[هذا النص أنشأه الكاتب المغربي، ادمون عمران لبمليح للمساهمة به في اللقاء الذي كان قد أعد في بيروت خلال شهر ماي الماضي (ماي ١٩٩٨)، في ذكرى اغتصاب فلسطين. وكان قد تقرر دعوة اليهود العرب للمشاركة في هذا اللقاء. فقامت صحف عربية محددة بشن حملة ضد هذه المشاركة، الشيء الذي دعا المنظمين إلى الغاء الدعوة، مضيفين بذلك الى الاجتثاث الصهيوني للذاكرة اليهودية العربية اجتثاثا آخر أشد ظلما.]
ماذا تستطيع الشهادة، وهي الهشة مثل كل ما هو بشري، القابلة للنقض في كل آن مثل صرخة مختنقة، والتي ليس بوسعها أن تمحو التآلف نهائيا، المسار الحتمي للزمن.
وإذ تطلب منا الشهادة يمكن أن يهدهدنا الوهم بأنها قادرة على أن تقدم مساهمة في إبراز حقيقة تاريخية مفترضة.
فإن نحن نظرنا إليها في هذا الأفق كنا نجازف وقد قدمناها بأن نغطس في مستنقع جدال بلا منفذ، ذلك أننا سنكتشف عندئذ إلى أي حد هي الإيديولوجية الضمنية، المتخللة لجسد الشهادة، تهدد في كل لحظة بتخريب قيمتها، أو على الأقل تنسيب مردودها.
أظن أننا حين نقبل بنقل شهادة ينبغي أن نتحمل رهان تعليق كل حكم، وترك الصوت ليقول ويقال، بالاستماع للحياة، لحياة في فرادتها الوحيدة، كيفما كانت، حاضرة في حرارة اللحظة لا منطوية في الذكرى.
يهودي عربي، عربي يهودي، هذا ما أنا عليه بطريقة تعز عن كل وصف، بدهية وجودية غير قابلة بتاتا لأي تشخيص اللهم في شكل تحصيل حاصل يضجر على المدى البعيد.
قبل بضع سنوات نشرت مجلة “الأزمنة الحديثة” (Les temps modernes) [الباريسية الشهرية التي أسسها جان بول سارتر] ملفا خاصا عن يهود شمال إفريقيا، ساهمت فيه بمقالة انصبت كلها حول الحقيقة الجوهرية التالية: يهودي مغربي، مغربي يهودي، مرتبطان بلا فكاك. هذا، إذن هو الموقف الأول الذي أثيره كعلامة أصلية لمسار كامل لكتابة ستنبت بذرتها وتأخذ هيأتها وشكلها منذ هذه اللحظة وإلى اليوم.
لنلاحظ هنا، إذا سمحتم بأن الكتابة والاشتغال على اللغة وقدراتها هو ما يوفر الوساطة، وبدون ذلك فإن تاريخ معيش كله سيظل منغلقا على افتراضاته أو حبرا على ورق. بطريقة من الطرق. إن الكتابة هي ما يسعى لسد الهوة التي حفرها الزمن، والتي تأخذ لها مسافة معينة بالعلاقة مع مجهول مهدد، وتواصل عمل الاستثمار البطيء بالهبوط إلى الداخل، هذا النمو في شكل، ما يشبه نهوض نسغ، حاملة للوجود متاهة تجربة كلية متدرجة عبر عدة كتب أو كتابات، كل واحدة منها تستجيب لضرورة معينة. إنها، أي الكتابة، تحول إلى حقيقة حية ما سيصبح فضيحة واستفزازا فاحشا بقولي، إني يهودي عربي، شأن أي تصريح آخر من هذا النوع. بل إنها بطبيعة حركتها تنجب الصورة الغريبة والمفارقة التالية: هو ذا كاتب يهودي مغربي يكتب باللغة الفرنسية، وفوق ذلك يأتي ليقول لكم أنه يهودي عربي.
وهو ما قد يدفعنا إلى التنديد بالزور، وبالتالي إلى نبذ شهادة مغشوشة وكاذبة. خداع التاريخ وخداع الكتابة معا.
