحترق الساعة كي ينبعث آزال العصر
من الجسد المحروق، كتلة جمر
تحرق لعب الألوان وتكون اللون لترابك،
وأنا القربان". ص70
وفي مقطع آخر يظهر الشاعر المتصوف وهو في لحظة عشق يرى مالا يراه الآخرون مخترقا الزمان والمكان وفي تلك المراسيم التي يواري فيها جسد رفيقه "باذيب الثرى" في تلك اللحظة البهية يرى قامته المديدة وهي تختفي بين النهدين منطلقة إلى دورة جديدة في الحياة..
ياقلعة المجد، الحب،
ويا أغنية الخصب، يابلادي:
ابنك وضع القلب بين النهدين
وسافر
يحم في ساحات النور
بيد، عينيك، وبالأخرى رايات
حبك.
ويمثل العشق مرحت الجنون المطلق الذي يصل اليه المتصوف وقد استخدم الشاعر مفردة العشق كثيرا في هذا الديوان يقول:
من يعشق التوحد بالبحر
يعشق شواطئه الخضر". ص33
هناك سمات وملامح عامة واضحة في الديوان منها:
-ان الشاعر تمثل جدلية الحوار المتلمسة جنبات الباطن وأحراش الوجدان والشبيهة بالعذبات اللذيذة في أشعار الصوفيين التي تناجي الذات الإلهية عادة، خاصة تلك النبرة المتضمنة الشد والجذب بين حبيبين لأكلفت بينهما وقد نجد دلالة لذلك في قصيدة "السؤال"
- استخدم الشاعر الكثير من المفردات الخاصة بقاموس الصوفيين
- الصوفيون ليسوا رجالا عاديين يسهل قيادتهم والتأثير عليهم، وإنما توصلوا إلى ما هم عليه بعد مرورهم بالعديد من الإنصهارات الإيمانية وهم لا يتعبدون من الجنة أو الحصول على مكافأة وإنما من اجل المعرفة والمعرفة لديهم سعي إلى الخالق ويتجلى ذلك في قصيدة "الشك"
معذرة كيف لي أن اطمئن
وفي عمق صلب اليقين
مدى الشك
تنخر قلب اليقين
ويشتعل الشك نارا تموج في النفس
تمتد نيرانها تستكين،
وتوغل في الجذور".ص55
- يرى الصوفيون أن العناء يزول حين يذهب الفراق ويتم التوحد، وكان شاعرنا ينضر إلى وحدة الحبيبة هي المنتهى. ص32
- انعكست الثقافة الدينية في معظم قصائد الديوان وتجلت تلك النفحات في تضميناته لآيات من القرآن الكريم.
هامش:
- كولن ولسون: الشعر والتصوف، دار الآداب بيروت
- ماسنيون ومصطفى عبدالرزاق: التصوف، دار الكتاب اللبناني، 1984،
- د. على الخطيب: اتجاهات الأدب الصوفي بين الحلاج وابن عربي، دار المعارف
** هذه الورقة قدمت في الندوة التي أعدتها جماعة "إرباك وجنون" احتفاء بالشاعر الراحل.