عصام الدالي - تلك المرأة

لم نكن نعرف ونحن صغار‏,‏ في بلدتنا الكائنة هناك علي رافد النهر‏,‏ من اين جاءت هذه المرأة ـ الست دميانة‏,‏ فلم تكن لها عائلة أو بيت تنتمي إليه مثل كل أهل البلدة‏,‏ ولم نكن نعرف عنها سوي اسمها‏,‏ وانها تسللت ذات ليلة‏,‏ وراقت لها الحياة.

‏ فواصلت‏..‏ تحمل فوق رأسها كرتونة مملوءة باللب والسوداني والنبق‏,‏ ترفع في الحاح شديد بواكي المناديل الورقية‏,‏ في وجه من يقابلها بينما تدعو له بالتوفيق والسداد‏,‏ واذ ينتهي بها المسير إلي دوار الحاج ابورواش تقتعد جداره الغربي المطل علي الزراعات‏,‏ تفترش مشمعا حائلا‏,‏ تعرض عليه بضاعتها‏,‏ تظل طيلة النهار تشكو قسوة الزمان وغدر الأيام؟‏!‏ وإذ يغشي الظلام المكان تقفل عائدة إلي عشتها المتطرفة‏,‏ في طريق المقابر‏!‏ والتي كانت في الاصل غرفة لطلمبات الري‏,‏ اقامت علي انقاضها عشتها وكانت الست دميانة بجسدها النحيل واطرافها المعروقة وعينها الغائرتين إلي داخل رأسها المقلقس‏,‏ اشبه بالدمية باربي في صورتها الاصلية؟‏!..‏ وكنا إذ ذاك‏,‏ لانخلو من شقاوة بالغة وعفرته عجيبة‏,‏ فلا ننفك نتشاكس معها ونجر شكلها؟‏!‏ فتنطلق ثائرة‏,‏ تهدد وتتوعد‏..‏ وكانت الالسنة كثيرا ما تنهرنا وتحذرنا مغبة ذلك بيد اننا كنا نضرب بكل ذلك عرض الحائط ونعاود في استمتاع؟‏!‏ وكانت سهواتها المتكررة وغفواتها الدائمة‏,‏ تغرينا بأن نتسلل خلسة ونلتقط في خفة بأصابعنا الرفيعة اكياس اللب والسوداني والنبق‏,‏ ثم ننطلق صائحين في جلبة فتنتبه العجوز‏,‏ وتهب مستشيطة تلاحقنا بأقذع الشتائم والسباب‏.‏
وكان كثيرا ما يتوق في نفوسنا ونفوس أهل البلدة‏,‏ انتزاع سر تلك المرأة‏,‏ وكشف مخبوء نفسها‏,‏ والتي لم تبح به إلا للمقدس بدرة شماس الكنيسة‏,‏ والذي لم تفلح معه شتي المحاولات للبوح‏,‏ مشيرا دائما إلي السماء‏,‏ إلي غضب الرب‏,‏ إذا خان العهد ونبس ببنت شفة؟‏!‏
وحدث ما لم يكن في الحسبان وما لم يتوقعه أحد‏,‏ وتكلمت المرأة؟‏!!‏ يبد انها كانت كمن ينتوي شيئا‏!‏
وإذا تأهبت تحكي قصتها‏,‏ جعلت تقبض بيد الصليب المعدني الصغير المعلق في رقبتها‏,‏ وتبسط في اهتمام شديد يدها الآخري علي كرتونتها‏,‏ كانت حياتي تسير كما اي فتاة‏,‏ يصادفها ما يصادفها‏,‏ ويعتريها ما يعتريها‏,‏ لا اشكو ولا أتأفف‏,‏ راضية بما قسم لي قانعة بنصيبي في هذه الدنيا‏,‏ ثم توقفت للحظات لتبتلع ريقها‏,‏ وتواصل‏:‏ كنت اعمل مع فرقة موسيقية تجوب البلاد من شمالها لجنوبها ومن شرقها لغربها‏,‏ نؤدي نجيد نكسب وكنا علي قناعة بأننا سنصل يوما ما وسنهنأ بثمار كفاحنا ونستمتع بحصاد عملنا‏,‏ ننطلق هنا وهناك نلهو‏,‏ نمرح‏,‏ ونعب في اشتهاء‏,‏ مخلفين وراء ظهورنا ادني وأقل غم؟‏!‏ يبد ان كل ابتغينا ذهب سدي وضاع ادراج الرياح‏!‏ اذ دهمت الفرقة أزمات مالية متتالية‏,‏ لم تقو علي مواجهتها او تجاوزها‏,‏ فقعدت عاجزة‏,‏ حتي عن سداد مستحقاتنا المالية المقررة‏,‏ فتفرقنا كل في طريق وفضلت انا البقاء هنا في بلدكم‏..‏ وكان علي ان ابحث عن عمل‏,‏ اي عمل مهما كان شأنه اقتات منه‏..‏ ثم زفرت زفرة حارة موجعة‏,‏ بينما طفقت تهز رأسها‏,‏ تتغني بمقاطع من اغنية شعبية قديمة‏.‏


عصام الدالي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى