في هذا النص الموسوم ب( انتحار ) حاول الكاتب الاستاذ الاديب المصري صابر حجازي ربط الظواهر المجتمعية وتدني المستوى الاقتصادي بسيكولوجية الفرد وسلوكياته .. لذا يمكن تصنيف النص ضمن
ادب ( القصة السيكولوجية ) ..ويمكن اعتباره ادبا واقعيا .. فهو مرآة للواقع الاجتماعي قد طرح دون رتوش او تزويق ..
لقد عرف العالم القصة النفسية في بدايات القرن العشرين ، القصة التي تسمى في الأدب الانكليزي بالقصة الانسيابية او قصة تيار الوعي
و اطلق على هذا النوع من الادب في فرنسا بالقصة التحليلية حيث انها تنقل الاجواء الذهنية والاضطرابات النفسية إلى القارئ دون الحاجة إلى الوصف الظاهري ..
وبمعنى اخر نقل ما هو ظاهري الى ما هو الباطني ( حيث يكون التبئير داخليا ) .
و من رواد القصة النفسية مارسيل بروست ، ودوروثي ريتشاردسون والكاتب الايرلندي جيمس جويس ..
،
- النص
..............
انتـــحار
ان القتل هو اسهل وسيلة لحل كافة المشكلات ، فهو نهاية وتصفية لكل الحسابات والمعادلات المعلقة ، لانة قاطع ونهائي .
بحثت في كل زوايا الغرفة عن ( سكين ) ، دون جدوى ، انة امر محير ، وشئ جديربان يكون مفاجاة ، كل هذة السنوات وانا لا املك ( سكين ) نهائيا..! , وكيف لم افكر في ذلك من قبل ؟، ليس مهم ، اذن لا داعي لتلك الطريقة.
هذا هو ( وابور الجاز )وسكب ما فية من كيروسين يكفي لتحويل هذا الجسد الي شئ متفحم تماما ، ثم انة يلتهم كل ما حولة ايضا ، فلا يبقي اثر لشئ ، ..نعم هكذا..افرغ كل الكيروسين علي جسدى في هدوء ، ولكن رائحتة نفاذة ، ليس مهم ، لابد من اغراق الراس ، والاكتاف ، وكل الملابس بالكامل ، اذن كلة تمام .
- تمام ياافندم
ضحكت من نفسي فانة الببغاء الذى بداخلي ، فما ان يسمع (كلة تمام ) ، ..فينطلق ..( تمام يا افندم )..ثم تحولت الي ( تمام سيادتك ) و (تمام يابية ) و (تمام ياباشا ) اين الكبريت..يالي من مهمل ، نعم مهمل تماما ، اين وضعت الكبريت ، ها..هو..ياخبر انه عود واحد..،ليس مهم ، فهو سيؤدى المطلوب ، أرجوك إشتعل .. أرجوك إشتعل، يانهار انه يرفض .. بل ان رأسه طارت فى الهواء ، ماذا أفعل .. ؟ .
-حتى الموت يرفضنى
لاأدرى اين سمعت تلك العبارة ، المهم ..لابد من حل سريع فأن رائحة الكيروسين هذه لا تحتمل ، يا لى من غبى ، هذا الحبل فى يدى طوال الوقت ، لماذا لم أفكر فى ذلك ، هذا كل ما أريده ، هكذا فى السقف بين ألواح الخشب ، فى المنتصف تمامأ ، إن الظروف تساعدنى ، وهكذا هو الكرسى المتهالك .. وتلك هى دائرة على مقاس رقبتى، كله تمام ..
-تمام يا أفندم
ضحكت ، أجمل شئ ان تضحك فى تلك المواقف ، لحظات وينتهى كل شئ .
إرتطام وأصوات إنهيار .. وجلبة شديدة - يا خبر- .. لقد إنهار السقف بعدما قذفت الكرسى من أسفل أقدامى ، إن صاحب الغرفة سوف يجن ، ألا يكفى اننى لم ادفع الايجار له منذ ثلاثة شهور حتى اهدم له سقف الغرفة .
