لم نكن نعرف ونحن صغار, في بلدتنا الكائنة هناك علي رافد النهر, من اين جاءت هذه المرأة ـ الست دميانة, فلم تكن لها عائلة أو بيت تنتمي إليه مثل كل أهل البلدة, ولم نكن نعرف عنها سوي اسمها, وانها تسللت ذات ليلة, وراقت لها الحياة.
فواصلت.. تحمل فوق رأسها كرتونة مملوءة باللب والسوداني والنبق, ترفع في الحاح شديد بواكي المناديل الورقية, في وجه من يقابلها بينما تدعو له بالتوفيق والسداد, واذ ينتهي بها المسير إلي دوار الحاج ابورواش تقتعد جداره الغربي المطل علي الزراعات, تفترش مشمعا حائلا, تعرض عليه بضاعتها, تظل طيلة النهار تشكو قسوة الزمان وغدر الأيام؟! وإذ يغشي الظلام المكان تقفل عائدة إلي عشتها المتطرفة, في طريق المقابر! والتي كانت في الاصل غرفة لطلمبات الري, اقامت علي انقاضها عشتها وكانت الست دميانة بجسدها النحيل واطرافها المعروقة وعينها الغائرتين إلي داخل رأسها المقلقس, اشبه بالدمية باربي في صورتها الاصلية؟!.. وكنا إذ ذاك, لانخلو من شقاوة بالغة وعفرته عجيبة, فلا ننفك نتشاكس معها ونجر شكلها؟! فتنطلق ثائرة, تهدد وتتوعد.. وكانت الالسنة كثيرا ما تنهرنا وتحذرنا مغبة ذلك بيد اننا كنا نضرب بكل ذلك عرض الحائط ونعاود في استمتاع؟! وكانت سهواتها المتكررة وغفواتها الدائمة, تغرينا بأن نتسلل خلسة ونلتقط في خفة بأصابعنا الرفيعة اكياس اللب والسوداني والنبق, ثم ننطلق صائحين في جلبة فتنتبه العجوز, وتهب مستشيطة تلاحقنا بأقذع الشتائم والسباب.
وكان كثيرا ما يتوق في نفوسنا ونفوس أهل البلدة, انتزاع سر تلك المرأة, وكشف مخبوء نفسها, والتي لم تبح به إلا للمقدس بدرة شماس الكنيسة, والذي لم تفلح معه شتي المحاولات للبوح, مشيرا دائما إلي السماء, إلي غضب الرب, إذا خان العهد ونبس ببنت شفة؟!
وحدث ما لم يكن في الحسبان وما لم يتوقعه أحد, وتكلمت المرأة؟!! يبد انها كانت كمن ينتوي شيئا!
وإذا تأهبت تحكي قصتها, جعلت تقبض بيد الصليب المعدني الصغير المعلق في رقبتها, وتبسط في اهتمام شديد يدها الآخري علي كرتونتها, كانت حياتي تسير كما اي فتاة, يصادفها ما يصادفها, ويعتريها ما يعتريها, لا اشكو ولا أتأفف, راضية بما قسم لي قانعة بنصيبي في هذه الدنيا, ثم توقفت للحظات لتبتلع ريقها, وتواصل: كنت اعمل مع فرقة موسيقية تجوب البلاد من شمالها لجنوبها ومن شرقها لغربها, نؤدي نجيد نكسب وكنا علي قناعة بأننا سنصل يوما ما وسنهنأ بثمار كفاحنا ونستمتع بحصاد عملنا, ننطلق هنا وهناك نلهو, نمرح, ونعب في اشتهاء, مخلفين وراء ظهورنا ادني وأقل غم؟! يبد ان كل ابتغينا ذهب سدي وضاع ادراج الرياح! اذ دهمت الفرقة أزمات مالية متتالية, لم تقو علي مواجهتها او تجاوزها, فقعدت عاجزة, حتي عن سداد مستحقاتنا المالية المقررة, فتفرقنا كل في طريق وفضلت انا البقاء هنا في بلدكم.. وكان علي ان ابحث عن عمل, اي عمل مهما كان شأنه اقتات منه.. ثم زفرت زفرة حارة موجعة, بينما طفقت تهز رأسها, تتغني بمقاطع من اغنية شعبية قديمة.