والحق أن هذه المفارقة الظاهرية. هذه العقدة من الالتباسات تخفي فخا علي أن أعترف بأني وقعت فيه جزئيا.
إن لغتنا الأم، هذه التي أنجبتنا وجعلتنا ما نحن عليه، هي العربية التي تسمح لي بإثبات أني يهودي مغربي، وبالتالي، عبر توسيع الصيغة، بأنني يهودي عربي. قد لا يكون هذا أكثر من حقيقة بدهية لولا أن مسلسلا من الاستلاب قد استقر فاعلا فعله الطويل مدمرا كلية الشخصية ومحدثا تحولات و إتلافات وضياعا للأصالة. ينبغي التذكير، من باب الأولوية، بهذا الشأن الأولوي أيضا. والمتأسس تاريخيا: فطيلة قرون لم يكن لليهود المغاربة من لغة أم سوى العربية والبربرية. العربية الدارجة طبعا مع خصائص نطقها ومفرداتها وأحيانا طريقة تركيبها. وخلافا ليهود أوربا الوسطى، اليهود الاشكناز، لم يكن عندنا لا لغة اليديش، ولا العبرية، اللغة الميتة والمقدسة للدين، التي كان الأحبار يجدون صعوبة في التحدث بها وهذا إلى اليوم الذي شرعت فيه الصهيونية بصنع لغة للتواصل. وقد هيأت الظروف التاريخية لولادة مسلسل استلاب مزدوج، ففي مطلع إقرار النظام الاستعماري الفرنسي (الحماية الفرنسية للمغرب سنة 1912) قامت الإرسالية الإسرائيلية، المؤسسة الفرنسية العاملة في كل البحر المتوسط لدى جاليات اليهود السيفاراد [يهود البلاد العربية أو اليهود العرب] بفتح أبواب مدارسها في عدة مدن مغربية. وها قد وصلت هذه المؤسسة المجيدة، حاملة لمشروعها النبيل والسخي، أي نقل أنوار وحلاوة الحضارة، وفلي الرؤوس اليهودية من القمل الذي يغلي فيها منذ آلاف السنين، ولتطهر الجسد والروح، تماما كما حدث في ما بعد حين استقبلت إسرائيل المهاجرين تحت سحاب من الغبار المبيد للحشرات.
إنه المشروع النبيل القاضي بغربنة هذه الطفولة من المتوحشين، بدءا بالعمل لاقتلاع الشجرة الجميلة للغة الأم، وفتح أبواب السماء على اللغة الأجنبية الجميلة، المزينة بكل الإغراءات.
هكذا أصبح الطفل اليهودي المغربي في المدن وفي التجمعات البربرية بالأطلس ينشد المرسييز [النشيد الوطني الفرنسي].
ويحتفل بتاريخ غريب مع جهل كامل لتاريخه. وبتنا نسمع أصواتا طفولية، سجينة لكنتها الأصلية، تتلعثم ببراءة بالدرس الذي لن ينسى عن “أجدادنا الغال”. فأي احتيال هذا وتحريف لا نظير له، بهذا التمدرس الكثيف للطفولة اليهودية فيما البلد كله واقع تحت نير الجهالة الشاملة.