لابد من الهروب من هنا الى الشارع ،على الاقل سوف اتغلب على رائحة الكيروسين هذه ، يالها من فكرة.. إذاً الى البحر ، نعم ، وفيه سوف ينتهى كل شئ ..
أضواء تلك السيارة قوية جداً ..
-انت ..انت..يا فندى
-نعم..انا
-نعم انت.. الى اين تذهب فى هذه الساعة المتأخرة من الليل
-ابداً.. انا انا
-هل معك (بطاقة)
- (بطاقة) أصل انا
-إذن اركب ..اركب
-يا (خليل) ..ماذا يحدث عندك
-لا..يا فندم.. هذا واحد إشتباه
-طيب.. دعه يركب (البوكس)
-حدث يا أفندم
-اذا، هيا بنا ، ويكفى ذلك اليوم، هيا تحرك لنعد الى القسم
-حاضر يا فندم ، كله تمام سيادتك
وجدت نفسى من داخل (البوكس) اصرخ :-
-تمام يا فندم
-------------------------------------------------------
تنويه: بعض العبارات وردت باللهجة الدارجة المصرية ... شكرا لتفهم الجميع..
------------------------------------
: الدراسة
.....................
انتـــحار
العنوان ( عتبة النص الأولى )
لقد جاء العنوان فاضح لمحتوى النص حيث انه في حالة توافق مع مضمونه ..و بذا ادخل النص بالمباشرة المقصودة .. دون أن يعطي للقارئ فرصة التأويل أو محاولة إيجاد روابط مع المضمون ..
و الانتحار في قاموس المعاني قيام الإنسان بقتل نفسه بوعي أو بدون وعي ، أو هو الفعل المقصود لقتل النفس أو زهق الرُّوح عن سابق تصميم ،وهو في الموسوعة الحرة (قتل النفس بشكل متعمد )
يقدم الشخص على الانتحار عادة بسبب تفاقم الضغوط الخارجية والصراعات النفسية الباطنية التي تقود الانسان إلى حالة من اليأس والنكوص والشعور بالاضطراب والخوف ، و تلعب حالات العوز المادي والاقتصادي واحدة من الأسباب التي تقود الإنسان إلى جريمة الانتحار .. غير ان اغلب حالات الانتحار هي بسبب الاضطرابات النفسية الناتجة من القلق والوسواس القسري والفصام بالشخصية ، والهوس الاكتئابي
وحسب احصائيات منظمة الصحة العالمية (إن الدول ذات الدخل المنخفض وذات الدخل المتوسط فيها نسبة انتحار اعلى من الدول ذات الدخل العالي ..)
في نص انتحار تبدو شخصية البطل متناقضة ظاهريا مع ما يلتزم به المجتمع من تقاليد واعراف لكنه في الوقت ذاته إفراز لطبيعة المجتمع ،لذا فان النص يمكن تناوله بالتحليل السيكولوجي من جانب .. او محاولة تحليله كظاهرة اجتماعية سلبية من جانب آخر
.. ولكني سأتناول النص من خلال الربط ما بين الحالة الاجتماعية والظواهر السلوكية الفردية .. فالسلوك الفردي يؤثر على طبيعة المجتمع ، ويؤثر المجتمع بشكل اكبر على سلوكية الفرد ..
استهلال النص
(( ان القتل هو اسهل وسيلة لحل كافة المشكلات ، فهو نهاية وتصفية لكل الحسابات والمعادلات المعلقة ، لأنه قاطع ونهائي .))
والاستهلال هي المسارات التي يختارها الكاتب للبدء بكتابة أي نص والتي تنطلق من نقطة السكون الكامنة في مخيلته ولحظة الشروع بالكتابة وقد تحدث تغيرات في كتابة الاستهلال بما ويتفق وقناعة القاص في تحديد بداياته السردية ، ويعتبر الاستهلال العتبة الثانية التي يجب أن تكون قادرة على خلق حالة من التشويق والإثارة لجذب القارئ
يبدا النص بفاتحة تقريرية يخبرنا فيها البطل عن الفوائد التي يمكن أن نجنيها من الانتحار ، رغم أنه جاء بمفردة ( القتل ) أما استدراكا من الكاتب بوضع نوع من الغموض على البداية حتى لا يقع بالمباشرة أو إن المقصود هو قتل النفس ..
