خرجت هنية وابنتها رجاء ليلة الزلزال الذي ضرب مدينة مراكش في حالة من الذعر والرعب، يجريان بلا عقل.. هرعا إلى الخارج حافيتا الأقدام، وبثياب النوم فقط.. قضيا الليلة مثل باقي الناس في شارع أحد الأحياء الفقيرة..
قلب هنية على البيت، لم تفكر في إغلاقه بالمفتاح.. سمعت من قبل بأن اللصوص ينشطون في وقت الكوارث،. يقتحمون البيوت المهدّمة ويسرقونها. طمأنتها رجاء بأن البيت لم يتهدم، ولا يوجد به ما يُغري اللصوص بسرقته..
المنزل رغم صغر مساحته، فهو كل ما ترك لها الزوج بعد وفاته.. وجدت صعوبة في البحث عن عمل شريف تعيش منه، وتصرف على ابنتها. مستواها الدراسي لا يتجاوز الابتدائي.. خرجت من المدرسة لضيق ذات اليد.. قضت كل حياتها داخل البيت لا تعرف غير الكنس والطبخ وتنظيف البيت والملابس. وبعد الزواج أضافت إلى ذلك خدمة عباس، كما تفعل باقي النساء مع أزواجهن أثناء النوم عندما ينطفئ ضوء المصابيح.
لما توفي عباس طلب منها عمها وضع الخمار، والدوام على الصلاة حتى لا تخرج رجلها من (الشواري)*.
غطت رأسها، وأقبلت على الصلاة بقلب مؤمن، ورفعت أكفها للسماء لتفتح لها باب الرزق، فلم يكتب لها القدر غير العمل بالمنازل طيلة النهار، فحمدت الله وشكرته على ما قسّم لها..
تعود في المساء منهكة لا تقدر على الوقوف.. بعض الأسر الميسورة تتعامل مع المرأة الخادمة كآلة يجب أن تعمل بلا توقف. وأقنعتها بعض المرشدات، بأن العمل بهذا الشكل، يجعل ما تتقاضاه أجرا حلالا، يضمن لها مع الخمار والصلاة مقعدا مريحا في الجنة.
منذ ثلاثة أو أربعة أيام لا حديث للناس إلا عن التضامن مع ضحايا الزلزال. غامرت بنصف يوم عمل قضته في الطابور، لتشارك في حملة التبرع بالدم. اعتقدت بأن السيدة التي تعمل عندها ستشكرها، وتقدر ما قامت به. رغم اعتذارها لصاحبة الفيلا، وتبرير غيابها، فقد غضبت منها، وخصمت لها في المساء نصف الأجر..
سمعتها في اليوم الموالي تتحدث في الهاتف مع صديقتها عن الدعم، وتتبجح بأنها تبرعت رفقة زوجها بمئات الأغطية والأفرشة، لكنها شكّت في صدق كلامها، وقالت مع نفسها:
ـ من يتبرع بكل هذا الخير لا يطمع في خصم أجرة نصف يوم لخادمة مغلوبة على أمرها، تأخرت لبعض الوقت بسبب الزحام على التبرع بالدم لفائدة جرحى الزلزال؟!
ذهبت إلى المطبخ وهي تتمتم بكلام غامض، لو سمعته سيدة البيت لطردتها من العمل:
ـ المسمومة لو تبرعت بنقطة دم لأغمي عليها، ونقلوها إلى المصحة!؟
لا تشاهد التلفزيون كثيرا. تعتقد بأنه يستهلك الكثير من الكهرباء، ثم إنها تدخل البيت مُنهكة.. بعد نصف ساعة، أو ساعة على الأكثر تسقط فوق الفراش مثل (البطانة)*..
عادت يوم عطلتها الأسبوعية من مشوار قصير إلى البيت رفقة ابنتها، رأت الناس في الطريق كالعادة مقبلين على التبرع بالألبسة والأحذية والأفرشة والمواد الغذائية وغيرها.. سألتها الطفلة الصغيرة:
ـ ماما ألن نقدم نحن أي شيء للمتضررين؟ والله أشعر بالخجل عندما أسمع الأطفال في الحي والمدرسة يتحدثون عمّا تتبرع به أسرهم ؟!
ردت هنية بانفعال:
ـ أمك تبرعت بما هو أغلى مما يتحدث عنه الأطفال .. تبرعت بدمها!