وكمقابل لهذا الامتياز، المضاعف بسياسة تقسيم للأمة المغربية، كان الاحتقار والإبقاء المقيت لليهودي المغربي في الشرط الاستعماري محروما من كل حرية. سينجم عن هذا الوضع شرخ عميق في صفوف الجالية اليهودية، فمن جهة ستنكب نخبة معينة على تقليد النموذج الغربي، ما استتبع التخلي عن الجلباب والطاقية مقابل دخول الفرشاة إلى المائدة العائلية، والتحدث بالفرنسية، خاصة في الخارج وتحت هاجس الخوف من خيانة تسببها اللكنة الأصلية سيستقر إحساس العار بالانتماء اليهودي. وبحكم الحداثة سيشرع في تذوق الفاكهة الممنوعة للغة والمرأة الأجنبية. وكذا في التناول بجرعات صغيرة للإلحاد ذي التقطير الفولتيري (نسبة إلى فولتير)، وسوف تراد الحداثة والتجذر الأهلي وذلك في الالتباس التام كما سيراد تقليد هؤلاء الفرنسيين الحاضرين في البلاد، سادة اللحظة. والذين ستشم عنصريتهم الأبوية بهذا القدر أو ذاك، والمصبوغة في أغلب الوقت باحتقار دفين. وبما أنه من الصعب جدا تغيير اللقب سيتم إخفاء الأسماء اليهودية الممنوحة منذ الصبا، والتسمي بأخرى تبدو أكثر ملاءمة من قبيل جاك، فليب، جان، روبير، سوزان، فرانسواز، فرانس، واللائحة طويلة إلى ما لا نهاية. ضرب من التستر على أم الفضائح، إذ لا أحد يريد أن يؤخذ متلبسا باسم قديم، وسيسجل أنه سيتم العمل في إسرائيل بالوتيرة نفسها حيث ستغير الأسماء الشخصية وأسماء العائلات القادمة من العالم العربي.
في الجانب الآخر، في الطرف الآخر من هذا الشرخ الداخلي للجالية، وبينما راح هذا النوع من النخبة يغير المشهد التقليدي للحياة اليهودية، هناك الشعب البسيط المكون من الصناع، وأصحاب الدكاكين والفلاحين أنفسهم، والأحبار، والفقراء، والكادحين أو الموسيقيين، والمطببين، والسحرة المروضين، كتاب التعاويذ. إنه هذا الشعب، القلب الجوهري لليهودية المغربية، والمركز المتوهج لهذه اليهودية ما احتقرته عجرفة المؤسسة الصهيونية وأذلته ملحقة إياه بصف عبدة أوثان وحشية زاعمة لنفسها رغبة تخليص سكان الكهوف الكفرة، هؤلاء القادمين من جبال الأطلس.
واليوم في إسرائيل نفسها ينهار الزيف، وتتبدد الخديعة إثر ظهور أعمال معتبرة قام بها باحثون مثل حاييم زعفراني مكنت من الكشف مثلا، في وادي درعة بالجنوب المغربي، عن قرابة مائة من فقهاء الثوراة أمكن إحصاء أعمالهم. وفي الأحياء اليهودية، الملاح، في مراكش خاصة، اكتشف مفكرون وفقهاء ذاع صيتهم في الآفاق. إن هذا الجسد العظيم، هذا القلب النابض للعروبة اليهودية، هذا الشعب البسيط الذي تتخفى إنسانيته الكثيفة تحت الفقر والحرمان، قاوم صدمات الحداثة المحمولة في حقائب الاستعمار، ليصبح فيما بعد الضحية التي ستنحر للتكفير عن التراجيديا التي ستنطلق ابتداء من اللحظة التي ستضع فيها الزعامة الصهيونية مخططها ل “إحراق الأرض” تحت أقدام هؤلاء اليهود العرب، وإرغامهم على التماس سبيل الهجرة المقنعة بوهم العودة.
وليس غير التراجيديا كلمة لوصف هذه الهجرة الكثيفة، التي ستؤدي إلى تدمير المجموعات اليهودية العربية.
لقد تم استئصال الساكنة اليهودية المغربية من بلادها، تاركة ممتلكاتها، وتجارتها، ومتاعها، وهذا بتحريض من عملاء الصهيونية المكلفين بهذا التهجير، والذي كان القول الفصل عندهم “لا تحملوا أي شيء”.
وهكذا، وخلال أربع وعشرين ساعة، نعم 24 ساعة فقط، أفرغت المناطق البربرية بالأطلس، تلك التي ظلت شاهدا على الحضور التاريخي لليهودية المغربية، من الرجال والنساء والأطفال وأغلبهم مازال مرتديا الزي التقليدي المغربي، وفي وقت ظل مجهولا لدى الجميع، لينقلوا في الشاحنات وسط مناحات ودموع كل السكان نحو الدار البيضاء، في انتظار الرحيل.