وهو خطاب داخلي موجه لذات السارد وليس للقارئ فهذه هي قناعته وهو مؤمن بان هذا هو الحل الحقيقي للتخلص من مصاعبه ،
الفرد في حالة استقراره النفسي وفي حالة ان يكون قادرا على مواجهة الشدائد والتصدي لها غير مؤمن بمثل هذه النهايات المأساوية فهو يرى في الموت حالة جرمية من الناحية القانونية وهي محرمة في معظم الاديان .. و الانسان الطبيعي بطبيعته متشبث بالحياة و يميل إلى البحث عن اسباب بقاءه واطالة عمره لا اماتة نفسه ..
في نص انتحار هيء الكاتب ارضية مناسبة لشد القارئ من خلال الحوار الداخلي ..
والذي جاء إلينا بلغة الأنا ( المنولوج ) وهو اسلوب يستطيع من خلاله الكاتب جعل القارئ عارفا بحالة البطل ودوافعه النفسية (حالة التشظي المصحابة للشخصية والصراعات التي يعيشها من الداخل ) .
وهي لغة صعبة لا يمكن أن يفلت القاص من شراكها وفخاخها . خصوصا عند التعامل بموضوعية مع البطل والتعاطي معه كشخصية تمر في حالة صراع واصطدام مع المحيط الخارجي الذي يحيط به ..
السرد من خلال( الحوار مع الذات ) اسلوب يعطي القاص مساحة اكبر للتعريف بسيكولوجية ابطاله . وهو اسلوب يجعل البناء القصص اكثر تماسكا .. و يعطي القارئ إمكانية التفاعل معه بشكل اكبر نتيجة الجذب الحاصل ..
في النص تمر الأحداث بشكل متسارع انتقالات سريعة تسير تبعا لتطور الصراعات الداخلية لشخصية البطل ( فهناك اختيار صعب ) أي شكل من اشكال الموت يختار ( حرق نفسه بالجاز ، قتل نفسه بالسكين ، شنق نفسه بالحبل ، او إغراقها في البحر .. وكلها اختيارات صعبة ، و لكن الموت لم يتحقق كوسيلة للخلاص دائما تقف الصدفة حائلا دون تحقيق مبتغاه ..
شخصية البطل
رغم ان القاص لم يعطنا أي معلومات عن حياة بطله لكن الدلالات الايحائية الذكية كشفت لنا جوانب كثيرة من شخصيته .. ومن هذه الجوانب
1. لم تكن هناك شخصية اخرى تشارك البطل همومه فهو وحيدا في بيت خاو بلا زوجة ولا عائلة يمكنها أن تحمل بعض همومه اوهي الرابط الذي يربطه بالحياة .. فحياته مهمشة ، وبصيص الامل لديه منقطع ..
2. انه رجل كان يعمل ( شرطي ، او عسكري ) ربما قضى عمرا طويلا في سلك الشرطة ، فمن غير المعقول أن يسلمنا الكاتب إلى انتقالات زمانية ولو جاءت على شكل إيحائي دون قصدية أي بشكل اعتباطي ،
لذا فان البطل يمكن أن يكون قد عاصر التطورات والتغيرات التي شهدتها المؤسسة الامنية في مصر ، فكل فترة زمنية او تحول سياسي تتغير طريقة الاجابة في الاعراف والنظم العسكرية على الاستفسار الصادر من الضابط أو الشخص المسؤول مقرونة بكلمة تمام .. ( كله تمام ) .
((ضحكت من نفسي فانة الببغاء الذى بداخلي ، فما ان يسمع (كلة تمام ) ، ..فينطلق ..( تمام يا افندم )..ثم تحولت الي ( تمام سيادتك ) و (تمام يابية ) و (تمام يا باشا ) ))
وهنا يوضح لنا أنه كان مخلصا في عمله ومتعلقا به و من النوع الذي يؤدي واجبه على اكمل وجه .