لاحظت بأن الفتاة صغيرة لم تقتنع بالجواب.. ظل السؤال يطن في أذنيها، ويقبض على صدرها مثل قطعة الثلج التي يضعها المريض بتضخم القلب.. بقيت تبحث مع نفسها عما يُمكن أن تتبرع به من غير الدم؟ الغطاء؟ لا تتوفر إلا على ما يسد الحاجة.. اللباس؟ لا يرتديان إلا الثياب القديمة التي تجود بها بعض المنازل من حين لآخر.. المواد الغذائية؟ في الكثير من الأحيان لا يتناولان غير بقايا الطعام التي تأتي به في المساء.. تذكرت شيئا واحدا لم يخطر لها على البال.. فتحت عُلبة تُخبّئها في الدولاب، وأخرجت منها خاتم الزواج الذي ظلت تحتفظ به للأيام السوداء..
عادت إلى مكان جمع التبرعات، وتقدمت رفقة طفلتها نحو أحد الشباب، وقالت:
ـ لا أملك غير هذا الخاتم، وأريد أن أتبرع به أنا وابنتي رجاء لأهلنا الذين تضرروا من الزلزال في الحوز.
وأمام تردد الشاب أضافت بتوسل:
ـ والله إنه من ذهب، يمكن أن تبيعوه، وتقتنوا بثمنه ما يحتاج إليه الناس..
مظهرها الذي يوحي بأنها في حاجة إلى المساعدة، دفع الشاب لا شعوريا إلى تقبيل رأسها ثم يدها، والطلب منها أن تُعيد الخاتم إلى أصبعها، وتعتبر نفسها كأنها تبرعت به، فالخير كثير..
لم تفهم رجاء لماذا رفض الشاب أخذ الخاتم.. أحست كمن طار من الفرح إلى السماء، ثم فجأة سقط على الأرض.
في اليوم الموالي رأت الأطفال في الحي يتناقلون شريط فيديو تظهر فيه رفقة أمها، وهي تُقدُم الخاتم لأحد الشباب، والعالم يتحدث عنهما بكل خير. ربتوا على كتفيها متمنين لو كانوا هم من يظهر في الصورة رفقة أمهاتهم. عندها أحست بدم (تمغربيت) يُحدث ذبيبا في عروقها تقشعرّ له الأبدان.
المعجم:
ـ (الشواري): حمل من الدوم يوضع على ظهر الحمار.. والتعبير هنا مجاز شعبي يدل على الانحراف بالخروج على الأعراف والتقاليد.
ـ (البطانة): جلد الغنم المغطى بالصوف الذي يفصل عن اللحم بعد ذبح الخروف.
ـ (تمغربيت): اللفظ مجاز شعبي يُطلق كل القيم النبيلة التي يمكن أن يتحلى بها المغربي، وتميزه عن غيره.
مراكش 21 أيلول 2023
قلب هنية على البيت، لم تفكر في إغلاقه بالمفتاح.. سمعت من قبل بأن اللصوص ينشطون في وقت الكوارث،. يقتحمون البيوت المهدّمة ويسرقونها. طمأنتها رجاء بأن البيت لم يتهدم، ولا يوجد به ما يُغري اللصوص بسرقته..
المنزل رغم صغر مساحته، فهو كل ما ترك لها الزوج بعد وفاته.. وجدت صعوبة في البحث عن عمل شريف تعيش منه، وتصرف على ابنتها. مستواها الدراسي لا يتجاوز الابتدائي.. خرجت من المدرسة لضيق ذات اليد.. قضت كل حياتها داخل البيت لا تعرف غير الكنس والطبخ وتنظيف البيت والملابس. وبعد الزواج أضافت إلى ذلك خدمة عباس، كما تفعل باقي النساء مع أزواجهن أثناء النوم عندما ينطفئ ضوء المصابيح.
لما توفي عباس طلب منها عمها وضع الخمار، والدوام على الصلاة حتى لا تخرج رجلها من (الشواري)*.
غطت رأسها، وأقبلت على الصلاة بقلب مؤمن، ورفعت أكفها للسماء لتفتح لها باب الرزق، فلم يكتب لها القدر غير العمل بالمنازل طيلة النهار، فحمدت الله وشكرته على ما قسّم لها..
تعود في المساء منهكة لا تقدر على الوقوف.. بعض الأسر الميسورة تتعامل مع المرأة الخادمة كآلة يجب أن تعمل بلا توقف. وأقنعتها بعض المرشدات، بأن العمل بهذا الشكل، يجعل ما تتقاضاه أجرا حلالا، يضمن لها مع الخمار والصلاة مقعدا مريحا في الجنة.
منذ ثلاثة أو أربعة أيام لا حديث للناس إلا عن التضامن مع ضحايا الزلزال. غامرت بنصف يوم عمل قضته في الطابور، لتشارك في حملة التبرع بالدم. اعتقدت بأن السيدة التي تعمل عندها ستشكرها، وتقدر ما قامت به. رغم اعتذارها لصاحبة الفيلا، وتبرير غيابها، فقد غضبت منها، وخصمت لها في المساء نصف الأجر..