وتكرر المشهد المؤسي ذاته في المراكز الحضرية الكبرى، مأوى التقاليد الدينية والثقافية العظيمة، والممثلة للتراث الثقافي المغربي في مجموعه سواء في فا س او مراكش أو مدن أخرى.
لقد رحلوا منبوذين وسيصلون منبوذين، إلى أرض الميعاد ليعيش أغلبيتهم منبوذين، ونحن نعرف ما صار عليه وضع اليهود المشارقة في إسرائيل.
تراجيدية من بدايتها إلى نهايتها هذه الهجرة المطبوعة بالتمزق والآلام والمعاناة المكبوتة في صمت لم يجرؤ أحد على خرقه، والتي تجد نوعا من تشخيصها المأساوي في السفينة “بيس” (Pisces) في عرض الساحل المغربي، عند الحسيمة، باخرة مهترئة، غير صالحة للاستعمال لن تلبث أن تغرق تحت هوج العاصفة. إنه لرمز مثير ما أصبح عليه هؤلاء الموتى، الذين لفظهم البحر. هؤلاء الرجال، هؤلاء النساء والأطفال الذين يعودون إلى أرض الأجداد بعيون مغلقة على حلم أوهام ميتة.
إنها لهجرة كثيفة فلتت من كل إرادة فردية، وأي قرار أحادي. هكذا، في مدة وجيزة، وخلال بضع سنوات رحل أغلبية اليهود المغاربة، أي قرابة مائتي ألف تاركين خلفهم جالية تقلصت إلى بضعة آلاف من الأفراد يتمتعون بكامل الحقوق التي يتمتع بها اضرابهم المغاربة. ونحن نجد أن العجرفة المقيتة للقادة الإسرائيليين، في منشورات حديثة، تحتفل بنجاح عملية “الإنقاذ” هذه، موهمة ومدعية أن اليهود المغاربة كانوا عرضة لأخطار محدقة عقب استقلال المغرب. إننا نعرف استراتيجية الكذب هذه، اللصيقة بالإيديولوجية الصهيونية.
ومع البقاء في حدود هذه المداخلة أريد أن أقول بأنني وأنا أكتب القصة أو الروايات لنسمها ما نشاء، الواجدة منشأها من منطلق عمل ذي شعور كامن، طالما ظل محبوسا، لم أكف عن العيش، وفي حركة طبيعية واحدة، تدمير الجماعة اليهودية والمأساة الفلسطينية، الذين يمثلان جوهريا مظهرين لحدث واحد. إن قبر آخر يهودي في أصيلا، هذا التأمل في المقبرة البحرية، والنواة المفرخة لكل هذا المجرى الثابت. هذه الهوة التي تنفتح على ضياع لا يعوض، في الصمت الممنوح لضوء مأساة، الرافض للوقاحة ولسخرية لعنات التصريحات. صورة طفل محترق بالنابالم في سرير المستشفى، وهناك الجنون القاتل لحرب لبنان، صبرا وشاتيلا، الجسد المهشم، المدمى لكائن مفرد، الزمن يتفكك وينهار، الأرض تهتز وتهتز أيضا.
حياة شعب، الشعب اليهودي المغربي، ألف سنة عاشوها في الأرض العربية، أرضهم. عرب هم أنفسهم وفي ليلة واحدة انقطع خيط التقاليد العريق بضربة لازب.
أريد أن أضيف كلمة أخيرة، مؤقتا هي الأخيرة. منذ وقت وجيز، وخلال ندوة عقدت بالرباط حول مفهوم الأقليات الوطنية، وجدت مؤرخة فرنسية من أصل يهودي، هي باحثة جامعية محترمة ومشهود لها بكفاءتها، وجدتها تتلقى بحياد أقرب ما يكون إلى اللامبالاة، ما عبرت عنه بخصوص هذه المأساة. أظن أنها كانت تتمنى لي، وبسخرية، السكينة والمواساة في هذه المحنة. إنه التطبيع. وهذه هي الكلمة الخاصة بوضعية.
وللتاريخ أن ينام على سرير النسيان، أخرس دون القولة البشرية.
المصدر: جريدة الاتحاد الإشتراكي ليوم 6 غشت 1998، صفحة ١٢: تقارير.
ماذا تستطيع الشهادة، وهي الهشة مثل كل ما هو بشري، القابلة للنقض في كل آن مثل صرخة مختنقة، والتي ليس بوسعها أن تمحو التآلف نهائيا، المسار الحتمي للزمن.
وإذ تطلب منا الشهادة يمكن أن يهدهدنا الوهم بأنها قادرة على أن تقدم مساهمة في إبراز حقيقة تاريخية مفترضة.
فإن نحن نظرنا إليها في هذا الأفق كنا نجازف وقد قدمناها بأن نغطس في مستنقع جدال بلا منفذ، ذلك أننا سنكتشف عندئذ إلى أي حد هي الإيديولوجية الضمنية، المتخللة لجسد الشهادة، تهدد في كل لحظة بتخريب قيمتها، أو على الأقل تنسيب مردودها.
أظن أننا حين نقبل بنقل شهادة ينبغي أن نتحمل رهان تعليق كل حكم، وترك الصوت ليقول ويقال، بالاستماع للحياة، لحياة في فرادتها الوحيدة، كيفما كانت، حاضرة في حرارة اللحظة لا منطوية في الذكرى.
يهودي عربي، عربي يهودي، هذا ما أنا عليه بطريقة تعز عن كل وصف، بدهية وجودية غير قابلة بتاتا لأي تشخيص اللهم في شكل تحصيل حاصل يضجر على المدى البعيد.
قبل بضع سنوات نشرت مجلة “الأزمنة الحديثة” (Les temps modernes) [الباريسية الشهرية التي أسسها جان بول سارتر] ملفا خاصا عن يهود شمال إفريقيا، ساهمت فيه بمقالة انصبت كلها حول الحقيقة الجوهرية التالية: يهودي مغربي، مغربي يهودي، مرتبطان بلا فكاك. هذا، إذن هو الموقف الأول الذي أثيره كعلامة أصلية لمسار كامل لكتابة ستنبت بذرتها وتأخذ هيأتها وشكلها منذ هذه اللحظة وإلى اليوم.
لنلاحظ هنا، إذا سمحتم بأن الكتابة والاشتغال على اللغة وقدراتها هو ما يوفر الوساطة، وبدون ذلك فإن تاريخ معيش كله سيظل منغلقا على افتراضاته أو حبرا على ورق. بطريقة من الطرق. إن الكتابة هي ما يسعى لسد الهوة التي حفرها الزمن، والتي تأخذ لها مسافة معينة بالعلاقة مع مجهول مهدد، وتواصل عمل الاستثمار البطيء بالهبوط إلى الداخل، هذا النمو في شكل، ما يشبه نهوض نسغ، حاملة للوجود متاهة تجربة كلية متدرجة عبر عدة كتب أو كتابات، كل واحدة منها تستجيب لضرورة معينة. إنها، أي الكتابة، تحول إلى حقيقة حية ما سيصبح فضيحة واستفزازا فاحشا بقولي، إني يهودي عربي، شأن أي تصريح آخر من هذا النوع. بل إنها بطبيعة حركتها تنجب الصورة الغريبة والمفارقة التالية: هو ذا كاتب يهودي مغربي يكتب باللغة الفرنسية، وفوق ذلك يأتي ليقول لكم أنه يهودي عربي.
وهو ما قد يدفعنا إلى التنديد بالزور، وبالتالي إلى نبذ شهادة مغشوشة وكاذبة. خداع التاريخ وخداع الكتابة معا.
والحق أن هذه المفارقة الظاهرية. هذه العقدة من الالتباسات تخفي فخا علي أن أعترف بأني وقعت فيه جزئيا.