3. أنه شخص غريب الاطوار ..فهو لا يحتاج السكين ( ضمن احتياجاته اليومية ) في تقطيع الفواكه او اللحوم ، فهو تلميح ذكي إلى أنه أما كان يعتمد على المساعدات التي تأتي إليه من الجيران في اكل طعامه أو انه يعتمد الطعام الجاهز الرخيص الثمن .او ربما كان يلتقط طعامه من القمامة .للدلالة على فقره المدقع ..
((بحثت في كل زوايا الغرفة عن ( سكين ) ، دون جدوى ، أنه امر محير ، وشيء جدير بان يكون مفاجأة ، كل هذه السنوات وانا لا املك ( سكين ) نهائيا..! ))
4. الشرطي الذي ابلغ عنه بانه شخص مشتبه به هو البطل ذاته فقد كان فيما مضى يبحث عن اولئك الضالين من الفقراء والمساكين الضالين طريق الاستقرار ، ليودعهم في المعتقل .. (بتهمة الاشتباه )
لم يقل الكاتب ذلك مباشرة لكنه أعطى القارئ القدرة على الاستنباط .. والتكهن عما كان عليه بطله
فهو يعيش حالة نكوص وحنين نحو الماضي ، فتمام يا فندي تستحضر حالة الرضا في داخله وهي حالة شعور بالاكتفاء والاستقرار المادي التي كان يعيشها قبل ، فتلك الاستدعاءات الباطنية .. تجدها حاضرة كلما سمع (كلمة كله تمام ) ..
اسباب الانتحار حسب رؤيا الكاتب
ان السبب الرئيسي لمحاولة الانتحار هو الحالة الاقتصادية والفقر المدقع الذي يعيشه البطل ، فرغم انه كان يسكن في ( عشه ) قد لا تصلح لإيواء البشر الا إنه كان غير قادرا على دفع الإيجار حتى وإن كان زهيدا ..وكنوع من الكوميديا السوداء ، فالبطل الساعي إلى قتل نفسه تجده يخاف من سطوة صاحب الغرفة التي يعيش فيها .. فيهرب من الدار ، ما أن تهدم السقف في محاولته الفاشلة بشنق نفسه بالحبل فهو لا يحتمل أن ان يضاف عبئا على اعبائه الكثيرة التي ينوا بها ، إن مثل هذه التراجيديا قد تتكرر في كل مكان من ارجاء وطننا العربي الذي يطفو على بحر من الخيرات لكن الانسان فيه مهمش ، فكل أدواء المجتمع هو مبتلى بها تلك ( الأمراض العضال ) التي لم تفارقنا ( الفقر ، والمرض ، والجهل ) .
إن الكاتب ارتقى سلم الابداع و التمييز من خلال اسلوبه الواقعي السلس ، ومن خلال افراده لحالة اجتماعية إنسانية اصبحت من الظواهر السلبية التي تؤثر على المجتمعات وتعد من اسباب تدني مستواها الاقتصادي ، وهي صرخة مؤلمة بوجه الحكومات التي ما عادت تهتم بالفقير ، ولعل قمة الابداع تكمن في تلك العبارات التي جاءت تحمل في داخلها تهكم قاس ..
(ألا يكفى انني لم ادفع الايجار له منذ ثلاثة شهور حتى اهدم له سقف الغرفة .)
ترك الكاتب النهاية مفتوحة لم يعطنا مفاتيح للحل .. يا ترى هل سيستمر البطل في محاولات الانتحار ؟ ، أم إن إيداعه السجن هو الحل الأمثل لهؤلاء المعدمين .؟ .
اعتقد إن قراءة نص مثل هذا رغم سلاسته ظاهريا ، إلا إنه يتطلب قراءة معمقة و يتطلب وعي وادراك متميز من قبل القارئ .. فهو يحمل اكثر من دلالة ، وإن عمقه يكمن في قدرته على إيصال افكار الكاتب دون تعقيد او تصنع فالمغيب هو صوت الادانة المراد الإعلان عنه ..
...........................
سالم الحميد\ قاص وناقدعراقي
ادب ( القصة السيكولوجية ) ..ويمكن اعتباره ادبا واقعيا .. فهو مرآة للواقع الاجتماعي قد طرح دون رتوش او تزويق ..
لقد عرف العالم القصة النفسية في بدايات القرن العشرين ، القصة التي تسمى في الأدب الانكليزي بالقصة الانسيابية او قصة تيار الوعي
و اطلق على هذا النوع من الادب في فرنسا بالقصة التحليلية حيث انها تنقل الاجواء الذهنية والاضطرابات النفسية إلى القارئ دون الحاجة إلى الوصف الظاهري ..
وبمعنى اخر نقل ما هو ظاهري الى ما هو الباطني ( حيث يكون التبئير داخليا ) .
و من رواد القصة النفسية مارسيل بروست ، ودوروثي ريتشاردسون والكاتب الايرلندي جيمس جويس ..
،
- النص
..............
انتـــحار
ان القتل هو اسهل وسيلة لحل كافة المشكلات ، فهو نهاية وتصفية لكل الحسابات والمعادلات المعلقة ، لانة قاطع ونهائي .
بحثت في كل زوايا الغرفة عن ( سكين ) ، دون جدوى ، انة امر محير ، وشئ جديربان يكون مفاجاة ، كل هذة السنوات وانا لا املك ( سكين ) نهائيا..! , وكيف لم افكر في ذلك من قبل ؟، ليس مهم ، اذن لا داعي لتلك الطريقة.
هذا هو ( وابور الجاز )وسكب ما فية من كيروسين يكفي لتحويل هذا الجسد الي شئ متفحم تماما ، ثم انة يلتهم كل ما حولة ايضا ، فلا يبقي اثر لشئ ، ..نعم هكذا..افرغ كل الكيروسين علي جسدى في هدوء ، ولكن رائحتة نفاذة ، ليس مهم ، لابد من اغراق الراس ، والاكتاف ، وكل الملابس بالكامل ، اذن كلة تمام .
- تمام ياافندم
ضحكت من نفسي فانة الببغاء الذى بداخلي ، فما ان يسمع (كلة تمام ) ، ..فينطلق ..( تمام يا افندم )..ثم تحولت الي ( تمام سيادتك ) و (تمام يابية ) و (تمام ياباشا ) اين الكبريت..يالي من مهمل ، نعم مهمل تماما ، اين وضعت الكبريت ، ها..هو..ياخبر انه عود واحد..،ليس مهم ، فهو سيؤدى المطلوب ، أرجوك إشتعل .. أرجوك إشتعل، يانهار انه يرفض .. بل ان رأسه طارت فى الهواء ، ماذا أفعل .. ؟ .
-حتى الموت يرفضنى
لاأدرى اين سمعت تلك العبارة ، المهم ..لابد من حل سريع فأن رائحة الكيروسين هذه لا تحتمل ، يا لى من غبى ، هذا الحبل فى يدى طوال الوقت ، لماذا لم أفكر فى ذلك ، هذا كل ما أريده ، هكذا فى السقف بين ألواح الخشب ، فى المنتصف تمامأ ، إن الظروف تساعدنى ، وهكذا هو الكرسى المتهالك .. وتلك هى دائرة على مقاس رقبتى، كله تمام ..
-تمام يا أفندم
ضحكت ، أجمل شئ ان تضحك فى تلك المواقف ، لحظات وينتهى كل شئ .
إرتطام وأصوات إنهيار .. وجلبة شديدة - يا خبر- .. لقد إنهار السقف بعدما قذفت الكرسى من أسفل أقدامى ، إن صاحب الغرفة سوف يجن ، ألا يكفى اننى لم ادفع الايجار له منذ ثلاثة شهور حتى اهدم له سقف الغرفة .
لابد من الهروب من هنا الى الشارع ،على الاقل سوف اتغلب على رائحة الكيروسين هذه ، يالها من فكرة.. إذاً الى البحر ، نعم ، وفيه سوف ينتهى كل شئ ..