عصام الدالي
فواصلت.. تحمل فوق رأسها كرتونة مملوءة باللب والسوداني والنبق, ترفع في الحاح شديد بواكي المناديل الورقية, في وجه من يقابلها بينما تدعو له بالتوفيق والسداد, واذ ينتهي بها المسير إلي دوار الحاج ابورواش تقتعد جداره الغربي المطل علي الزراعات, تفترش مشمعا حائلا, تعرض عليه بضاعتها, تظل طيلة النهار تشكو قسوة الزمان وغدر الأيام؟! وإذ يغشي الظلام المكان تقفل عائدة إلي عشتها المتطرفة, في طريق المقابر! والتي كانت في الاصل غرفة لطلمبات الري, اقامت علي انقاضها عشتها وكانت الست دميانة بجسدها النحيل واطرافها المعروقة وعينها الغائرتين إلي داخل رأسها المقلقس, اشبه بالدمية باربي في صورتها الاصلية؟!.. وكنا إذ ذاك, لانخلو من شقاوة بالغة وعفرته عجيبة, فلا ننفك نتشاكس معها ونجر شكلها؟! فتنطلق ثائرة, تهدد وتتوعد.. وكانت الالسنة كثيرا ما تنهرنا وتحذرنا مغبة ذلك بيد اننا كنا نضرب بكل ذلك عرض الحائط ونعاود في استمتاع؟! وكانت سهواتها المتكررة وغفواتها الدائمة, تغرينا بأن نتسلل خلسة ونلتقط في خفة بأصابعنا الرفيعة اكياس اللب والسوداني والنبق, ثم ننطلق صائحين في جلبة فتنتبه العجوز, وتهب مستشيطة تلاحقنا بأقذع الشتائم والسباب.
وكان كثيرا ما يتوق في نفوسنا ونفوس أهل البلدة, انتزاع سر تلك المرأة, وكشف مخبوء نفسها, والتي لم تبح به إلا للمقدس بدرة شماس الكنيسة, والذي لم تفلح معه شتي المحاولات للبوح, مشيرا دائما إلي السماء, إلي غضب الرب, إذا خان العهد ونبس ببنت شفة؟!
وحدث ما لم يكن في الحسبان وما لم يتوقعه أحد, وتكلمت المرأة؟!! يبد انها كانت كمن ينتوي شيئا!
وإذا تأهبت تحكي قصتها, جعلت تقبض بيد الصليب المعدني الصغير المعلق في رقبتها, وتبسط في اهتمام شديد يدها الآخري علي كرتونتها, كانت حياتي تسير كما اي فتاة, يصادفها ما يصادفها, ويعتريها ما يعتريها, لا اشكو ولا أتأفف, راضية بما قسم لي قانعة بنصيبي في هذه الدنيا, ثم توقفت للحظات لتبتلع ريقها, وتواصل: كنت اعمل مع فرقة موسيقية تجوب البلاد من شمالها لجنوبها ومن شرقها لغربها, نؤدي نجيد نكسب وكنا علي قناعة بأننا سنصل يوما ما وسنهنأ بثمار كفاحنا ونستمتع بحصاد عملنا, ننطلق هنا وهناك نلهو, نمرح, ونعب في اشتهاء, مخلفين وراء ظهورنا ادني وأقل غم؟! يبد ان كل ابتغينا ذهب سدي وضاع ادراج الرياح! اذ دهمت الفرقة أزمات مالية متتالية, لم تقو علي مواجهتها او تجاوزها, فقعدت عاجزة, حتي عن سداد مستحقاتنا المالية المقررة, فتفرقنا كل في طريق وفضلت انا البقاء هنا في بلدكم.. وكان علي ان ابحث عن عمل, اي عمل مهما كان شأنه اقتات منه.. ثم زفرت زفرة حارة موجعة, بينما طفقت تهز رأسها, تتغني بمقاطع من اغنية شعبية قديمة.
عصام الدالي