إن لغتنا الأم، هذه التي أنجبتنا وجعلتنا ما نحن عليه، هي العربية التي تسمح لي بإثبات أني يهودي مغربي، وبالتالي، عبر توسيع الصيغة، بأنني يهودي عربي. قد لا يكون هذا أكثر من حقيقة بدهية لولا أن مسلسلا من الاستلاب قد استقر فاعلا فعله الطويل مدمرا كلية الشخصية ومحدثا تحولات و إتلافات وضياعا للأصالة. ينبغي التذكير، من باب الأولوية، بهذا الشأن الأولوي أيضا. والمتأسس تاريخيا: فطيلة قرون لم يكن لليهود المغاربة من لغة أم سوى العربية والبربرية. العربية الدارجة طبعا مع خصائص نطقها ومفرداتها وأحيانا طريقة تركيبها. وخلافا ليهود أوربا الوسطى، اليهود الاشكناز، لم يكن عندنا لا لغة اليديش، ولا العبرية، اللغة الميتة والمقدسة للدين، التي كان الأحبار يجدون صعوبة في التحدث بها وهذا إلى اليوم الذي شرعت فيه الصهيونية بصنع لغة للتواصل. وقد هيأت الظروف التاريخية لولادة مسلسل استلاب مزدوج، ففي مطلع إقرار النظام الاستعماري الفرنسي (الحماية الفرنسية للمغرب سنة 1912) قامت الإرسالية الإسرائيلية، المؤسسة الفرنسية العاملة في كل البحر المتوسط لدى جاليات اليهود السيفاراد [يهود البلاد العربية أو اليهود العرب] بفتح أبواب مدارسها في عدة مدن مغربية. وها قد وصلت هذه المؤسسة المجيدة، حاملة لمشروعها النبيل والسخي، أي نقل أنوار وحلاوة الحضارة، وفلي الرؤوس اليهودية من القمل الذي يغلي فيها منذ آلاف السنين، ولتطهر الجسد والروح، تماما كما حدث في ما بعد حين استقبلت إسرائيل المهاجرين تحت سحاب من الغبار المبيد للحشرات.
إنه المشروع النبيل القاضي بغربنة هذه الطفولة من المتوحشين، بدءا بالعمل لاقتلاع الشجرة الجميلة للغة الأم، وفتح أبواب السماء على اللغة الأجنبية الجميلة، المزينة بكل الإغراءات.
هكذا أصبح الطفل اليهودي المغربي في المدن وفي التجمعات البربرية بالأطلس ينشد المرسييز [النشيد الوطني الفرنسي].
ويحتفل بتاريخ غريب مع جهل كامل لتاريخه. وبتنا نسمع أصواتا طفولية، سجينة لكنتها الأصلية، تتلعثم ببراءة بالدرس الذي لن ينسى عن “أجدادنا الغال”. فأي احتيال هذا وتحريف لا نظير له، بهذا التمدرس الكثيف للطفولة اليهودية فيما البلد كله واقع تحت نير الجهالة الشاملة.
وكمقابل لهذا الامتياز، المضاعف بسياسة تقسيم للأمة المغربية، كان الاحتقار والإبقاء المقيت لليهودي المغربي في الشرط الاستعماري محروما من كل حرية. سينجم عن هذا الوضع شرخ عميق في صفوف الجالية اليهودية، فمن جهة ستنكب نخبة معينة على تقليد النموذج الغربي، ما استتبع التخلي عن الجلباب والطاقية مقابل دخول الفرشاة إلى المائدة العائلية، والتحدث بالفرنسية، خاصة في الخارج وتحت هاجس الخوف من خيانة تسببها اللكنة الأصلية سيستقر إحساس العار بالانتماء اليهودي. وبحكم الحداثة سيشرع في تذوق الفاكهة الممنوعة للغة والمرأة الأجنبية. وكذا في التناول بجرعات صغيرة للإلحاد ذي التقطير الفولتيري (نسبة إلى فولتير)، وسوف تراد الحداثة والتجذر الأهلي وذلك في الالتباس التام كما سيراد تقليد هؤلاء الفرنسيين الحاضرين في البلاد، سادة اللحظة. والذين ستشم عنصريتهم الأبوية بهذا القدر أو ذاك، والمصبوغة في أغلب الوقت باحتقار دفين. وبما أنه من الصعب جدا تغيير اللقب سيتم إخفاء الأسماء اليهودية الممنوحة منذ الصبا، والتسمي بأخرى تبدو أكثر ملاءمة من قبيل جاك، فليب، جان، روبير، سوزان، فرانسواز، فرانس، واللائحة طويلة إلى ما لا نهاية. ضرب من التستر على أم الفضائح، إذ لا أحد يريد أن يؤخذ متلبسا باسم قديم، وسيسجل أنه سيتم العمل في إسرائيل بالوتيرة نفسها حيث ستغير الأسماء الشخصية وأسماء العائلات القادمة من العالم العربي.