أضواء تلك السيارة قوية جداً ..
-انت ..انت..يا فندى
-نعم..انا
-نعم انت.. الى اين تذهب فى هذه الساعة المتأخرة من الليل
-ابداً.. انا انا
-هل معك (بطاقة)
- (بطاقة) أصل انا
-إذن اركب ..اركب
-يا (خليل) ..ماذا يحدث عندك
-لا..يا فندم.. هذا واحد إشتباه
-طيب.. دعه يركب (البوكس)
-حدث يا أفندم
-اذا، هيا بنا ، ويكفى ذلك اليوم، هيا تحرك لنعد الى القسم
-حاضر يا فندم ، كله تمام سيادتك
وجدت نفسى من داخل (البوكس) اصرخ :-
-تمام يا فندم
-------------------------------------------------------
تنويه: بعض العبارات وردت باللهجة الدارجة المصرية ... شكرا لتفهم الجميع..
------------------------------------
: الدراسة
.....................
انتـــحار
العنوان ( عتبة النص الأولى )
لقد جاء العنوان فاضح لمحتوى النص حيث انه في حالة توافق مع مضمونه ..و بذا ادخل النص بالمباشرة المقصودة .. دون أن يعطي للقارئ فرصة التأويل أو محاولة إيجاد روابط مع المضمون ..
و الانتحار في قاموس المعاني قيام الإنسان بقتل نفسه بوعي أو بدون وعي ، أو هو الفعل المقصود لقتل النفس أو زهق الرُّوح عن سابق تصميم ،وهو في الموسوعة الحرة (قتل النفس بشكل متعمد )
يقدم الشخص على الانتحار عادة بسبب تفاقم الضغوط الخارجية والصراعات النفسية الباطنية التي تقود الانسان إلى حالة من اليأس والنكوص والشعور بالاضطراب والخوف ، و تلعب حالات العوز المادي والاقتصادي واحدة من الأسباب التي تقود الإنسان إلى جريمة الانتحار .. غير ان اغلب حالات الانتحار هي بسبب الاضطرابات النفسية الناتجة من القلق والوسواس القسري والفصام بالشخصية ، والهوس الاكتئابي
وحسب احصائيات منظمة الصحة العالمية (إن الدول ذات الدخل المنخفض وذات الدخل المتوسط فيها نسبة انتحار اعلى من الدول ذات الدخل العالي ..)
في نص انتحار تبدو شخصية البطل متناقضة ظاهريا مع ما يلتزم به المجتمع من تقاليد واعراف لكنه في الوقت ذاته إفراز لطبيعة المجتمع ،لذا فان النص يمكن تناوله بالتحليل السيكولوجي من جانب .. او محاولة تحليله كظاهرة اجتماعية سلبية من جانب آخر
.. ولكني سأتناول النص من خلال الربط ما بين الحالة الاجتماعية والظواهر السلوكية الفردية .. فالسلوك الفردي يؤثر على طبيعة المجتمع ، ويؤثر المجتمع بشكل اكبر على سلوكية الفرد ..
استهلال النص
(( ان القتل هو اسهل وسيلة لحل كافة المشكلات ، فهو نهاية وتصفية لكل الحسابات والمعادلات المعلقة ، لأنه قاطع ونهائي .))
والاستهلال هي المسارات التي يختارها الكاتب للبدء بكتابة أي نص والتي تنطلق من نقطة السكون الكامنة في مخيلته ولحظة الشروع بالكتابة وقد تحدث تغيرات في كتابة الاستهلال بما ويتفق وقناعة القاص في تحديد بداياته السردية ، ويعتبر الاستهلال العتبة الثانية التي يجب أن تكون قادرة على خلق حالة من التشويق والإثارة لجذب القارئ
يبدا النص بفاتحة تقريرية يخبرنا فيها البطل عن الفوائد التي يمكن أن نجنيها من الانتحار ، رغم أنه جاء بمفردة ( القتل ) أما استدراكا من الكاتب بوضع نوع من الغموض على البداية حتى لا يقع بالمباشرة أو إن المقصود هو قتل النفس ..