سمعتها في اليوم الموالي تتحدث في الهاتف مع صديقتها عن الدعم، وتتبجح بأنها تبرعت رفقة زوجها بمئات الأغطية والأفرشة، لكنها شكّت في صدق كلامها، وقالت مع نفسها:
ـ من يتبرع بكل هذا الخير لا يطمع في خصم أجرة نصف يوم لخادمة مغلوبة على أمرها، تأخرت لبعض الوقت بسبب الزحام على التبرع بالدم لفائدة جرحى الزلزال؟!
ذهبت إلى المطبخ وهي تتمتم بكلام غامض، لو سمعته سيدة البيت لطردتها من العمل:
ـ المسمومة لو تبرعت بنقطة دم لأغمي عليها، ونقلوها إلى المصحة!؟
لا تشاهد التلفزيون كثيرا. تعتقد بأنه يستهلك الكثير من الكهرباء، ثم إنها تدخل البيت مُنهكة.. بعد نصف ساعة، أو ساعة على الأكثر تسقط فوق الفراش مثل (البطانة)*..
عادت يوم عطلتها الأسبوعية من مشوار قصير إلى البيت رفقة ابنتها، رأت الناس في الطريق كالعادة مقبلين على التبرع بالألبسة والأحذية والأفرشة والمواد الغذائية وغيرها.. سألتها الطفلة الصغيرة:
ـ ماما ألن نقدم نحن أي شيء للمتضررين؟ والله أشعر بالخجل عندما أسمع الأطفال في الحي والمدرسة يتحدثون عمّا تتبرع به أسرهم ؟!
ردت هنية بانفعال:
ـ أمك تبرعت بما هو أغلى مما يتحدث عنه الأطفال .. تبرعت بدمها!
لاحظت بأن الفتاة صغيرة لم تقتنع بالجواب.. ظل السؤال يطن في أذنيها، ويقبض على صدرها مثل قطعة الثلج التي يضعها المريض بتضخم القلب.. بقيت تبحث مع نفسها عما يُمكن أن تتبرع به من غير الدم؟ الغطاء؟ لا تتوفر إلا على ما يسد الحاجة.. اللباس؟ لا يرتديان إلا الثياب القديمة التي تجود بها بعض المنازل من حين لآخر.. المواد الغذائية؟ في الكثير من الأحيان لا يتناولان غير بقايا الطعام التي تأتي به في المساء.. تذكرت شيئا واحدا لم يخطر لها على البال.. فتحت عُلبة تُخبّئها في الدولاب، وأخرجت منها خاتم الزواج الذي ظلت تحتفظ به للأيام السوداء..
عادت إلى مكان جمع التبرعات، وتقدمت رفقة طفلتها نحو أحد الشباب، وقالت:
ـ لا أملك غير هذا الخاتم، وأريد أن أتبرع به أنا وابنتي رجاء لأهلنا الذين تضرروا من الزلزال في الحوز.
وأمام تردد الشاب أضافت بتوسل:
ـ والله إنه من ذهب، يمكن أن تبيعوه، وتقتنوا بثمنه ما يحتاج إليه الناس..
مظهرها الذي يوحي بأنها في حاجة إلى المساعدة، دفع الشاب لا شعوريا إلى تقبيل رأسها ثم يدها، والطلب منها أن تُعيد الخاتم إلى أصبعها، وتعتبر نفسها كأنها تبرعت به، فالخير كثير..
لم تفهم رجاء لماذا رفض الشاب أخذ الخاتم.. أحست كمن طار من الفرح إلى السماء، ثم فجأة سقط على الأرض.
في اليوم الموالي رأت الأطفال في الحي يتناقلون شريط فيديو تظهر فيه رفقة أمها، وهي تُقدُم الخاتم لأحد الشباب، والعالم يتحدث عنهما بكل خير. ربتوا على كتفيها متمنين لو كانوا هم من يظهر في الصورة رفقة أمهاتهم. عندها أحست بدم (تمغربيت) يُحدث ذبيبا في عروقها تقشعرّ له الأبدان.
المعجم:
ـ (الشواري): حمل من الدوم يوضع على ظهر الحمار.. والتعبير هنا مجاز شعبي يدل على الانحراف بالخروج على الأعراف والتقاليد.
ـ (البطانة): جلد الغنم المغطى بالصوف الذي يفصل عن اللحم بعد ذبح الخروف.
ـ (تمغربيت): اللفظ مجاز شعبي يُطلق كل القيم النبيلة التي يمكن أن يتحلى بها المغربي، وتميزه عن غيره.
مراكش 21 أيلول 2023