في الجانب الآخر، في الطرف الآخر من هذا الشرخ الداخلي للجالية، وبينما راح هذا النوع من النخبة يغير المشهد التقليدي للحياة اليهودية، هناك الشعب البسيط المكون من الصناع، وأصحاب الدكاكين والفلاحين أنفسهم، والأحبار، والفقراء، والكادحين أو الموسيقيين، والمطببين، والسحرة المروضين، كتاب التعاويذ. إنه هذا الشعب، القلب الجوهري لليهودية المغربية، والمركز المتوهج لهذه اليهودية ما احتقرته عجرفة المؤسسة الصهيونية وأذلته ملحقة إياه بصف عبدة أوثان وحشية زاعمة لنفسها رغبة تخليص سكان الكهوف الكفرة، هؤلاء القادمين من جبال الأطلس.
واليوم في إسرائيل نفسها ينهار الزيف، وتتبدد الخديعة إثر ظهور أعمال معتبرة قام بها باحثون مثل حاييم زعفراني مكنت من الكشف مثلا، في وادي درعة بالجنوب المغربي، عن قرابة مائة من فقهاء الثوراة أمكن إحصاء أعمالهم. وفي الأحياء اليهودية، الملاح، في مراكش خاصة، اكتشف مفكرون وفقهاء ذاع صيتهم في الآفاق. إن هذا الجسد العظيم، هذا القلب النابض للعروبة اليهودية، هذا الشعب البسيط الذي تتخفى إنسانيته الكثيفة تحت الفقر والحرمان، قاوم صدمات الحداثة المحمولة في حقائب الاستعمار، ليصبح فيما بعد الضحية التي ستنحر للتكفير عن التراجيديا التي ستنطلق ابتداء من اللحظة التي ستضع فيها الزعامة الصهيونية مخططها ل “إحراق الأرض” تحت أقدام هؤلاء اليهود العرب، وإرغامهم على التماس سبيل الهجرة المقنعة بوهم العودة.
وليس غير التراجيديا كلمة لوصف هذه الهجرة الكثيفة، التي ستؤدي إلى تدمير المجموعات اليهودية العربية.
لقد تم استئصال الساكنة اليهودية المغربية من بلادها، تاركة ممتلكاتها، وتجارتها، ومتاعها، وهذا بتحريض من عملاء الصهيونية المكلفين بهذا التهجير، والذي كان القول الفصل عندهم “لا تحملوا أي شيء”.
وهكذا، وخلال أربع وعشرين ساعة، نعم 24 ساعة فقط، أفرغت المناطق البربرية بالأطلس، تلك التي ظلت شاهدا على الحضور التاريخي لليهودية المغربية، من الرجال والنساء والأطفال وأغلبهم مازال مرتديا الزي التقليدي المغربي، وفي وقت ظل مجهولا لدى الجميع، لينقلوا في الشاحنات وسط مناحات ودموع كل السكان نحو الدار البيضاء، في انتظار الرحيل.
وتكرر المشهد المؤسي ذاته في المراكز الحضرية الكبرى، مأوى التقاليد الدينية والثقافية العظيمة، والممثلة للتراث الثقافي المغربي في مجموعه سواء في فا س او مراكش أو مدن أخرى.