وهو خطاب داخلي موجه لذات السارد وليس للقارئ فهذه هي قناعته وهو مؤمن بان هذا هو الحل الحقيقي للتخلص من مصاعبه ،
الفرد في حالة استقراره النفسي وفي حالة ان يكون قادرا على مواجهة الشدائد والتصدي لها غير مؤمن بمثل هذه النهايات المأساوية فهو يرى في الموت حالة جرمية من الناحية القانونية وهي محرمة في معظم الاديان .. و الانسان الطبيعي بطبيعته متشبث بالحياة و يميل إلى البحث عن اسباب بقاءه واطالة عمره لا اماتة نفسه ..
في نص انتحار هيء الكاتب ارضية مناسبة لشد القارئ من خلال الحوار الداخلي ..
والذي جاء إلينا بلغة الأنا ( المنولوج ) وهو اسلوب يستطيع من خلاله الكاتب جعل القارئ عارفا بحالة البطل ودوافعه النفسية (حالة التشظي المصحابة للشخصية والصراعات التي يعيشها من الداخل ) .
وهي لغة صعبة لا يمكن أن يفلت القاص من شراكها وفخاخها . خصوصا عند التعامل بموضوعية مع البطل والتعاطي معه كشخصية تمر في حالة صراع واصطدام مع المحيط الخارجي الذي يحيط به ..
السرد من خلال( الحوار مع الذات ) اسلوب يعطي القاص مساحة اكبر للتعريف بسيكولوجية ابطاله . وهو اسلوب يجعل البناء القصص اكثر تماسكا .. و يعطي القارئ إمكانية التفاعل معه بشكل اكبر نتيجة الجذب الحاصل ..
في النص تمر الأحداث بشكل متسارع انتقالات سريعة تسير تبعا لتطور الصراعات الداخلية لشخصية البطل ( فهناك اختيار صعب ) أي شكل من اشكال الموت يختار ( حرق نفسه بالجاز ، قتل نفسه بالسكين ، شنق نفسه بالحبل ، او إغراقها في البحر .. وكلها اختيارات صعبة ، و لكن الموت لم يتحقق كوسيلة للخلاص دائما تقف الصدفة حائلا دون تحقيق مبتغاه ..
شخصية البطل
رغم ان القاص لم يعطنا أي معلومات عن حياة بطله لكن الدلالات الايحائية الذكية كشفت لنا جوانب كثيرة من شخصيته .. ومن هذه الجوانب
1. لم تكن هناك شخصية اخرى تشارك البطل همومه فهو وحيدا في بيت خاو بلا زوجة ولا عائلة يمكنها أن تحمل بعض همومه اوهي الرابط الذي يربطه بالحياة .. فحياته مهمشة ، وبصيص الامل لديه منقطع ..
2. انه رجل كان يعمل ( شرطي ، او عسكري ) ربما قضى عمرا طويلا في سلك الشرطة ، فمن غير المعقول أن يسلمنا الكاتب إلى انتقالات زمانية ولو جاءت على شكل إيحائي دون قصدية أي بشكل اعتباطي ،
لذا فان البطل يمكن أن يكون قد عاصر التطورات والتغيرات التي شهدتها المؤسسة الامنية في مصر ، فكل فترة زمنية او تحول سياسي تتغير طريقة الاجابة في الاعراف والنظم العسكرية على الاستفسار الصادر من الضابط أو الشخص المسؤول مقرونة بكلمة تمام .. ( كله تمام ) .
((ضحكت من نفسي فانة الببغاء الذى بداخلي ، فما ان يسمع (كلة تمام ) ، ..فينطلق ..( تمام يا افندم )..ثم تحولت الي ( تمام سيادتك ) و (تمام يابية ) و (تمام يا باشا ) ))
وهنا يوضح لنا أنه كان مخلصا في عمله ومتعلقا به و من النوع الذي يؤدي واجبه على اكمل وجه .