لقد رحلوا منبوذين وسيصلون منبوذين، إلى أرض الميعاد ليعيش أغلبيتهم منبوذين، ونحن نعرف ما صار عليه وضع اليهود المشارقة في إسرائيل.
تراجيدية من بدايتها إلى نهايتها هذه الهجرة المطبوعة بالتمزق والآلام والمعاناة المكبوتة في صمت لم يجرؤ أحد على خرقه، والتي تجد نوعا من تشخيصها المأساوي في السفينة “بيس” (Pisces) في عرض الساحل المغربي، عند الحسيمة، باخرة مهترئة، غير صالحة للاستعمال لن تلبث أن تغرق تحت هوج العاصفة. إنه لرمز مثير ما أصبح عليه هؤلاء الموتى، الذين لفظهم البحر. هؤلاء الرجال، هؤلاء النساء والأطفال الذين يعودون إلى أرض الأجداد بعيون مغلقة على حلم أوهام ميتة.
إنها لهجرة كثيفة فلتت من كل إرادة فردية، وأي قرار أحادي. هكذا، في مدة وجيزة، وخلال بضع سنوات رحل أغلبية اليهود المغاربة، أي قرابة مائتي ألف تاركين خلفهم جالية تقلصت إلى بضعة آلاف من الأفراد يتمتعون بكامل الحقوق التي يتمتع بها اضرابهم المغاربة. ونحن نجد أن العجرفة المقيتة للقادة الإسرائيليين، في منشورات حديثة، تحتفل بنجاح عملية “الإنقاذ” هذه، موهمة ومدعية أن اليهود المغاربة كانوا عرضة لأخطار محدقة عقب استقلال المغرب. إننا نعرف استراتيجية الكذب هذه، اللصيقة بالإيديولوجية الصهيونية.
ومع البقاء في حدود هذه المداخلة أريد أن أقول بأنني وأنا أكتب القصة أو الروايات لنسمها ما نشاء، الواجدة منشأها من منطلق عمل ذي شعور كامن، طالما ظل محبوسا، لم أكف عن العيش، وفي حركة طبيعية واحدة، تدمير الجماعة اليهودية والمأساة الفلسطينية، الذين يمثلان جوهريا مظهرين لحدث واحد. إن قبر آخر يهودي في أصيلا، هذا التأمل في المقبرة البحرية، والنواة المفرخة لكل هذا المجرى الثابت. هذه الهوة التي تنفتح على ضياع لا يعوض، في الصمت الممنوح لضوء مأساة، الرافض للوقاحة ولسخرية لعنات التصريحات. صورة طفل محترق بالنابالم في سرير المستشفى، وهناك الجنون القاتل لحرب لبنان، صبرا وشاتيلا، الجسد المهشم، المدمى لكائن مفرد، الزمن يتفكك وينهار، الأرض تهتز وتهتز أيضا.
حياة شعب، الشعب اليهودي المغربي، ألف سنة عاشوها في الأرض العربية، أرضهم. عرب هم أنفسهم وفي ليلة واحدة انقطع خيط التقاليد العريق بضربة لازب.
أريد أن أضيف كلمة أخيرة، مؤقتا هي الأخيرة. منذ وقت وجيز، وخلال ندوة عقدت بالرباط حول مفهوم الأقليات الوطنية، وجدت مؤرخة فرنسية من أصل يهودي، هي باحثة جامعية محترمة ومشهود لها بكفاءتها، وجدتها تتلقى بحياد أقرب ما يكون إلى اللامبالاة، ما عبرت عنه بخصوص هذه المأساة. أظن أنها كانت تتمنى لي، وبسخرية، السكينة والمواساة في هذه المحنة. إنه التطبيع. وهذه هي الكلمة الخاصة بوضعية.
وللتاريخ أن ينام على سرير النسيان، أخرس دون القولة البشرية.
المصدر: جريدة الاتحاد الإشتراكي ليوم 6 غشت 1998، صفحة ١٢: تقارير.