3. أنه شخص غريب الاطوار ..فهو لا يحتاج السكين ( ضمن احتياجاته اليومية ) في تقطيع الفواكه او اللحوم ، فهو تلميح ذكي إلى أنه أما كان يعتمد على المساعدات التي تأتي إليه من الجيران في اكل طعامه أو انه يعتمد الطعام الجاهز الرخيص الثمن .او ربما كان يلتقط طعامه من القمامة .للدلالة على فقره المدقع ..
((بحثت في كل زوايا الغرفة عن ( سكين ) ، دون جدوى ، أنه امر محير ، وشيء جدير بان يكون مفاجأة ، كل هذه السنوات وانا لا املك ( سكين ) نهائيا..! ))
4. الشرطي الذي ابلغ عنه بانه شخص مشتبه به هو البطل ذاته فقد كان فيما مضى يبحث عن اولئك الضالين من الفقراء والمساكين الضالين طريق الاستقرار ، ليودعهم في المعتقل .. (بتهمة الاشتباه )
لم يقل الكاتب ذلك مباشرة لكنه أعطى القارئ القدرة على الاستنباط .. والتكهن عما كان عليه بطله
فهو يعيش حالة نكوص وحنين نحو الماضي ، فتمام يا فندي تستحضر حالة الرضا في داخله وهي حالة شعور بالاكتفاء والاستقرار المادي التي كان يعيشها قبل ، فتلك الاستدعاءات الباطنية .. تجدها حاضرة كلما سمع (كلمة كله تمام ) ..
اسباب الانتحار حسب رؤيا الكاتب
ان السبب الرئيسي لمحاولة الانتحار هو الحالة الاقتصادية والفقر المدقع الذي يعيشه البطل ، فرغم انه كان يسكن في ( عشه ) قد لا تصلح لإيواء البشر الا إنه كان غير قادرا على دفع الإيجار حتى وإن كان زهيدا ..وكنوع من الكوميديا السوداء ، فالبطل الساعي إلى قتل نفسه تجده يخاف من سطوة صاحب الغرفة التي يعيش فيها .. فيهرب من الدار ، ما أن تهدم السقف في محاولته الفاشلة بشنق نفسه بالحبل فهو لا يحتمل أن ان يضاف عبئا على اعبائه الكثيرة التي ينوا بها ، إن مثل هذه التراجيديا قد تتكرر في كل مكان من ارجاء وطننا العربي الذي يطفو على بحر من الخيرات لكن الانسان فيه مهمش ، فكل أدواء المجتمع هو مبتلى بها تلك ( الأمراض العضال ) التي لم تفارقنا ( الفقر ، والمرض ، والجهل ) .
إن الكاتب ارتقى سلم الابداع و التمييز من خلال اسلوبه الواقعي السلس ، ومن خلال افراده لحالة اجتماعية إنسانية اصبحت من الظواهر السلبية التي تؤثر على المجتمعات وتعد من اسباب تدني مستواها الاقتصادي ، وهي صرخة مؤلمة بوجه الحكومات التي ما عادت تهتم بالفقير ، ولعل قمة الابداع تكمن في تلك العبارات التي جاءت تحمل في داخلها تهكم قاس ..
(ألا يكفى انني لم ادفع الايجار له منذ ثلاثة شهور حتى اهدم له سقف الغرفة .)
ترك الكاتب النهاية مفتوحة لم يعطنا مفاتيح للحل .. يا ترى هل سيستمر البطل في محاولات الانتحار ؟ ، أم إن إيداعه السجن هو الحل الأمثل لهؤلاء المعدمين .؟ .
اعتقد إن قراءة نص مثل هذا رغم سلاسته ظاهريا ، إلا إنه يتطلب قراءة معمقة و يتطلب وعي وادراك متميز من قبل القارئ .. فهو يحمل اكثر من دلالة ، وإن عمقه يكمن في قدرته على إيصال افكار الكاتب دون تعقيد او تصنع فالمغيب هو صوت الادانة المراد الإعلان عنه ..
...........................
سالم الحميد\ قاص وناقدعراقي